الحوار الحضاري في الزمن الأمريكي الطويل
د. مولود عويمر
أستاذ بجامعة الجزائر
لماذا تغيّرت الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كانت تمثل للعالم رمزا للحرية ومصدر الأحلام للشعوب المضطهدة والمتخلفة؟ كيف صاغت الولايات المتحدة الأمريكية عقيدتها السياسية الجديدة تجاه العالم الإسلامي؟ كيف يتجنب المسلمون صداما حضاريا مع الغرب بسبب السياسة الأمريكية المتحيّزة؟
تداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001 على المسلمين في أمريكا:
كان تأثير أحداث 11 سبتمبر على العرب والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية سلبيا خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى. وبناء على الإحصائيات التي نشرتها المنظمات الإسلامية ووزارة العدل الأمريكية تؤكد ارتفاع عدد الجرائم بسبب موجات الكراهية وتزايد النزعة العنصرية في وسائل الإعلام خاصة المقربة من اليمين المتطرف واللوبيات الصهيونية. ومس الاعتداء كل من توهم فيه أنه مسلم كالسيخ الذين يرتدون العمامات والمسيحيين العرب لملامحهم العربية. واعترف أمريكي أمام القضاء بنيويورك بقتل أربعة أشخاص انتقاما لأحداث 11 سبتمبر في حين راح ضحية جرائمه الأربعة هنديا وأوكرانيا ومواطنا من بلد إفريقي.
وتشير الإحصائيات التي نشرتها منظمة كير - وهي من أكبر المنظمات الإسلامية في أمريكا- في شهر ماي 2003 إلى تزايد جرائم الكراهية والتمييز العنصري ضد مسلمي أمريكا بنسب عالية: ارتفاع حالات التمييز بنسبة 70 % في عام 2003 مقارنة بعام 2002 وبنسبة 278% مقارنة بالعام السابق لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. وارتفعت أيضا نسبة الجرائم إلى 121 في عام 2003 مقارنة بعام 2002.
إن هذه الصورة القاتمة لا يمكن لها أن تحجب صورا مشرقة تدفع إلى التفاؤل في مستقبل المسلمين في أمريكا ولعل أبرز هذه المؤشرات هو إقبال الأمريكيين على دراسة الإسلام وبروز شخصيات سياسية وعلمية تعارض بشدة السياسة الأمريكية الراهنة المتشددة تجاه المسلمين والمتجاهلة لقضاياهم العادلة.
العقيدة السياسية الأمريكية المزدوجة:
تقوم العقيدة السياسية الأمريكية التي رسمها صقور البيت الأبيض وجسدها عمليا خبراء البنتاغون الأمريكي على ثلاث ركائز أساسية: انتقاء الأعداء وإدخال تفوق السلاح في الميدان وتفادي حلول النزعات بشكل نهائي. وتصلبت أكثر هذه العقيدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 التي أحدثت هزة نفسية في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من الضرر المادي. فهي قبل كل شيء كانت هزيمة رمزية. واقتنع أصحاب القرار الأمريكي أن الردود يجب أن تكون من نفس النوع، فالحرب لن تكون عسكرية واقتصادية فقط وإنما يجب أن تكون بالدرجة الأولى حربا حضارية تسعى إلى تغيير الذهنيات والعقليات التي أفرزت هذا الأسلوب الجديد في مهاجمة الأعداء. صرح في هذا الصدد بول وولفويتز مساعد وزير الدفاع الأمريكي: "نحارب اليوم حربًا ضد الإرهاب، حربًا سوف ننتصر فيها. أما الحرب الأوسع التي نواجهها فهي حرب الأفكار، وهي تُشكّل تحديا بالتأكيد.... إنها كفاح من أجل الحداثة والعلمانية، التعددية والديمقراطية، والتنمية الاقتصادية الحقيقية. ولتحقيق الانتصار في هذا النزاع الأوسع، يجب أن نعمل على فهم الأوجه العديدة للعالم الإسلامي."
