الخريطة البحثية لتكنولوجيا المعلومات

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

صناعة تكنولوجيا المعلومات تقوم على الانطلاق من اكتشاف حاجات البشرية لتدرس إمكانية تحقيقها في صورة تطبيقات سهلة التناول، ومن حاجات البشرية الملحة الآن ضرورة التواصل من خلال ترجمة آلية ما زالت حلما يراود علماء التكنولوجيا الذين عكفوا الآن على دراسة إمكانية تحقيقه؛ فبدأوا بدراسة خصائص اللغات في أصواتها ومفرداتها وتراكيبها لمعرفة المعاني التي ستكون مترجمة بدقة.

وتمت هذه الدراسة عبر خبراء في هندسة التكنولوجيا وخبراء في اللغات الذين شغلوا الآن في حصر الموارد المتاحة لديها في محاولة لحل بعض المشكلات التي ستواجههم في الترجمة الآلية، تلبية في طموح تواصل البشر في كافة أنحاء المعمورة بشكل كامل مقروء ومسموع، فالكل يتمنى أن يطلع بسهولة على الكتب والصحف المدونة بغير لغته التي يتكلم بها، ويتمنى أن يفهم محادثة فورية بجهاز بسيط عندما يتكلم مع أحد من غير أبناء لغته، ويتمنى أن يوصل ما عنده للآخرين الذين يتكلمون بلسان غير لسانه، والكل يتساءل هل سيأتي اليوم الذي أتكلم في الهاتف بلغتي ليترجم كلامي عبر لغة أخرى فيفهمها الأجنبي ويأتي رده الذي هو بلغة أخرى مترجما للغتي في سرعة ودقة؟

وكل هذه الأماني ينظر إليها الباحثون باهتمام فتتطلع آمالهم لحلها، فيدفعهم أملهم للعمل، فتكون البداية في تحليل اللغات ومعرفة مشكلاتها والقدر المشترك بين اللغات الذي من الممكن أن يكون قاعدة لهذه الترجمة ليوفر الجهد والوقت، وحتى لا تكون البداية من فراغ.

نقب الباحثون في اللغة العربية مثلا عن لغتهم فوقعوا على لفتات في تراثهم جديرة بالاهتمام؛ فابن جني في القرن الرابع الهجري ذكر بأن اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وذكر أن البشرية تشترك في جزء من اللغة بأصواتها ومفرداتها. وراح الباحثون في الوطن العربي وخارجه يحاولون تحليل خصائص اللغة العربية؛ ليستفيدوا منها في ثورة ستكون هائلة في تكنولوجيا المعلومات؛ فوجدوا أن أصوات اللغة العربية محدودة، ومن الممكن حوسبتها، والقيام بتطبيقات كثيرة عليها؛ فحاول هؤلاء الباحثون أن يستخدموا معرفتهم بخصائص الصوت العربي في صنع تطبيقات مفيدة للبشرية في مجال التعليم والإعلام مثلا، وبذلك نجحوا في هذا الجانب إلى حد كبير ثم انطلقوا بعد الأصوات التي تتكون منها الكلمات إلى الكلمات نفسها وتحليلها صرفيا، فواجهتهم صعوبات أكثر من التي واجهتهم في الجانب الصوتي؛ فكيف سيدربون الحاسب على التفرقة بين الكلمة الأعجمية والكلمة العربية، أم كيف سيجعلون الحاسوب يفرق بين (قال محمد كلام جميلا)، وبين: (قال محمد في الظهيرة)، فالعقل البشري يستطيع أن يقول: إن (قال) في الجملة الأولى من القول أي الكلام، أما قال الأخرى فهي من القيلولة أي النوم في وقت الظهيرة.

وجد الباحثون أنفسهم أمام معضلات كبيرة؛ فهم في اضطرار لجعل الحاسوب محاكيا للعقل البشري، ورغم ذلك نجحوا إلى حد كبير عن طريق حصر القواعد الصرفية ودلالتها في اللغة العربية وتتبعها في النصوص العربية من خلال جمع ملاين الكلمات لصنع قاعدة بيانات ضخمة من الكلمات المستخدمة في التراث ونشرات الأخبار واللغة الحية المستعملة حتى توصل الدكتور محمد عطية بإشراف الدكتور محسن رشوان في هندسة القاهرة إلى برنامج للتحليل الصرفي للغة العربية ليحاكي العقل البشري في فك اللبس بين هذه الكلمات الملبسة ونال على هذا البرنامج درجة الماجستير، وأثبت دقة في التحليل بدراسات تقيمية تصل إلى95% مما دفع العديد من المؤسسات البحثية الغربية للاستفادة من نتائجه كمؤسسة نملر التابعة للاتحاد الأوربي.

