عندما تتحول الأقوال إلى أفعال

عندما تتحول الأقوال إلى أفعال

خليل الجبالي

[email protected]

جاء الإسلام الحنيف بأوامره ونواهيه وأخلاقياته وسلوكياته متوافقًا مع الفطرة البشرية التي فطرها الله - سبحانه وتعالى - حتى يتمكن الناس من تحقيق ما أمرهم  الله به ، ليكون دينًا واقعيًّا قابلًا للتطبيق على أرض الواقع، وليس أفكارًا تملأ عقولَ البشر وتشغلهم دون تحقيقها.

فسموُّ الأهداف والنصوص يتحقق عندما يكون لها تأثير فعَّال في قلوب الناس، وتلمس جوارحهم ومشاعرهم ، وتصبح واقعًا ملموسًا، يستفيد الناس منها، فتُسعدهم في الدنيا، وتكون لهم أجرًا وجزاءً في الآخرة.

والمناهج والنصوص مهما كانت سامية لا يكون لها تأثير فعَّال إلا إذا تحولت إلى واقع يتحرك ، ويترجم الأفكار والمعتقدات إلى  تصرفات وسلوك.

فحاجتنا إلى القلوب العامرة بالإيمان ليست دون حاجتنا إلى الرءوس المشحونة بالمعلومات ، وحاجتنا إلى النفوس المؤمنة العاملة بإيمانها أكثر من حاجاتنا إلى النفوس العابدة التي تنفع نفسها ولا تدفع الضرَّ عن غيرها : [وَالْعَصْرِ (1) إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إلاَّ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)][سورة العصر ].

وتقدُّم الأمم يقاس بقدر التزامها بالقيم والمبادئ، وتمثلها بالأخلاق والسلوك، فمهما تقدمت الأمم في العلم والمعرفة والتكنولوجيا والحضارة ولا تستند إلى الأخلاق الحميدة والسلوكيات الطيبة فهي إلى زوال وإن تعالت في البنيان ، أو سيطرت بقوتها على البلدان .

فالتربية السوية هي التي تعمق في نفوس أفرادها الفكرة، وتيسِّر لهم الوسيلة لتطبيقها حتى تصبح نموذجًا واقعيًّا يمشي على الأرض، فعندما تتأصَّل الفكرة وتزداد حرارة الإيمان ينطلق صاحبها في ميدان الدعوة للتطبيق وللتبليغ والجهاد من أجل الوصول إلى غايته وإعلاء كلمة الله، وأداء أمانته التي عرضها الله عليه فقبلها: ( إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72))[سورة الأحزاب] .

فلا يتصور مؤمنٌ عاقلٌ أن القرآن عبارة عن كلامٍ جافٍ جامدٍ لا روح فيه، ولا أثر له في الفكر والسلوك والأخلاق، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن). وقال أيضًا : (والذي نفسي بيده ، إن حق تلاوته أن يُحل حلاله ويُحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله).

وقال الحسن البصري رحمه الله : (والله ما تدبَّره من حفظ حروفه وأضاع حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ولا يُرى للقرآن عليه في خلق ولا عمل).

والذي يُدمع العينين ويُحزن القلب أنك ترى مسلمين مغلوبين على أمرهم، يستصرخون، وينادون هل من ناصر؟!، فلا ترى أياديَ تمتد إليهم بالنصرة، ولكنك ترى أجسادًا بالية، مرتجفة، تخاف أن تفكر في نصرة إخوانهم، أو تمد يدَ العون لفقرائهم، فأين نحن من القرآن يا أمة القرآن؟!.

إلى متي نظل ننظر إلى كلام الله على أنه عظيم في القلوب وليس له أثر على أرض الواقع؟! فلا يحرك ساكنًا ، ولا يطعم جوعانًا ، ولا يكسو عريانًا ، ولا يردُّ عدوًا!.

فالقوى الهمجية التي لا أخلاق تردعها، ولا قيم تهذبها، ولا قوة تقف أمامها، ستستبد في الكون، فتمتصُّ ثرواته، وتسحق أبريائه، وتنحر حمائم السلام ، ثم تضع على أجسادها أغصان الزيتون، وتعلن من فوق الأجساد والركام أنها داعية السلام، وراعية الأمن والأمان على الكرة الأرضية ، فالأمة التي لا أخلاق لها ولا تؤمن بفكرة ، ولا تلتزم بعقيدة ، ولا تحوِّل أقوالها إلى أفعال فهي إلى زوال، وإن طغت حضارتها المادية يومًا من الأيام.

وما جاء الإسلام ليتدين الناس باسمه، ويتركون فعله، فنحن أمة نبيٍّ بُعِثَ ليُتَمِّمَ مكارم الأخلاق، فأكمل لنا الدين ، ورضي لنا الإسلام دينًا، ليقودنا إلى الأفعال التي لها أثر، وينهانا عن الأقوال التي لا تُسْمِنُ في تشدقها ، ولا تغني في ترنمها، ولا تنفع في جدالها.

إن صدق الإيمان أن تتحول الأقوال إلى أفعال، فتتحول الأفعال إلى آثار يشعر بها البعيد والداني، فيلمس القلوب، فيحولها من قلوب تؤمن بالفكرة  إلى قلوب عاملة لها ، داعية إلى طاعة ربها؛ لأنها وجدت نموذجًا حيًّا يسير على الأرض يطبق ما يؤمن به ، وعندها يتحقق فينا قول الله تعالى : (وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ومَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ)[ النور :55].