نفحة أندلسية

نفحة أندلسية

الشيخ أحمد جمال الحموي*

سكنت حماة القلب وسكن القلب حماة فكلاهما ساكن مسكون.

 تعشقك يا حماة أمجاد التاريخ، تذوب فيك، أنت على المدى سيف الجهاد المسلول، تارة يقارع التتار، وتارة يتصدى للباطنيين وأخرى يمزق الصليبيين أشلاء؛ القدماء منهم والمحدثين.

مواكب الشهداء منك موصولة لا تنقطع سائرة بلا كلل أو تلكؤ.

أتذكرين يوم جاءك جندُ الإسلام زمن الراشدين ماذا فعلت؟

فتحتِ أبوابكِ من غير قتال، وصافحتِ خيول الفاتحين، وكأنك مع هذا الركب الميمون على موعد، ومعرفةٍ وثيقة ضاربة في أعماق الوجدان.

عجيبٌ أمرك يا مدينة الأبطال!!

عهدي بك أنك قوية عصيّة،

فكم حميت حماكِ،

وأهلكتِ عِداك،

وأذقتِ الغزاة سطوة بأسك،

فمالكِ اليومَ تعانقين هؤلاء القادمين من الجزيرة مهللة مستبشرة؟

رددت جبال الأرض صوت حماة الذي انطلق عالياً يقول: إن هذا إعلان لا رجعة عنه بأن قدري مع الإسلام، فلقد أدركت منذ الوهلة الأولى أن هؤلاء الأطهار أهل للترحاب، وهم الذين يحقّ لهم أن يسودوا بمبادئهم وسمو أخلاقهم كل أرض، وأنا المدينة اللماحة، فكان حرياً بي أن أدرك هذا المعنى وألحظه، ولا غرو بعد هذا أن أسبق المدن إلى هذا الخير، أقسم بربي أن هؤلاء الفاتحين تفيض قلوبهم طهارة ورحمة وعفة وأمانة، فهم مني وأنا منهم لهم أحب وأعشق، وعلى دربهم أمضي وأسير وسأظل وفية لهم أبد الدهر.

ما أروع هذا الكلام وما أعذبه، حقاً لقد صدق الشاعر عندما قال متحدثاً عنك:

كم من قبائل حطّت فيك عابرة        وأنتِ خالدةٌ في مدرج الزمن

حتى إذا جاءكِ الإسلامُ  مؤتلقاً        عانقته  كعناق  الروحِ  للبدنِ

أصيلة أنت يا حماة تنفين الخبث،

لقد أحببتِ الإسلام الصافي الذي لم تلوثه خرافات الفرس ورذائل المجوس، ولم تدنسه مخازيهم وضلالاتهم، أحببت الإسلام النقي الخالص، الذي كان سقاته أكرم جيل وخير أمة أُخرجت للناس، وقد قدّموه إليك بكأس صافٍ شفاف نظيف، ومن المضحكات - وشر البلية ما يضحك - أن يأتي المكر السيئ بأقزام يزعمون أن هؤلاء الصحب الذين رباهم خير الخلق على عينه ليسوا من الإسلام وليس الإسلام منهم، ولقد عرفت الدنيا أن هؤلاء الأماجد هم الذين علّموا الناس الإسلام ونشروه في الأرض، وحموا بيضته، وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيله، واعجباً لأعاجم وأذناب أعاجم، يوزّعون بلا حياء ألقاب الإيمان والكفر على الصحب الكرام، ويجعلون هذا الرهط العظيم فريقين: فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير، وما أقبح أن يقود العميان جماعة المبصرين.

حماةُ أنت الطهر وأنت الحمية والحرية، ما لأرضك اليوم محاصرة مستباحة؟ وما لسمائك مكفهرة واجمة؟ وما لبساتينك عطشى قد ذبلت أزهارها واصفرت أوراق شجرها؟ وعهدي بها ندية ريّانة، وما بال أفواه أبنائك مسلوبة مقتلعة من أماكنها؟ ويلاه ألم يترك الظالم أرضاً ولا سماء ولا شجراً ولا أزهاراً ولا أفواهاً، لماذا لا تبكين؟ أممنوعة أنت حتى من البكاء، ودموعكِ مسروقة مصادرة؟ وهل الحزن والفرح باتا يحتاجان إلى إذن من الذين اختطفوا كل شيء حتى البسمة والدمعة.