ويتجسد هذا المشروع الاستعماري الجديد في محاولات السلطات الأمريكية التقارب من الشعوب العربية كفتح قناة التلفزيون "الحرة" وتسويق مشروع الشرق الأوسط الكبير على أساس أنه موجه للضغط على الحكام للاهتمام بحقوق الإنسان وفتح مجالات واسعة للنضال السياسي يسمح بإفراز التعددية الحزبية والتداول على السلطة ودعم التعايش بين الأقليات الدينية والثقافية في داخل المجتمعات الإسلامية.
ورفعت أيضا شعار "تجديد الخطاب الديني"، و"تغيير مناهج التعليم الديني". وترمي أيضا كل هذه السياسة إلى دفع الدول العربية إلى تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية.
وإذا نجحت هذه السياسة –في نظر الأمريكان والصهاينة- يتحول الشرق الأوسط إلى سوق تجارية عالمية منتعشة تلعب فيها الدولة العبرية نفس الدور الذي لعبته اليابان كقوة مركزية في جنوب شرق آسيا. فيكون المستفيد في الأخير الدولة العبرية أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية التي ستغيب شمسها مهما طال الزمن أو قصر. والعديد من الدراسات التي ظهرت مؤخرا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تدعم هذا القول.
إن الحوار مع الغرب لابد أن يؤكد على ضرورة تسوية وضعية القضية الفلسطينية حتى يكون للحوار أكثر مصداقية. ونؤكد على أهمية الاتفاق المشترك على بعض المفاهيم الحساسة التي تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن تفرضها على العالم وفق تصوراتها ومصالحها الإستراتيجية.
الحوار والتعايش من أجل المستقبل:
هل سينجح التيار المتشدد داخل الولايات المتحدة الأمريكية في عزل القوى الغربية المنادية للحوار والتفاهم مع المسلمين؟
إن زوال الحدود الجغرافية بفضل الثورة العملاقة في مجال وسائل الإعلام المختلفة كشفت بشكل واضح الجوانب الثقافية لشعوب العالم وطموحاتها المستقبلية والتي تميل في غالبيتها نحو التعارف والتقارب. ويبقى دور المسلمين هو تشجيع كل القوى الناشطة في المجتمعات الأهلية والمدنية والسياسية التي تنادي بالتسامح وتلتزم بالواقعية وتدعم تنمية ثقافة السلم والتعايش. وهو السبيل الوحيد لمقاومة النموذج الحضاري الأوحد الذي تريد أن تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية على العالم بشكل عام والعالم الإسلامي بشكل خاص. وهذه المهمة هي الرسالة الراهنة والدور المستقبلي لفعاليات المجتمع المدني في الغرب والعالم الإسلامي.
إن الصراع الذي يريد له أن يقوم بين العالم الإسلامي والعالم الغربي لم يحدث بعد رغم كل الاستفزازات وقوة المتحمسين له -في العالمين الغربي والإسلامي- بتوظيف وسائل الإعلام والنفوذ العسكري والاقتصادي. ولعل من أسباب ذلك هو انقسام الغرب نفسه يحمل لواءه مفكرون كبار أمثال نعوم تشومسكي وجون اسبوزيتو في مواجهة تأثيرات شبكة برنارد لويس وصمويل هنتغتون خاصة في الوسائل الإعلام الأمريكية التي تصنع القرار وتؤثر على الرأي العام. وهي وسائل يهيمن عليها المتشددون الذين يقدمون صورا قاتمة عن العرب والمسلمين. فلابد من تقارب الجاليات الإسلامية من منظمات المجتمع المدني من أجل التعارف والعمل معا على توعية الشعب الأمريكي تجاه القضايا الإسلامية وشرح حقائقها وذلك بتنظيم تظاهرات ثقافية وتاريخية ودينية في الولايات المتحدة الأمريكية لأن الشعب الأمريكي أكثر حاجة من الأوروبيين إلى من يقدم له خطابا معتدلا عن الإسلام ومعطيات موضوعية عن الصراع العالمي.
وتتنامى ثقافة السلم داخل المجتمع الأمريكي فقد رفضت كثير من الجمعيات المدنية والثقافية الحروب المدمرة التي أعلنتها حكومتها على الشعوب المستضعفة التي تكلف كثيرا الخزينة العمومية. وفي العالم الإسلامي ترفض الأغلبية من الشعوب أن تستنزف قدراتها وثرواتها في حروب وصراعات تزيدها تخلفا على تخلف.