أنا والجوال
محمد زبير عباسي
لا تتخذني هزوا لو أسمعتكم اليوم قصة ظريفة، تنسكب دموع الفرحة عند سماعها مع سيولة الحزن والكآبة منها، سخط من سمعها وغضب من لم يسمعها، آه على نفسي أنا، أواه يا ويلتاه ، يا حزناه، يا من ..... كنت في صلاة العصر، رنت على جوالي وهو فائت الرنة، فارتعش ارتعاشا فاحشا، فما سمعت من صاحبي في الصلاة إلا وهو يضحك ضحكة فاجرة، تعجبت أولا ثم تذكرت أنني في الصلاة، فما هذا اللهو والطغيان؟ وبالأسف الشديد رن جوالي ثانيا والآن نسيت نقر زره حتى يسكت، لأنني الآن بدأت الصلاة بالخضوع التام المبرر من كل عيب فيها، فما عرفت ماذا حدث إلا حينما أتممت صلاتي، هرب الجميع من حولي كأنهم أصيبوا بما لم يتحملوا بقيامهم قليلا, فما رأيت هناك إلا طفلا وكان على وجهه ابتسامة ساخرة فألهيته عما ينظر إليه عابسا، انفغر فاه ناظرا إلى ذلك، فدهشت مما حدث قبل ثم الذي يحدث الآن وتفكرت هل هذا معي أم بالآخرين أيضا، فلوحت بطرف ردائ يمنة ويسرة ليتوجه إلي ولكنه ما زال يلمحه جاهلا عما حواليه وكان على وجهه استبشار يروقه استصباحا، فما عرفت منه مرصاد نظرته، لأنه أحيانا يرفع نظرته ويلاقي وجهي ثم يخضعها فينظر إليه، يا هذا! ما هذا؟ صحت في وجهي وقمت آخذا أخبث الأغراض من جيبي هو الجوال المبارك, فألهاني عن خطتي وكيف؟ إنه فقير مثلي وليس له حتى روبية أو جنيه مصري ليكون قابلا للاتصال ولربما يتصل بي أحد فتنفست الصعداء, ولا يمكن الرد على ذلك من أجل فقر الفقير، لأن رقمي كان مسروقا فأغلق، فاستعرت من أحد رقم الاتصال لأكون صاحب الجوال عند التجوال بين العامة. بعد مضي نصف ساعة رن جوالي مرة أخرى فبدأ يتذبذب بالشدة الفزعة فنقرت على الزر الرئيسي القابل للاتصال بسرعة دون علم وكنت جالسا بين الأصدقاء، وكدت أن أصرخ لولم رأيتها وجها لوجه، وهي مبتسمة، والحياء يروق وجهها ويزيد جمالها وشعرها المتدلل يفوق لمعانا, فانغفر فاهي في وهلة الأولى وأصبحت مولعا لزيارتها، إنها جميلة، معجبة، مثيرة, رائعة, ناهدة, كذا وكذا ، فقفزت من بين الأصدقاء وهم ينظرون إلي كأنني ارتكبت جريمة رغم أنهم اشتاقوا إلى رؤيتها ثانيا، ولكن كيف يقوم أولئك؟ هم يتناولون العشاء جائعين، هربت إليها وشعرت فؤادي ملتاعا، يموت إذا لم أجدها, فبدأ يتدله إياي في حبها ودلالها, ويجر نفسي إليها شيأ فشيأ حتى الآن فالآن، فوصلت إليها على مقربة بعض الأقدام، فتساهلت في اتجاهي إليها لئلا تنظر إلي، لأن بين حشد الناس لا يعجبني أنا ولربما هي أيضا فمشيت وراءها زهاء مائة قدما، فجأة توقفت كأنها شعرت بشئ خلفها ولكنها لم تلمح إلى الوراء بل أخرجت الجوال من جانبها الأيمن ثم بدأت تتصل بأي أحد وأنا اقتربت إليها أكثر فأكثر فزعت من هذه المفاجأة الطارئة حينما رن جوالي ثالثا, فضغطت بالشدة لئلا تعلم أن وراءها أحد وأنا أسمع ما تتكلم ولهجتها أفعمتني بالمسرة وألقتني في بحر حبها العميق، أحسست أنني بمرصاد لهجتها دون شئ آخر، فكلما تتحدث يا حبيبي لماذا لا تتكلم اليوم؟ هل أنت ساخط مني؟؟ هل حدث شئ؟ قل لي بالله عليك... فما استطعت أن أصبر مزيدا حتى أسمعها كأنها تخاطبني بلهجة ناعمة ، تأثر بها قلبي وكاد أن ينفلق بالقول : أيا ... بالله عليك إسمعي أنا, أنظري إلي, لا أريدك أنت لأنك غالية بل اشتاق لرؤيتك أنت لأومن بجمالك أنت فأنت ...
