مقياس الحضارة
عصام أبو الدهب
ما من مجتمع أو أمة ألا ويتمنى أهلها أن يوصفوا بأنهم أهل حضارة وأرضهم مهد الحضارات أو على الأقل ساهموا بشكل ما من الأشكال في إنشاء حضارة من الحضارات وتطويرها.
وللحضارة مظاهرها المتعددة التي لا تخطئها عين الناظر، تراها في المباني الضخمة الراقية، وتشاهدها ماثلة في القصور المشيدة، وتعبق من رحيقها في الحدائق الزاهرة، وتلمسها في مراكز التعليم والثقافة والتنوير، وتحسها في الطرق الممهدة والجسور المعلقة، وتشعر بها إجمالا في مدى رفاهية أبناء هذه الحضارة، وكل هذا وغيره مظهر من مظاهر الحضارة المتعددة التي لا شك أنها تعبر عن المضمون المادي للحضارة؛ المرئي للعين؛ المحسوس باليد.
لكن هناك مظاهر أخرى للحضارة تتمثل في نظامها الأخلاقي الاجتماعي الذي يبرز واضحا في قدرة هذه الحضارة على استيعاب المتناقضات وخلق البيئة المناسبة التي تعمل على احتواء الاختلافات، وفي قدرة أفرادها على التعبير عن آرائهم واعتقاداتهم دون أي ضغوط تمارس عليهم للتبرير أو للمراوغة في التأويل، وهو ما يطلق عليه التعايش والحياة في ظل التسامح.
كما أن من مظاهرها أيضا نظامها السياسي الذي يسمح لأفرادها أن يكونوا على قدم المساواة في التعامل وفي الحقوق والواجبات، وفي كل ما يضمن للإنسان أن يحيى كريما في ذاته.
يبقى السؤال الأهم هنا؛ ما المؤشر أو المقياس الذي نمايز به بين مختلف الحضارات، بحيث يمكن أن نقول أن لهذه الحضارة امتيازاتها عن تلك، وهل ثمة مقياس واضح يمكن من خلاله أن ندعي أن هذه الحضارة تسير في طريق الصعود أم أنها بلغت ذروتها وبدأت في رحلة الهبوط والاندثار أو التلاشي.
الإجابة عن هذا التساؤل تفتحا بابا واسعا إلى دراسة جميع الحضارات الإنسانية والبحث عن هذا المقياس أو المؤشر المنوط به قياس مدى تحضر هذه الحضارة عن تلك، إذ ليست كل الحضارات ذات درجة واحدة من الرقي والتمدن، فبعضها برغم ما تركته من آثار وشواهد تدل على مدى تمتعها بكم هائل من المعرفة العلمية أنجزت من خلالها الكثير من مظاهرها المادية إلا أنها كانت في بعض جوانبها غير متحضرة وغير إنسانية، لذلك اندثرت سريعا ولم يبق منها غير هذه الظواهر المادية فقط.
فما هو هذا المعيار الذي من خلاله يمكن الاحتكام إليه والموازنة بين هذه الحضارات المختلفة، هل هو إنسانيتها في أبعادها المختلفة؟! أم ثروتها المادية في تنوعها؟! أم في درجة رقيها الأخلاقي في تعاملها مع الفئات الضعيفة المتمثلة في الفقراء وأصحاب الحاجات والعمال والأقليات وغيرها ممن لا يملكون قوة يأخذون بها ما يعتقدون أنه حق لهم.
في ظني أن كل هذه العوامل هي معايير ومقاييس يمكن بها أن نتعرف بها على مدى التحضر والمدنية التي تتمتع بها، ولكنها في النهاية فضاضة واسعة، غير محكمة ولا دقيقة في المقارنة بها، بل أنها في أحيان كثيرة قد تكون مضللة وضاربة في الأوهام والخيال.
إذن لا بد من إيجاد الكلمة المفتاح التي نفتح بها الباب الصحيح للإجابة عن تساؤلنا، ما أتصوره أن هذه الكلمة تتمثل في " الأمن " فبه وحده يمكن أن نفاضل بين الحضارات فما فائدة المباني الفخمة التي يسكنها الخوف، وما أهمية الطرق المرصوفة ما دامت لا تسير فيها إلا والرعب يملكك، وما قيمة المسرح والصحافة ووسائل الثقافة والمعرفة كافة إن كانت لا تحمل ما تؤمن به وتتصوره، وعموما؛ ما يمكنك أن تعيش متمتعا بمظاهر حضارية مهما كان بريقها وأنت مسكون بالرعب الذي يجعلك زائغ البصر في اتجاهاتك جميعا ترقبا لتوقعات سيئة، أو تعيش على حافة الخوف فتهرب في داخلك منطفئا رغم الأنوار الباهرة التي تحيط بك.
لا شك عندي أنه بالأمن وحده يمكن للإنسان أن يحقق ما يريد وأن يشعر بكينونته وإنسانيته في جميع أبعادها مهما كانت درجة الحضارة والرقى، فالذي يحيا آمنا مطمئنا في أقصى العالم فحياته أكثر تحضرا من هذا الذي يتوسد الخوف ويلتحف بالقلق ويستيقظ مغتربا ويفكر هروبا من تحديات حضارته التي صنعها.
وقد أكون مبالغا فيما أقول، ولكن أوسع من درس الحضارات الإنسانية وألف فيها أكبر الكتب في القرن العشرين قد توصل إلى هذه النتيجة حيث يقول (وول ديورانت في الجزء الأول من قصة الحضارة): " الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي وتتكون من عناصر أربعة هي: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، والعلوم والفنون.
وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها.
هذه هي قيمة الشعور بالأمن والإحساس بالسلام؛ ومن غيرهما فلا سبيل إلا حضارة كاملة إلا في بعض مظاهرها المادية.