ثقافة الديمقراطية والدور الإيجابي للمعارضة

د. نيفين عبد الخالق

د. نيفين عبد الخالق

[email protected]

شغلت قضية التزام المواطن بطاعة السلطة الفكر الإنسانى عبر قرون عدة، و عبر تلك القرون بذلت العديد من المحاولات من أجل الإجابة عن التساؤلات التى تثيرها تلك القضية، وكان من نتيجة ذلك أن نجحت بعض المجتمعات فى الوصول إلى صياغة حياة سياسية و نظام للحكم يعترف للأفراد و الجماعات بحق  المعارضة السياسية وفقا لقواعد لعبة سياسية تتبادل فيها الأدوار بين طرفين: حكومة و معارضة، وينظمها القانون. فالمعارضة ظاهرة موجودة فى المجتمع سواء اعترف بها أو لم يعترف بها. و كبديهية أولية لايمكن لأى نظام أن يرضى جميع من يحكمهم، فدائما بشكل أو بآخر  توجد المعارضة. هذا من ناحية، و من ناحية أخرى فإن شرعية المشاركة الشعبية فى الحكم أصبحت من المسلمات المتفق عليها فى عصرنا هذا، فلقد مضى إلى غير رجعة ذلك العصر الذى ينظر فيه إلى شخص الحاكم على أنه مقدس و أن مجرد التفكير فى معارضته تعتبر خيانة تستوجب المساءلة والعقاب، وكانت الديمقراطية كنظام و رؤية للحكم من أكثر النظم قبولا، والتى صاغها الإبداع الإنسانى فى تطوره من نظم الحكم المستبدة إلى نظم الحكم المنفتحة على شعوبها، والتى ترسي حق الشعب فى اختيار من يمارس السلطة كأمانة ومسئولية تخضع للرقابة و المساءلة من قبل الشعب و ممثليه الذين يختارهم بحرية ونزاهة يحددها القانون فى عملية معروفة بالإنتخابات التى نشاهد وقائعها ليل نهار عبر الفضائيات التى أصبحت سمة من سمات حياتنا المعاصرة، كما أصبح لا يوجد نظام حكم يمكنه أن يجاهر برفض الديمقراطية أو بعدائه لجمهور الناخبين، أو مصادرته للحريات الأساسية التى تكفلها الشرائع السماوية والقوانين والأعراف الدولية، فلقد أصبحت ثقافة حقوق الإنسان من التعابير المتداولة التى لايمكن لأى نظام المجاهرة بعدم احترامها.

وأحد الثقافات الهامة التى تبرز الحاجة الماسة إليها فى ظل عملية الحراك السياسى و الإجتماعى الذى تشهده مصر حاليا - والذى تتردد ضمن فعالياتها مطالب عدة بضرورة التغيير - هى ثقافة الديمقراطية، حيث لايمكن المطالبة  بالديمقراطية، واعتبار أنها الحل السحرى لكل مشاكلنا المستعصية والتى تنوء عن الحصر، ونحن نسمع ليل نهار أن الديمقراطية هى أن تقول رأيك وتستمع إلى الرأى الآخر، هكذا وببساطة لاتخلو من الإجتزاء المخل، تم اختصار العملية الشاملة والمتكاملة التى تنتج نظاما ديقراطيا وحياة ديمقراطية سليمة ومعافاة،إلى عملية شكلية أقل بكثير من الطموح المجتمعى الذى ينشد تغيير حقيقى يدفع به إلى مصاف الأمم الحية، وإلى مكانة تليق بمصر و بالمصريين، ولنا فى البداية كلمة عن التغيير،ثم نتناول بعدها بعض معالم الثقافة الديمقراطية و الدور الإيجابى للمعارضة.

وبداية نجد أن قيمة التغيير تجد قبولا واسعا كقيمة مطلوبة لذاتها، وكسنة طبيعية من سنن الحياة التى لاتهدأ ولاتسير على وتيرة واحدة، فدوام الحال من المحال، ولولا تعاقب الليل والنهار، والحزن والفرح، والصحة و المرض، لما شعر الإنسان بقيمة الحياة ، ولما كان للجهد والإرادة الإنسانية دورا فى تحسين الإنسان لحياته، وفى قدرة المجتمع ككل مكون من مجموع أفراده على الإنتقال من حال إلى حال.                                    

ناحية أخرى نشير إليها تلك المتعلقة بأن المطالبة بالتغيير لاتعنى بالتبعية ذم الواقع الموجود أو عدم الاعتراف بأى إنجاز له أو سلبه أى قيمة إيجابية، فقد جرت العادة على ذكر المساوىء فقط إنطلاقا من المقولة الدارجة بأنه "لاشكر على واجب"،لذا وجب التنويه إزالة للحساسية التى قد يستشعرها البعض من حديث التغيير أو من ثقافة الديمقراطية.      

