الوطن والمواطن في صحيفة المدينة

د.خالد الأحمد *

تمهيد :

يقول الدكتور يوسف القرضاوي يحفظه الله :

......والأخوة الوطنية دليلها من القرآن الكريم ، عدة آيات تصرح بالأخوة في الوطن، منها قوله تعالى :{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106]، وأمثالها كثير .

انتهى كلام القرضاوي .

ويبدو لي أن مصطلحات ( وطن ، ومواطن ، ومواطنة ) جديدة على كثير من الدعاة المسلمين ... وكي نمر بسـلام في هذه الدنيا إلى الآخرة دار القرار نحتاج وطنـاً نعيش فيه ، وسيكون لنا فيه جيران ، وشركاء ، وقد لايكون في مقدورنا انتقاء هؤلاء الجيـران وهؤلاء الشـركـاء ، ننتقيهم كما نريد ونرغب ، بل يفرض وجودهم فرضاً بطبيعة الواقـع ، كما هو واقع المسلمين منذ فجر التاريخ حتى هذه الساعة ، وفي كل مكان ، كنت تجد المسلمين  مع ( غير المسلمين ) يعيشون في وطن واحد ...

وبين يدي كتاب اسمه ( النبي صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة )  للأستاذ الدكتور محمد بن فارس الجميل ، الأستاذ في قسم التاريخ ـ كلية الآداب ـ جامعة الملك سعود بالرياض ، نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ، عام (1422هـ / 2002م) .

يقع الكتاب في ( 329ص) من الحجم العادي أو الكبير ، وسوف أنقل منه بعض المقاطع التي أراها تهمني للتعرف على حقوق المواطنة في الصحيفة ... [ ومابين هاتين المعقوفتين للباحث الحالي ] ...

[ صحيفة المدينة حررها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً ، التي نظمت العلاقة بين المهاجرين والأنصار واليهود والمشركين في المدينة ، وربما تكون أول دستور يكتب عند العرب ... وهذه البنود المتعلقة باليهود الواردة في صحيفة المدينة ]:

ثانياً: البنود المتعلقة باليهود فيما بينهم وبين المؤمنين :-

5- ( ينفق اليهود مع المؤمنين ما داموا محاربين). وهو يتعلق بدفع قسط من نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة.

6- ( أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، وأن لبقية اليهود من بني النجار وغيرهم ماليهود بني عوف، إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يهلك إلا نفسه) .وهذا البند يحدد العلاقة بين اليهود وبين الفئة المؤمنة، ويعتبرهم جزءاً من مواطني الدولة الإسلامية ، لهم ما للمسلمين من حرية العبادة، [ تساوي في الحقوق ]ويكفل لهم حريتهم الدينية ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم.

7- ( لا تُجار قريش ولا من ناصرها ) وهو لايسمح لليهود والمشركين بمحـالفة قريش وغيرها من القبائل المعادية للإسلام.

8- ( لا يخرج من يهود أحد إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا البند يمنع اليهود من القيام بأي نشاط عسكري ضد المؤمنين، خارج عن نطاق وحدود المدينة، مما قد يؤثر على أمن المدينة واقتصادها.

9- ( إن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصر للمظلوم). ( انظر :

http://www.ala7ebah.com/upload/showthصلى الله عليه وسلمead.php?p=318033) ....

ونعود إلى كتاب الدكتور محمد بن فارس الجميل يقول في ص (63) : ذكر المقريزي ( ت 845هـ) في ( إمتاع الأسماع ) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وادع ) من بالمدينة من يهود وكتب بذلك كتاباً ....  ومفهوم المـوادعة : الصـلح والســلم ، كما جاء في ( النهاية في غريب الحديث ) : أنه وادع بني فلان أي صالحهم وســالمهم على ترك الحرب والأذى .

وفي ص (70) يقول الباحث : لقد أقرت الصحيفة المسلمين من قريش( المهاجرون )، وأهل يثرب ( أنصار ، يهود ، مشركون) على عاداتهم وأعرافهم القديمة التي لاتتنافى مع روح الإسلام ومبادئه ، كما أقرت مبدأ العقوبات والديات وعقود الصلح والحرب ، وشــددت على الجـوار وحـرمتـه ، ويظهر من هذا النص أن المشركين من أهل المدينة أصبحوا طرفاً في هذه الصحيفة .

وبنود هذه الصحيفة مبنية على نصوص ثابتة، وقواعد شرعية، ومصالح معتبرة، منها قوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } (الممتحنة:8). وقوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم ، لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ) رواه الإمام أحمد و أبو داود وصححه الألباني .

 والمتأمل في بنود هذه الوثيقة يدرك مدى العدالة التي اتسمت بها معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود، وإسقاط كل الاعتبارات الطبقية والجاهلية، وترسيخ المبادئ الإسلامية، كما أنها اشتملت جميع ما تحتاجه الدولة، من مقوماتها الدستورية والإدارية، وعلاقة الأفراد بالدولة، وعلاقة بعضهم ببعض.

 ولقد كان بالإمكان أن تؤتي هذه الوثيقة ثمارها مع اليهود لولا طبيعة الغدر والخيانة فيهم، حيث سلك اليهود وسائل عدة ومتنوعة للكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه، وهدم دعائم الدين الإسلامي، إلا أن وسائلهم التي اتخذوها باءت بالفشل، والسبب يرجع إلى حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وحنكته في إدارة شؤون الدولة.

              

*كاتب سوري في المنفى باحث في التربية السياسية.