ارتعش جوالي رابعا، فأخرجته ناظرا إلى ظهرها وقد تناثر عليه شعر كسنبلة ناعمة فقبلت الاتصال بسرعة لاتفرغ لها، ما سمعت منه إلا ضحكات هادئة وهي ترى كأنها تأتي من الفضاء الواسع. فقلت : ما هذا يا فلان؟ أنا أراقبك منذ أن غلبتك الشهوة، هل تعرف من هي المسكينة؟ قال بصوت فيه غضب وعقاب، خفق قلبي وارتجف صوتي وتوقف نفسي فالتفت إلى الوراء ولم يكن هناك أحد، تحيرت فصحت عليه أيا هذا من أنت وأين أنت؟ قال لي هون عليك، أخبرك من أنا؟ أنا المسكين الشيطان الرجيم وهذه التي أمامك هي أنا, أنك أديت الصلاة بالخضوع اليوم, فخفت أنني فقدت أحد أصدقائي, فحاولت هذا ونجحت, فأنت مشكور في مساعدتي والحمد للشيطان المردود سوف ينعمني الآن ويفرح إذا أخبرته أنك ما زلت معنا ولا حرمت أنت من دعائنا عليك. أجبني الآن وكن صاحبها أبدا, هل تحب أن تراها وتلامسها وتداعبها وتعشقها للشيطان الضال المضل؟ قلت فورا معاذ الله, فتغيرت صورتها وانقلبت إلى حالها الأقبح القبيح الذي صار مضرب المثل.
وذاك الفطيم البرئ الطاهر من كل ذنب قد اقترب مني وقبلني ثم قال أنا الملك السماوي, لولم يكن النصر من الله تعالى لضللت ولذهبت إلى شر الداهرين, وكنت أدعو في كل هذا الوقت لك وعليه كيلا يغالبك, فاشكر الله ودع عما يريبك منه, ثم ارتفع إلى العلا حتى أقصى السحابات ثم إلى العلا, إلى العلا حتى أقصى السموات السبع.
فاستقيظت مباشرة وعرفت إنها رؤية, تفكرت قليلا لم رأيتها كذلك وما رأيت قط قبل ذلك مثل هذا المنام فتذكرت بلى بلى قد أديت الصلاة بالليل البارح أول مرة في حياتي بالوضوء ثم تعاهدت نفسي ألا أقضيها بعد، وأنا سجلت في بطاقة جوالي عددا من الفيديو الفاحش والأغاني السامة رغم أن أحد أصدقائ قد منعنى ونهرني من ذلك، لكنني فعلت ما فعلت والآن رأيت ما رأيت، فحذفت جميع ما فيها من اللهو وشطبت مثل تلك الفيديوتات الماجنة والأغنية وسجلت مكانها عددا من سور القرآن الكريم وبعض المدائح النبوية عليه الصلوة والسلام ثم أضفت إليها عددا من الخطب والنصائح والأدعية الطيبة خصوصا قصيدة البوصيري رحمه الله تعالي.
ففي اليوم التالي أخذ مني عمر جوالي لينظر فيها ما يريد، فأعطيته، حينما لم يجد ما يقصده، قال لي يا هذا ما ذا بك؟ ألا تعرف إنني سجلت في بطاقتك بعض الأغاني التي أحبها حبا جما وأنا جمعتها بعد محاولة شديدة حتى أتعبت نفسي في حشدها، اللعنة اللعنة. بقيت صامتا حتى سكت هو ثم هدأ غضبه فذهبنا إلى حانوت العسل والفواكه، فجلسنا ولكن مازال على وجهه دلائل الغضب فاعتذرت منه على إضاعة ما لدي سواء له أم لي ثم دعوته إلى عمل صالح مذكرا أن المومت يراقبنا، ثم أسمعته ببعض الأبيات لأبي العتاهية الشاعر للعصر العباسي :
لا تأمن من الموت في طرف ولا نفس ولو تسترت بالأبواب والحرس
وأيضا :
لا تلعبن بك الدنيا وأنت ترى ما شئت من عبر فيها وأمثال
أنظر يا عمر إن الموت يأكل كل ذي روح كما تأكل النار الخشب وهذا الموت نعمة ونقمة، نعمة للمتقين وأمرهم الله تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وسلم : أكثروا ذكر هازم اللذات الموت، ونقمة لأصحاب الكبائر والصغائر، عندما يحين أجلهم يستصرخون ولكن لا يسمع صرخاتهم أحد، يبكون ولكن ليس لهم نصير غير الله الذي يأمر ملائكته : خذوهم أخذ عزيز مقتدر رغم أنه رحيم ورؤوف ورحمن وغفور وحليم ..... كل ذلك من أجل فوات الفرصة، هذه فرصة لي ولك يا أخي العزيز، وهذا الجوال خير لمن ينتفع به في صالح نفسه والآخرين وشر لمن يتلهى ويسقط في مؤسفات لا يصلاها إلا الأشقى. وهو يهب لمن يشاء هداية ويهب لمن يشاء ضلالة، فعلينا أن نستخرط أمام ربنا الذي خلقنا فسوانا ثم هدانا أن يختمنا بالخير ويجعلنا من زمرة الأولين.