عزل رفح بين محاربة الإرهاب والعقاب الجماعي
عزل رفح
بين محاربة الإرهاب والعقاب الجماعي
رأي القدس
يمثل قرار الحكومة المصرية بعزل مدينة رفح، وترحيل سكانها حدثا استثنائيا، يستدعي ذكريات مؤلمة في الوجدان الوطني للمصريين ترتبط اساسا بالهجرة القسرية امام عدوان خارجي، كما حدث في منطقة القناة عامي 1956، و1967.
وهكذا نصت المادة الثالثة والستون في الدستور المصري، على انه (يحظر التهجير القسري التعسفي للمواطنين بجميع صوره وأشكاله، ومخالفة ذلك جريمة لا تسقط بالتقادم)، لكن يبدو ان المهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء المصري، لم يطلع عليها، قبل ان يصدر قرارا امس ينص على «عزل المنطقة العازلة او «المؤمنة» في مدينة رفح بمحافظة شمال سيناء على الاتجاه الاستراتيجي الشمالي الشرقي للمحافظة، ويتم إخلاء المنطقة الواردة، وتوفير أماكن بديلة لكل من يتم إجلاؤه، وحال امتناع أي مقيم في المنطقة عن الإخلاء الإداري يتم الإخلاء جبريا، على أن يتم تقدير التعويضات المستحقة طبقًا للقانون وفقا للأحكام».
ولا يتعلق الجدال هنا بحق الحكومة المصرية، بل وواجبها في اتخاذ كافة الاجراءات الضرورية ضمن القانون لمحاربة الارهاب، خاصة بعد المجزرة التي أودت بثلاثة وثلاثين جنديا الجمعة الماضي، ولكن بمدى شرعية تلك الاجراءات ونجاعتها، وكذلك تأثيرها على قطاع غزة المحاصر فعلا وينتظر بدء جهود الاعمار، وليس تشديدا للحصار بإغلاق المعبر حتى اشعار آخر.
وبالاضافة الى انتهاك القرار الحكومي بعزل رفح للدستور، فانه يمثل انتصارا معنويا للإرهابيين، والاسوأ انه يمثل عقابا جماعيا لاكثر من عشرة آلاف مواطن، «خيّرتهم» السلطات بين قبول التعويض فالرحيل خلال ساعات أو أن تتعرض منازلهم لقصف جوي، كانوا يسمعون أزيزه طوال ليلة أمس، في مناطق قريبة. «اختيار» كان اقرب الى الإجبار.
ومن المفارقة ان فيديو مسربا انتشر أمس على اليوتيوب اظهر الرئيس عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيرا للدفاع وهو يحذر من خطورة اتخاذ اجراء كترحيل سكان رفح، وقال فيه حرفيا «ان ذلك سيؤدي الى خلق اعداء للجيش والوطن».
وبالطبع فان وسائل الاعلام التي عقدت «مجلس حرب ضد الارهاب» بدورها، لم تجرؤ على ان تسأل ان كان اخلاء رفح يمكن ان يؤدي الى نتيجة سلبية حسب تصريحات السيسي المسربة، والتي اسسها على معايير احترافية بسبب خبرته كمدير سابق للمخابرات الحربية.
ان النظام الذي وجد نفسه في مواجهة غضب شعبي واسع إثر الهجوم الارهابي، اراد ان يتخذ اجراءات تظهر قوته، وقد بدا هذا واضحا في اللهجة العصبية التي ميزت تصريحات السيسي بعد اجتماع المجلس الاعلى للقوات المسلحة السبت الماضي وهي تصريحات رآها كثيرون غير موفقة، اذ بدلا من ان يعتذر للشعب، ويعلن تحمله للمسؤولية، حاول تبرير الهجوم والقاء اللوم على منتقديه قائلا «احنا قلنا ان المواجهة مع الارهاب ممتدة».
اما الاجابة عن السؤال ان كان هذا التحول الاستراتيجي في الحرب ضد الارهاب كافيا لكسبها، فتحتاج الى التوقف عند نقاط مهمة، ومنها:
اولا – ان الهجوم قرب العريش، ليس العمل الارهابي الوحيد الذي ضرب مصر مؤخرا، بل ان منطقة وسط القاهرة نفسها تعرضت لثلاثة انفجارات متطابقة خلال شهر واحد، ما يشير الى خلل في اجهزة جمع المعلومات المنوط بها ان تمنع تلك الهجمات قبل وقوعها اصلا، خاصة في ضوء تكرارها، واستخدامها الاسلحة والاساليب نفسها.
ثانيا – ان الهجوم في كرم القواديس، كما اجمع الخبراء، يمثل عملية عسكرية احترافية، استخدمت فيه قذائف مدفعية ومضادات طائرات، وقوات خاصة عالية التدريب، وليست مجرد عمل ارهابي، ما يستدعي توسيع دائرة الاشتباه (حسب القاموس الجنائي المصري)، والنظر أبعد من رفح، خاصة بعد تأكيدات سابقة من الجيش المصري انه دمر نحو خمسة وتسعين بالمئة من الأنفاق.
ثالثا – ان الاكتفاء باجراءات امنية في مواجهة الارهاب، يمثل خطأ استراتيجيا، حسب التصريحات المسربة للسيسي، والتي اعتبر فيها ان انفصال جنوب السودان انما هو نتيجة لمعالجة القضية امنيا فقط طوال خمسين عاما (..)، فهل يريد النظام ان يضع سيناء على المسار نفسه؟
الشاهد ان الهجوم يكرس اندفاع النظام في الاتجاه نفسه، بمنعه الانتقادات والآراء المخالفة في وسائل الاعلام، بدلا من بلورة رؤية سياسية تعمل على انهاء حالة الاحتقان. كما يزيد اعلان الطوارئ في شمال سيناء لثلاثة شهور من الشكوك بشأن امكانية اجراء الانتخابات في موعدها، بل ان بعض ابواق النظام ربط عقدها بالقضاء على الإرهاب (..).
واخيرا فان النظام الذي لا يحتاج لصناعة اعداء جدد، لا يجب ان يجعل المكافحة الواجبة والمشروعة للارهاب، تتحول عقابا جماعيا لأبناء سيناء الذين لولاهم لما تحقق الانتصار على اسرائيل في العام 1973، او اهل غزة الذين كانوا دائما اشقاء اوفياء حقيقيين لمصر رغم الحصار والمعاناة.