لكن اللغة ليست عبارة عن أصوات وكلمات فقط بل هي عبارة عن جمل مفيدة في سياقها، ولذلك كان على الباحثين في اللغة العربية أن يتصدوا إلى تركيب الجملة في اللغة العربية، فوجدوا أنفسهم أمام لغة شديدة التعقيد، وما زالوا يحاولون تدريب الحاسوب على التفرقة بين الوظائف النحوية المختلفة ومعرفة كيف تسير الكلمات داخل التركيب.

وأمام هذه المشكلة العويصة علميا لجأ صناع تكنولوجيا المعلومات للاستعانة بأهل اللغة ثم بعلماء النفس؛ لمعرفة كيف يبدع العقل اللغة؛ فهذا السؤال لو استطاعوا الإجابة عليه لكان الطريق إلى الترجمة الآلية مذللا وسهلا.

وقد استفاد العرب هذه الجهود من الغرب الذين بدأوا في البحث عن خصائص اللغات ووضعوا مناهج مختلفة للبحث استفاد منها صناع التكنولوجيا العربية بلا شك؛ فعلى سبيل المثل عندما بدأ الإنجليز في محاولة صنع تطبيقات تكنولوجية على اللغة الإنجليزية انطلقوا من الصوت لصنع برنامج لتعليم اللغة الإنجليزية لغير الناطقين بها يعتمد على تقنية التعرف على الصوت، فقاموا بصنع برنامج يسمى (Tell me more) الذي يعلم كيفية نطق اللغة الإنجليزية بصورة صحيحة، وإذا استقام النطق للمتعلم استطاع بسهولة أن يكتسب اللغة بمفرداتها وتركيبها.

واطلعت الشركة الهندسية لتطوير نظم الحاسبات على هذه التجربة ودرستها  دراسة جيدة، وقامت بدراسة الخصائص الصوتية للغة العربية لتقوم بصنع برنامج لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وبدأت بالأصعب؛ فبدأت بتعليم أصوات القرآن الكريم؛ حيث إن أصوات القرآن الكريم الصعبة التي تحتاج إلى معلم غالبا مشكلة تسيطر على فكر العالم الإسلامي؛ فصعوبة التواصل بين العالم والمتعلم وإيقاع حركة السريع للحياة قد لا يسمح بتعلم أصوات القرآن الكريم ومن ثم حفظ القرآن، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فتحليل أصوات القرآن يكون قاعدة قوية لتعليم أصوات اللغة العربية لغير الناطقين بها؛ فالتطور في الجانب الصوتي على اللغة المنطوقة يكون محدودا ويسهل استيعابه، وقد نجحت في هذه التجربة الرائدة ببرنامح يحاكي المقرأة أطلقت عليه اسم "حفص" وفاز بالجائزة الأولى على العالم في التعليم الإلكتروني.

إذا فطموح الترجمة الآلية الذي لم يتحقق بعد جر القائمين في تكنولوجيا المعلومات إلى آفاق بحثية أخرى لا بد من ارتيادها لخدمة البشرية الأولى؛ مما خلق رؤية واضحة إلى حد كبير للخريطة البحثية في عالم التكنولوجيا، عن طريق تحديد الأهداف ثم المتطلبات الضرورية لتحقيق هذه الأهداف التي ستستخدم بعد في تطبيقات مفيدة للبشرية، ومن يطالع مثلا موقع منظمة (ELRA) وهي منظمة تهتم بدراسة اللغات الأوربية، يرى أنهم وضعوا خطة بدأت من 2003 وحتى 2011، ووضعوا أن هدفهم النهائي في 2011 متمثل في الترجمة الآلية للغة الهولندية)، وما زالت خطتهم تسير بنجاح لكن لا نستطيع أن نحدد مدى قدرتهم على تحقيق الحلم الذي ما زال بعيد المنال.