البطولة بين مفهومين

البطولة بين مفهومين

يحيى بشير حاج يحيى

عضو رابطة أدباء الشام

من معاني البطولة أن يتفوق الرجل على أقرانه في صفة أو صفات ! " أما اللغويون فيقولون على لسان شيخهم ابن منظور : البطل هو الشجاع ، وقال بعضهم : دعي البطل بطلا لأن الأشداء يبطلون أمامه ، فلا يساوون عنده شيئا . 

وثمة سؤال ينبني على هذه التعريفات : هل البطولة هي الشجاعة ؟ وهل كل شجاع بطل ؟ يقول الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا : ليس كل شجاع بطلا ، وليست كل شجاعة بطولة .. أرأيت إلى كبار قطاع الطرق، وقراصنة البحار ممن عرفهم التاريخ في الغابر . وإلى المشاهير من السطاة على المصارف ، و مختطفي الطائرات في عصرنا الحاضر ؟ إن هؤلاء وهؤلاء يتحلون جميعا بشجاعة فذة نادرة ، ولكنه لم يخطر ببال أحد من الناس أن يسميهم أبطالا ..

وفي عصرنا هذا أطلقت البطولة على كثير من المواقف والأعمال والأشخاص ، وسمي بها من لا يستحقها ، وتداولتها أوساط هي بعيدة كل البعد عنها ، فكان ذلك من التشويه والتزوير اللذين يحملان في طياتهما أبلغ الأضرار ، فللتمثيل بطولة ، وأبطال وبطلات ، وللكرة بطولة ، و للرقص بطولة . وقد شارك في هذا التزييف كثير من أنواع الصحافة ، وكان هذا يعني _ كما يقول الدكتور حلمي محمد القاعود في كتابه الصحافة المهاجرة، أشياء كثيرة بالنسبة للمجتمع منها : إضفاء صفة البطولة على أعمال تافهة ، تصل في كثير من الأحيان إلى مستوى السقوط والتعهر والرذيلة .

ومنها : ابتذال مصطلح ( البطولة ) وتفريغه من مضمونه العظيم والرائع الذي يعني أول ما يعني تحقيق المجد والعزة للوطن المسلم في ميادين الجهاد والحضارة .

ومنها : سحب البطولة الحقيقة ممن يبنون المجتمع المسلم بالعلم والجهد والجدية .

ومنها : تحقير كل جهد عملي وبناء يقوم به أبناء المجتمع لصالح الوطن الإسلامي إذ يصبح الرقص والغناء و التمثيل هي القيم العليا التي ينبغي السعي وراءها ، ومن أجلها .

ورحم الله أحمد شوقي إذ نظر إلى البطولة فرآها استعلاء على متطلبات النفس ، وتصعيدا لغرائز الإنسان :

إن البطولة أن تموت من الظمأ          ليس البطولة أن تعب الماء

وقال آخر وقد هاله ما وصل إليه هذا المفهوم من تشويه وتحريف عن معناه السليم :

يا عجبا  من غفلة جيل         أمسى  اللهو  لديه  فنونا

فبطولاتي صارت  كرة         وطموحي أمسى "بالونا"

وبعد هذا ، فما البطولة الحقة ؟ وما تعريفها ؟ ومعالمها ؟

يقول د . عبد الرحمن الباشا في كتابه (البطولة ) محاولا وضع إطار يحدد معالم البطولة :