   وأحد المعالم الأساسية لحديث التغيير ولثقافة الديمقراطية هو الانتقال السلمى للسلطة، وقدرة النظام الديمقراطى على استيعاب القوى الجديدة دون عنف، وهذا لايتحقق من دون وجود آلية لتداول السلطة يكفلها الدستور وينظمها القانون، وفى ظل الثقافة الديمقراطية يعتبر طلب السلطة أو السعى للوصول  إلى السلطة  أمرا مشروعا طالما أنه يمارس طبقا للقواعد والإجراءات  الديمقراطية، بل إنه أحد الخصائص المميزه للأحزاب، فكل حزب يعرض برنامجه ويسوق له بالطرق المشروعة، ويحتكم للشعب فى صناديق الاقتراع، ويتولى الدور الذى تفرزه نتيجة الانتخابات إما أن يكون فى الحكومة أو يكون فى المعارضة وكلاهما سلطة، وله دور فى الحياة السياسية. والمواطن هو الحكم فى هذه العملية ، هو الناخب صاحب الصوت الإنتخابى، الذى يملك الثواب والعقاب، يكافىء المصيب فيعطيه صوته، ويعاقب المخطىء فلايمنحه صوته، ولذلك يحسب لصوت الناخب ألف حساب، وتكون مصلحة المواطن صاحب الصوت الإنتخابى لها الأولولية لأن تجاهلها أو سن قوانين تتعارض معها سوف يلقى عقابه عند صناديق الاقتراع.

 هكذا نجد أن احترام المواطن سمة أساسية من سمات الثقافة الديمقراطية التى تتميز بالإضافة لما سبق بالقدرة على استيعاب منطق التغيير، وبوضع آلية تكفل التداول السلمى للسلطة، وهذه الثقافة لاتجد مناخا ملائما إلا فى مجتمع يتميز بالحيوية التى يعبر عنها حراك اجتماعي وسياسي نشط، أما المجتمعات الراكدة التى تعيش حياة كسيحة لاحياة فيها ولا إبداع فعسير عليها أن تنمى ثقافة تقبل بالديقراطية بخصائصها المعروفة من تداول سلمى للسلطة، و رقابة عليها، واستيعاب سلمى للقوى الجديدة فى المجتمع، والاحتكام للشعب فى انتخابات حرة ونزيهة. فى مثل هذه الثقافة تنمو المعارضة الإيجابية التى تقوم بدور لاغنى عنه للمجتمع، فهى بمثابة الجهاز المناعى فى الجسم المعافى السليم الذى يتولى مقاومة كافة ما يعترض الجسم من مؤثرات تضر به.

المعارضة بهذا المعنى لها دور إيجابى ومطلوب للحفاظ على سلامة المجتمع والدولة، و المجتمع الذى لايتمتع بهذا النوع من المعارضة لايتمتع بالحماية التى يكفلها الجهاز المناعى فى الجسم السليم، المعارضة الإيجابية هى صوت الضمير لمن بيده السلطه، ولمن هو خارجها، بمعنى أن الثقافة الديمقراطية تتضمن قاعدة معروفة بأنها "ثقافة الفعل الذاتى" (do it by yourself) ويكفى لفهم هذه القاعدة الإشارة إلى التقليد المعروف فى الديمقراطيات العريقة ، وهو أن المسئول يبادر بالإستقالة حين يقع خطأ فى دائرة مسئوليته حتى وإن لم يكن هو بصفته الشخصية مسئول عنه ولكنها المسئولية الأخلاقية التى تصل بصاحبها إلى التخلي الطوعي عن السلطة.

وهذا التخلي الطوعي عن السلطة لايأتى فقط من موقع تحمل المسئولية عند وقوع خطأ أو أخطاء ما، ولكنه قد يأتى أيضا من شخص حقق إنجازات و نجاحات و لكنه يشعر بأنه قدم ماعنده  و لم يعد لديه مايمكن أن يضيفه إلى رصيده الملىء بالإنجازات، أو أنه يريد أن يستريح بعد رحلة عمر مليئة بالعطاء فيتخلى طوعيا عن السلطه، و أمامنا مثل مهاتير محمد رائد الإصلاح  والطفرة الإقتصادية و رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، و هذا السلوك الطوعي هو واحد من المعالم الهامة للثقافة الديمقراطية.  و مثل هذا السلوك لا يأتى مصادفة أو بمبادرة فردية من قبل من يمسك بزمام السلطة أيا كان موقعه فيها، ولكنه سلوك معبر عن قيمة أساسية ضمن الثقافة الديمقراطية، و هى  المساءلة و المساواة أمام القانون سواء لمن بيده السلطة أو لمن هو خارجها، و لذلك تصبح السلطة و الحكم مغرما لامغنما، وواجبا ومسئولية، لا مزية أو إمتياز.

