التعددية السياسية في السياسة الشرعية 2

التعددية السياسية في السياسة الشرعية

(2)

دندل جبر

ينقسم ممن قالوا بجواز التعددية إلى قسمين :

ـ أصحاب الاتجاه الأول : يرون مشروعية التعددية السياسية في إطار المشروعية الإسلامية العليا ، أي في إطار الالتزام بسيادة الشريعة وعدم الخروج على أصولهاالثابتة .

ـ أصحاب الاتجاه الثاني : يرون مشروعية التعددية السياسية بإطلاق ، أي عدم وجود قيود على مجالها السياسي .

وقد بحثنا في المقال السابق في رأي أصحاب الاتجاه الأول ، وسنبحث في هذا المقال رأي أصحاب الاتجاه الثاني بالإضافة إلى بحث موجز عن تداول السلطة سلمياً .

إن أصحاب الاتجاه الثاني : يرون أن التعددية السياسية لا تقف حدودها عند الالتزام بسيادة الشريعة ـ كما هو الحال عند أصحاب الاتجاه الأول ـبل بفتح الباب على مصراعيه أمام التعددية السياسية ، ويرون أن المذهبية الإسلامية تستوعب إطلاق التعددية إلى أبعد مدى حتى تشمل الأحزاب الشيوعية الإلحادية والعلمانية وغيرها ومن أبرز المنادين بالتعددية على هذا النحو من الحركات الإسلامية في واقعنا المعاصر (حركة الاتجاه الإسلامي في تونس : حركة النهضة) وقد مارست هذه الحركة هذا التوجه فعلاً بعد الثورة وقد أطاحت بابن علي في تونس .

وقد جاء في البيان التأسيسي لهذه الحركة أن من وسائل الحركة لتحقيق المهام المنوطة بها ما يلي :

" رفض مبدأ الانفراد بالسلطة (الأحادية) لما يتضمنه من إعدام لإرادة الإنسان وتعطيل لطاقات الشعب ودفع البلاد في طريق العنف ، وفي المقابل إقرار حق كل القوى الشعبية في ممارسة حرية التعبير والتجمع وسائر الحقوق الشرعية والتعاون في ذلك مع كل القوى الوطنية " (نقلاً عن التعددية السياسية وتداول السلطة في السياسة الشرعية ـ دندل جبر ط 1 ـ 1427 هـ ـ 2006 م ـ دار عمار ـ عمان ـ ص121)

ـ دواعي التعددية السياسية : (انظر : المصدر السابق ـ ص185 ـ  186)

لابد لكل أمر يراد له القبول أن تكون هناك دواع لهذا القبول ، ومن دواعي قبول التعددية السياسية ما يلي :

1 ـ إن التزايد الهائل في إعداد الناخبين الذي صاحب مبدأ الاقتراع العام في القرن التاسع عشر دعا إلى ظهور الحاجة إلى تنظيمات شعبية يتجمع حولها الناخبون .

فقامت الأحزاب السياسية التي تقوم بتحديد الأهداف العامة ومناقشة مشاكل الجمهور ، ووضع البرامج التي تعالج بها هذه المشاكل وتعمل على استقطاب أكبرعدد من أصوات الناخبين لصالح مرشحيها بهدف الحصول على أغلبية المقاعد البرلمانية لتتمكن من تشكيل الحكومة .

2 ـ الأحزاب أكثر التصاقاً بالشعب بل هي من الشعب ، فالآراء والمقترحات التي تتقدم بها هذه الأحزاب للحكومة تنم عن نبض الشارع الشعبي ، مما يساعد الحكومة على دراسة هذه الآراء والمقترحات لاتخاذ القرارات المناسبة بشأنها .

ومن جانب آخر ومن خلال الصحافة التي تسخدمها هذه الأحزاب واجتماعيات لجانها وفروعها المختلفة والبيانات التي تصدر عنها فإنها تفسر لجمهور الشعب تصرفات الحكومة ، فتارة تؤيدها وتبررها ، وتارة تنتقدها وتعارضها ، فهي وسيط بين الحكومة والشعب وكشف كل منهما ـ فيما يريد ـ على الآخر .

3 ـ الاختلاف في الرأي أمر طبيعي وعلام صحة ، وتفاوت المدارك سنة من سنن الله في الخلق ، وفطرة فطر الله الناس عليها ، قال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفون) (هودـ118) والكون قائم على أساس الاختلاف ، بل إن الاختلاف مصدر للثراء الفكري وعون على التصحيح إذا أدير بكفاءة وروعيت فيه شروطه وآدابه ..

واختلاف المدارك والقدرات يؤدي إلى أن يختلف الناس في أفكارهم وآرائهم في الإصلاح والتغيير وقضايا الوطن والأمة ، فمن المستحيل أن يكونوا نسخاً مكررة .

من هنا لابد من التعددية التي تعبر ببرامجها كل على نهجه وفهمه في الإصلاح والتغيير وقضايا الوطن والأمة .