( إن البطولة كل موقف رائع فذ من مواقف الحياة ، بعثت عليه غاية جليلة نبيلة ) . وهذا التعريف الذي خرج به الدكتور الباشا _ رحمه الله _ جاء نتيجة استقراء واسع ، واطلاع كبير على جوانب حياة كثير ممن اتصفوا بهذه الصفة فقد كتب سلسلتين عن حياة الصحابة وحياة التابعين أبرز أهم صفاتهم ، ولم تكن البطولة الحقة إلا واحدة من هذه الصفات ! وهي ليست مقصورة على المواقف الرائعة الفذة التي يأتي بها الأبطال في ساحات الوغى ، وإنما هي ضروب وألوان . لها بواعث يستنبطها المؤلف من تاريخنا الغني الثري ، وعلى رأس هذه البواعث الإيمان بالله ، لأنه قوة مبدعة خلاقة إذا مست القلوب بسحرها اهتزت بأروع الشمائل ، وقد عرفها المسلمون منذ الأيام الأولى التي بزغ فيها فجر الدعوة المحمدية في بطحاء مكة ! وصاحبتهم عبر تاريخهم الطويل ، وستبقى سمة من سمات الأمة الإسلامية ، وأما الباعث الثاني فهو الكرامة والعزة ، ومن يستعرض التاريخ الإسلامي يجد ألف بطولة وبطولة بعثت عليها العزة الأنفة ، وكم من قائد أقبل على موارد الموت يدفعه إلى ذلك الأنفة من عار الفرار ، ثم الحب في الله وهو من بواعث  البطولة الكبرى . وقد حفلت كتب التراجم والسير بأروع الأمثلة عن هذا الحب وبطولاته ! وأما الباعث الرابع فهو الإيثار على النفس وهو من المكارم التي خصها الله بالذكر في كتابه ،  ونعت بها أنصار نبيه صلى الله عليه وسلم في جملة ما نعتهم به من جليل الشمائل !

ومن هذه البواعث غنى النفس ، والزهادة . بما في أيدي الناس ، واحتقار عرض الحياة الفاني ، ومنها نقد الذات وصدق المرء مع نفسه ، و إخلاصه في نقدها ، وقدرته على مواجهتها بعيوبها ، ومصارحتها بها …. وهي خصلة لا يُلقّاها إلا  ذوو النفوس الكبيرة . ولا يحظى بها إلا أصحاب الحظوظ العظيمة ، ذلك أن الصدق مع الآخرين ، ومواجهتهم بأخطائهم مواجهة صادقة خالصة بناءة أمر يشق على النفوس فكيف بنقد الذات … ومنها تقوى الله :

ليس من يقطع طُرْقا بطلا           إنما مَن يتقي اللهَ  البطلْ !!

فإذا تمكنت هذه المنقبة من قلب امرئ أحكمت سلطانه على نفسه وشددت قبضته على هواه ، وملأت بالبطولات أعماله وتصرفاته ! 

ومنها الرضوخ للحق والإذعان له ، والانصياع للشرع والرضوخ لأحكامه مهما كانت قاسية على النفس ، وتقديس الحق والرغبة في الوصول إليه ، والصدق والإخلاص في تنفيذه مهما كان ثقيل التبعات .

لقد بات ضروريا أن نجدد مفهوم البطولة ، ونوضح معالمها ، ونبرز تطبيقاتها في الحياة ، ونزيل الغبش الذي شوه وجهها ، ثم نضعها في ميدانها الصحيح ، فلا تطلق إلا على من يستحقها حقيقة ، لأن " البطولة والبطولات ليست ترفا في حياة الأمم ، ولا قصصا تروى للتسلية وتزجية الفراغ ، وإنما هي حاجات ضرورية أساسية ، لا تكتمل حياة الشعوب إلا بها ! ولا تبنى المجتمعات الفاضلة القوية إلا على أساسها فبالبطولات تتجسد قيم الأمة ومثلها … وتبرز خصائصها ومقوماتها ، وتقوى ثقتها بنفسها . وبالأبطال تتحقق لأبناء الأمة القدوة والأسوة ، وتتحول الخلال والخصال إلى كائنات حية تمشي على الأرض …و الأبطال _منذ كانوا _ مشاعل تضيء للناشئة دروب المجد والسؤدد والخير والبر ، ومنارات تشد أعينهم نحو الذرا والقمم".