لقد هاجرت طيورك بحثاً عن الحرية لكن بقي الكثير من الأحرار، فأنتِ يا حماة معدن الحرية ومنبتها الخصب المبارك، ومن لم يكن حراً فليس من بنيك وأنتِ منه بريئة.

حقاً لقد نزح كثيرٌ من الشرفاء لكن الشرف لم يهاجر ولم ينزح، إنه أصيلٌ فيك أصالة الأرض، وقد كان ولا يزال ممزوجاً بدماء أبنائك: المهاجر منهم والمقيم سواء.

إيه يا حماة خبّريني ماذا فعل الأوغاد أرباب النفوس المريضة؟ قولي فأنا كلّي آذان مصغية؟

لكأني أسمعك تقولين:

إنهم أرادوا الثأر ومحو التاريخ وما علم هؤلاء الأغبياء أن تاريخي لا يمحى فهو مسطور في الصحائف الصادقة، منقوش في قلوب أبنائي، محفور في وجدانهم، مركوز في أعماقهم.

ذكّوا بوحشيتهم المعهودة أحيائي القديمة فأحالوها ركاماً، تلك الأحياء التي يحكي كل حجر منها حكاية، ويروي كل جدار قصة ورواية، وتنطق كل زاوية فيها ببطولة أو ملحمة، ويتحدث كل ركن عن مجاهد وعالم وعابد ناسك.

قبحت نفوسهم، لقد تجسدت سخائمها حمماً حملتها طائرات دفع الشعب ثمنها من دمه لتحميه فراحت تفنيه، وتمثلت قنابل انطلقت من فوهات الراجمات وإذا بها تجعل أحياء كاملة قاعاً صفصفاً، ولم تشتفِ نفوسهم اللئيمة، وما إخالها ستشتفي فالمرض عضال، والداء عصيّ على العلاج، إنهم أعداء العقل والخير والحق أعداء الإنسانية، ولله درّ من قال:

يا  ويحهم  نصبوا  مناراً  من دمٍ        يوحي إلى جيل الغدِ البغضاء

جرحٌ يصيحُ على المدى وضحيةٌ        تتطلبُ    الحرية    الحمراء

تابعت حماة قائلة:

أين حيّ الكيلانية بقواعده المزروعة في النهر، وحجارته الضاحكة الشمّاء، وقاعاته المزخرفة البديعة، التي تأبطها التاريخ وصحبها مئات من السنين؟

لقد فقدت جزءاً عزيزاً من جسدي، وكل حيّ جزء عزيز.

وأين حيّ العصيدة والزنبقي والشمالية والبارودية، والشرقية؟

أتى عليها الحقد الرخيص فلم يبق منها ولم يذر.

صمتت حماة وقد خنقتها العبرة ثم تابعت بحشرجة وألم لا يخفيان على السامع والناظر:

لقد اختطفوا أفاضل العلماء والدعاة والمربين، وداسوا وسحقوا زهرات شبابنا، قطعوا أيدي النساء وآذانهن ليسرقوا حليهن. بقروا بطون الحوامل، أجهزوا على الجرحى، فعلوا ما لم يفعله عدو، نسفوا البيوت وأحرقوها بمن فيها، ثم دفنوا من وجدت جثثهم في قبور جماعية، هذا عدا عن مئات الآلاف من المشردين والسجناء والمفقودين.

لكن لا بأس، اسمحي لي يا حماة أن أقول:

لقد أخرس جهادك ألسنة المجرمين، ولئن خيل لهؤلاء الحمقى أنهم قهروك، إنهم واهمون، وإنني أحسب أن صليل القيود لن يطول أمده، إنه جرس يقرع، وصرخات عنيفة توقظ النائمين والغافلين، وسيحيق دويّ صيحاتك المباركة الهاتفة بشعار التوحيد بكل اللقطاء، وستعود صقورك محلّقة تنقض على الغربان السود ترميها بعيداً من حيث وفدت ولن يستطيع قروم المكر والباطنية إسقاط رايات الفتح، بل ستظل رغم مكرهم مرفرفة فوق الذرى، وفي حبات القلوب وبين الحنايا والضلوع.