4 ـ إن هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا العصر ، لأنه يمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم وتسلطها على سائر الناس وتحكمها في رقاب الآخرين ... وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وإذا لم تكن التعددية السياسية فمعنى ذلك وجود الأنظمة التسلطية القائمة على حكم الفرد أو حكم الحزب الواحد ، التي أذلت الأمة وسامتها سوء العذاب ، وأطاحت بها في وهاد الفساد والتخلف ،وصادرت الحريات وكممت الأفواه ، وغيبت الوعي وألحقت بالأمة كثيراً من النكبات والويلات ، بل إن بعض هذه الأنظمة استهانت بأرواح المواطنين وأعراضهم وأموالهم وكراماتهم فعاثت في البلاد فساداً .

تداول السلطة (انظر المصدر السابق ـ ص195 ـ 196)

إن النتيجة الطبيعية للتعددية السياسية في المجتمعات الدولية هي تداول السلطة بين الأحزاب التي تمثل هذه التعددية ، وإن لم يكن الأمر كذلك فلا معنى لهذه التعددية ، لأن من طبيعة هذه التعددية أن تقوم الأحزاب بطرح برامجها وآرائها على الشعب ليطلع عليها ويناقشها ويوازن بينها ليختار منها مايراه الأنسب لتحقيق مصالحه العامة والوصول إلى طموحاته وتطلعاته ، وبهذا الاختيار يتحقق تداول السلطة وتبادلها سلمياً بين هذه الأحزاب ، وجل أحزاب الحركات الإسلامية المعاصرة والمفكرين الإسلاميين المعاصرين قالوا بهذه التعددية التي تقوم على أرضية إسلامية ، وبتداول السلطة سلمياً على أساسها وقالوا بوجوب احترام القواطع الإسلامية التي تعد من ثوابت الأمة .

دواعي تداول السلطة : (المصدر السابق ـ ص198 ـ 200)

1 ـ إن التعددية السياسية وتداول السلطة سلمياً الذي يقوم على الاختيار من قبل الشعب عبر صناديق الاقتراع هو السبيل السليم والأفضل لحل إشكالية الصراع على السلطة وضمان استقرار الوطن وأمنه والحفاظ على استقلاله وحماية وحدته ، وإذا لم يتمكن الشعب من استبدال المعارضة بالحكومة في تولي أمر السلطة عن طريق الانتخابات والأنظمة المشروعة ، فقد يدفعه ذلك إلى سلوك الأساليب الملتوية وغير المشروعة في تغيير الحكومات بما تنطوي عليه هذه الأساليب من مخاطر ومضار .

2 ـ وإذا لم تكن التعددية وتبادل السلطة عن طريق صناديق الاقتراع فإن البديل هو إما حكم الفرد وإما حكم الحزب الواحد ، وكلاهما حكم يغري بالاستبداد والاعتداء على الحريات العامة ، وسوء التصرف المالي والفساد الإداري ، لأن الحاكم لا يجد رقيباً على تصرفاته ولا حسيباً له على تقصيره وتفريطه ... وفي حكم الفرد تغيب الشورى وفوائدها ، وتضعف شخصية الأمة وتطغى شخصية الفرد ... ويبدأ مرجل الحقد يغلي في الصدور فتنشأ التنظيمات السرية التي تعمل تحت الأرض وتسلك أساليب قد لا تكون مناسبة في الإصلاح والتغيير ، بل الغالب أن تكون وسائل الحاقدين غير مناسبة ولا مسؤولة فينتهي الأمر إلى ثورات دموية وانقلابات عسكرية تسفك فيها دماء غزيرة وتزهق فيها أرواح بريئة وتتمزق الأمة شر تمزيق ، ويكثر الهرج والمرج ، ويستفحل الأمر ، ويصعب الرتق على الراتق .

3 ـ في التعددية والتداولية عن طريق صناديق الاقتراع تحقيق لاستعمال الشعب حقه في اختيار من ينيبه من الأطراف الوجودة على الساحة بحرية لتحقيق مصالحه العامة وتطلعاته وأمانيه التي ينشدها ، ولم يحرم من هذا الحق الذي أوجبه له الإسلام والأنظمة الديمقراطية .

4 ـ تأمين حق المشاركة في الحكم ، فإن استبداد الحكم الفردي أو استبداد حكم الحزب الواحد يمنع أطياف المجتمع من المشاركة في الحكم لاحتكاره السلطة ومنعها من الآخرين ، وأما في التعددية والتداولية فإن حق المشاركة في الحكم تحصيل حاصل سواء كانت نتيجة أن حصل على الأكثرية فيها حزب واحد من الأحزاب المتنافسة أم لم يحصل ، وكثير من الحالات تتآلف بعض الأحزاب بينها بعد الانتخابات لتشكيل حكومة موحدة تشكل الأكثرية في المجلس النيابي ..