وهناك قيمة أخرى أساسية ضمن الثقافة الديمقراطية و هى قيمة الحرية، وهذه القيمة  تتضمن عديدا من الحريات السياسية، و الإقتصادية، والإجتماعية. و سوف نتناول منها ثلاثة فقط و هم: حرية لقمة العيش، و حرية المعرفة و الوعى، وحرية الرأى و التعبير. ذلك أن حرية لقمة العيش لاتعنى بالضرورة أنه لاثقافة ديمقراطية فى مجتمع الفقر، فالفقر فى حد ذاته لا يشكل العقبة الأساسية فى طريق الديمقراطية،فهنالك مقولة تدعي أنه من الممكن تحقيق الديمقراطية فى مجتمع جميع أفراده من الفقراء، ولكن العقبة تحدث حينما يكون هناك تفاوت كبير فى الثروة و الدخل وفوارق ضخمة بين الطبقات، حينئذ تحتكر قلة من الأغنياء الثروة و الموارد السياسية من القوة و النفوذ، و يكون فى مقدورها بالطبع شراء أصوات الفقراء  فى مقابل كيس من اللحم أو ثوب من القماش أو مبلغ من النقود. كما أن ذلك يعنى بالطبع أن الأقوياء الذين يحتكرون الموارد السياسية من القوة والنفوذ سيتحكمون فى أصوات الضعفاء، فلا حرية لأصوات الناخبين بدون حرية لقمة العيش، و بدون توزيع عادل للثروة ومصادر القوة و النفوذ فى المجتمع بما يكفل من حدوث توازن يسمح بتبادل الأدوار و تداول السلطة بين طرفين متكافئين: حكومة قوية، ومعارضة قوية.

ومما لاشك فيه، أن حرية المعرفة والوعى والتحرر من الجهل أمر لابد منه لتكوين ثقافة الديمقراطية، فتدنى الوعى وسيادة الجهل والافتقار إلى المعرفة يفرغ العملية الديمقراطية من جوهرها ويحيلها إلى شكل لاروح فيه ولامضمون، فالوعى بأهمية المشاركة السياسية و بقيمة الصوت الإنتخابى، و بأن الطريق إلى رغيف العيش وأنبوبة البوتجاز وكيلو اللحم يمر عبر صناديق الإقتراع، ذلك الوعى المتدنى أوالمفقود يجعل المواطن فى حالة عزوف عن المشاركة لأنه ليست لديه ثقافة ديمقراطية و وعى بأهمية هذه العملية، وأنها تمس حياته اليومية ومتطلباته الأساسية، أيضا احتكار الثروة والموارد السياسية أو عدم التوزيع العادل لها يجعل المعارضة إن وجدت بشكل علنى ومقنن(الأحزاب)، معارضة مظهرية سلبية تبحث عن مصالحها الأنانية و لاتعبر عن ضمير الجماعة أو القاعدة العريضة من المجتمع، وحين نذكر التجربة الحزبية فيما قبل ثورة يوليو1952، نجد أن الثورة عابت على تلك الفترة سيطرة رأس المال على الحكم، واعتبرت ذلك الوضع مفسدا للحياة السياسية، وجعلت من بين أهدافها الستة إقامة حياة ديمقراطية سليمة. ومما لاشك فيه أن تلك الفترة من تاريخ الحركة الوطنية المصرية فترة غنية برموزها وقادتها وزعمائها من رواد العمل الوطنى الذين أدوا أدوارهم وفقا لمتطلبات العمل الوطنى فى تلك المرحلة، على الرغم مما قد يوجه إليها من نقد أو قصور.

بقى أن نتحدث عن حرية الرأى والتعبير كمتطلب أساسى لثقافة الديمقراطية، و إحقاقا للحق فإن القدر  الحالى المسموح به من تلك الحرية هو أكبر بكثير من فترات سابقة، إلا أن هذه الديمقراطية "الصوتية" أصبحت لاتكفى، لقد استوعب المجتمع هذا القدر من الحرية وأصبح فى حاجة إلى المزيد، فلا يكفى أن تقول رأيك وتستمع إلى الرأى الآخر، وماذا يفيد أن تقول وتستمع ويبقى الحال على ماهو عليه، لقد قال عنا أعداؤنا أننا ظاهرة صوتية إن قلنا ظننا أننا فعلنا، وهذا الشكل من الديمقراطية الصوتية التى قالوا عنها أنها ديمقراطية "الصراخ و العويل" هو الذى أثمر مانعيشه من حياة سياسية مليئة بالكلام وكشف العورات ومظاهر الفساد، والحديث عنها والوقوف عند هذا الحد.

إن مصر العظيمة وشعبها المكافح صاحب أعرق حضارة فى التاريخ لهو جدير بأن ينعم بحياة  ديمقراطية سليمة ومعافاة، ديمقراطية كاملة غير منقوصة،بدون أى إجتزاء يجعلها شكلا بلا مضمون،وكيان بلا روح،وبلا وعى، وبلا ثقافة. فالديمقراطية هى كل لايقبل الانتقاص أو الاختزال، وهى عملية متكاملة لاتستغنى بحال من الأحوال عن المضمون والوعى والروح، وعن الثقافة الديمقراطية.