إيه يا حماة إنني محب هائم، وكذلك كل من عرف حماة أحبها وفتن بها وملأ رئتيه من هوائها، إلا أن يكون غليظ الطبع لا يعرف الجمال ولا يعشقه، أو يكون عدواً حاقداً.

هذا ابن جبير الرحالة الأندلسي يقول عنك يا حماة وقد مر بك في تطوافه على البلاد:

"حماة فيها نفحة أندلسية"

وإنني أضيف إلى قوله: إن في الأندلس نفحة حموية.

أيها الأحبة، هل تعرفون البرنيوي –ولكل بقعة في حماة سحرها- أقول لمن لا يعرفه إنه مرتفع، انحداره شبه قائم، مطلّ على نهر العاصي عند خروجه من الجانب الشمالي الشرقي من حماة، ويظن من يقف على هذه الرابية المرتفعة أنه في طائرة تحلق على ارتفاع ثلاثين ألف قدم أو أربعين ألفاً، يرنو منها ببصره إلى الأرض فيرى ما يحير العقول ويسبي الألباب.

إن المشهد العام جميل مدهش يعجز البلغاء عن وصفه، وقد لا يحظى الإنسان بمثله في أركان الأرض.

وأما أجزاء المشهد فحدّث ولا حرج. أول ما يلفت انتباهك: النواعير العملاقة السامقة، بأنينها المنبعث من أخاديد الماضي السحيق، وتسأل وأنت تسمعه أهو غناء أم بكاء؟ وتلفتُ هذه النواعير انتباهك بدورانها الدائب السخيّ المعطاء، فكل واحدة منها تسقي –بما تحمله من ماء في صناديقها الخشبية الملتفة على محيطها- ما تقدر عليه من الدور والبساتين، فإذا بالأرض تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.

كم من محزون مسحت حزنه بصوتها، وكم من محموم قد آذته حرارة الصيف، فلما اختار أن يكون في كنفها أنعشه رذاذها وبردها اللطيف، وكأن كل إنسان يجد بقربها وجوارها بغيته وسلواه، ولقد أجاد الشاعر عندما قال متحدثاً بلسان الأشجار التي صارت نواعير دوّارة:

أيها السائل عني-سُلب الراحة مني

كنتُ أُسقى وأُغنى=صرتُ أَسقي وأغني

تعزف النافورة ألحانها الآسرة في دورانها الدائب، فترقص الأشجار لموسيقاها، ويتداخل حفيفها مع نغم الناعورة الرخيم، ويضطرب ماء النهر فتسمع لتلاطم أمواجه واندفاع مياهه أصواتاً سماوية، وتهيج تلك الأصوات الطيور فإذا البلابل تغرد، والعصافير تزقزق، وتمتزج الأصوات لتشكل معزوفة حماة الإيمانية الخالدة.

من تلك الرابية ترى النهر كيف يتلوى ويتعرج راسماً صورة أخّاذة، وقد ازدحمت على ضفتيه جنات معروشات وغير معروشات، فلا يكاد يظهر شبر من أرضها لكثرة أشجارها، وما أبدع ذلك المنظر في فصول السنة كلها!!

في الربيع ترى ما شئت من ألوان الزهر أبيضه وأحمره وأصفره وبرتقاليه، إنها لوحة أبدعها الخالق العظيم حتى ليحسب الناظر أن الأرض مزروعة بالزهر من غير شجر.

وفي الصيف ترى الخضرة الداكنة الزاهية، ولا أبالغ إن قلت إنه ليس في الدنيا خضرة تشبهها في نضارتها وتألقها، فإذا ما دخلت تلك البساتين الجنات رأيت الشجر ينوء بأطايب الثمر وصنوف الفواكه، وما من فاكهة مما يزرع في هذا الجزء من العالم إلا وتجد أجوده في هذه البساتين، ولك أن تقول: أهنا قطعة فريدة من الأرض، أم قطعة على البسيطة تحكي جنة الخلد؟ وإني لأظن أن أمير الشعراء شوقي لو كان رآها لألهمته من الشعر مثلما ألهمه بردى بغوطته وأكثر فكان مما قال:

جرى وصفق يلقانا بها بردى=كما تلقاكَ دون الخلد رضوان

قال الرفاق وقد هبّت خمائلها=الأرض دارٌ لها الفيحاء بستان

والحور في دمر أو حول هامتُها=حورٌ تكشف عن ساق وولدان

أما في الخريف، فأي منظر تراه؟

عندما تطل من تلك الربوة، ترى الأوراق الصفراء تميس يمنة ويسرة مع هبات النسيم كأنها الذهب الخالص يعكس خطوط الأشعة التي ألقتها الشمس عليه فتنسى الدنيا، وتنسى نفسك، أمام جمال المشهد وفتنته الحلال.

ولا تحسبن المشهد في الشتاء أقل سحراً من بقية الفصول، فلكل فصل مزيته، ولكل أوان نكهته وعطره، فإذا دخلتَ أزقة هذه البساتين وهي أزقة ترابية ضيقة يظللها من الجانبين أشجار من الزهر كأنها لم تخلق إلا لحماة وحدها، فما إن تدخلها حتى تسكرك روائح الزيزفون، وعبق البيسلان، وشذى الورد الجوري، فتفيض من القلب على اللسان بلا تكلّف صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مضمخة بالورد والبيسلان، كيف لا وشذاه صلى الله عليه وسلم يخجل الورد وعطر الورد، نعم إنه جمال الطيب يذكر بجمال الحبيب.

أما أسماك النهر التي نعمت دهوراً بمياهه العذبة فهي تصرخ اليوم سائلة ما الذي يحدث؟ إنني أكاد أختنق؟ من الذي لوّث النهر واعتدى على نقائه، ومن الذي سرقه وغوّر ماءه؟

حماة يا حماة!!

لقد حفر النهر في واديك الحاني مجراه، وحفر في قلوبنا حبّه وهواه، فلا المجرى يتغير، ولا الحب ينقص أو يتعثر، قرّي عيناً أيتها الحبيبة، فلابد –مهما طال الزمن- أن يعود للنهر طهره، وللبيسان عبقه وشذاه، وعما قريب سيبسم الورد الجوري وينشر رائحته، وتزغرد أسيجة البساتين خالعة رداء الحزن عندما يأذن الله للأبطال بتحرير كل وردة وزهرة من عهر الباطنية والمتعة والتقيّة الجبانة الملتوية.

إيه يا حماة لن يدركك أبناؤك مهيضة الجناح، مهدمة البنيان، مستباحة الميدان، ولن يرهبهم البطش ولن ينطلي عليهم الخداع والزيف، ولن يغريهم المال المنثور لشراء العقائد، فالحر لا يبيع إيمانه بالدنيا كلها، أفيبيعه بشيء حقير من حطامها؟ (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون. والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)

أنت يا حماة أكبر من أن يبتزك أدعياء محبة آل البيت، وأعقل من أن يصطادك الممثلون المدربون على اللطم والبكاء والشق.

قالت حماة:

اطمئنوا أحبائي فلن أعبد نار المجوس، ولن تلبس مآذني عمامة الصفويين، ولن تكون حرائري إماء في سوق المتعة العفن.

سلام عليك يا حماة ترسله مع كل نسمة تهب عليك جميع الطيور المهاجرة التي تكابد الشوق وتخنقها العبرات كلما تذكرت صحو الربيع ونسماته وأجواء الصيف ونضارته وبهاءه.

قالوا جراحُ النوى في القلب غائرةٌ            ما يُبرئ القلب أو ما يُذهب الكمدا

فقلتُ يومانٍِ في حمص وفي  حلب            ورشفتان من العاصي ومن بردى

               

* نائب رئيس رابطة علماء سورية، عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام.