سيد قطب والإسلام الأمريكاني

سيد قطب والإسلام الأمريكاني..

سيد قطب رحمه الله

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

ولد سيد قطب - رحمه الله - في سبتمبر 1906, ولقي ربه شهيدا علي يد الحكم العسكري الغاشم في أغسطس 1966, وكان رحمه الله - مفكرا إسلاميا وأديبا وشاعرا وناقدا فائقا, وقد شد إليه الأنظار وهو طالب في «دار العلوم» حتي قال عنه أستاذه الدكتور مهدي علام سنة 1932.. «لو لم يكن لي تلميذ سواه لكفاني ذلك سرورا وقناعة واطمئنانا إلي أنني سأحمّل أمانة العلم والأدب من لا أشك في حسن قيامه عليها.. إنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر دار العلوم, وإذا قلت «دار العلم», فقد عنيت دار الحكمة والأدب».

وبعد تخرجه في «دار العلوم» سنة 1933 عمل في وزارة المعارف مدرسا ثم موظفا في الوزارة حيث عمل في التفتيش, ثم في مراقبة الثقافة, ولم ينقطع عن الكتابة في الصحف والمجلات, وخصوصا مجلتي «الثقافة» و«الرسالة» ثم مجلة «الفكر الجديد» التي أنشأها هو والحاج محمد حلمي المنياوي, وكان قلمه سيالا قويا, يهاجم - في شدة وعنف - الاستعمار, والاستبداد السياسي, والفساد الاجتماعي, والاهتراء الأدبي والنقدي, فتخلص منه رجال الحكم والوزارة بطريقة مستساغة في ظاهرها, وهي إيفاده في بعثة إلي الولايات المتحدة لمدة عامين «لدراسة المناهج التعليمية» فيها وغادر مصر أواخر عام 1948.

تنقل سيد - رحمه الله - بين مدن كثيرة في الولايات المتحدة دارسا, باحثا, فاحصا, مسجلا رؤيته للشخصية الأمريكية, والمجتمع الأمريكي في كتاب مخطوط سماه «أمريكا من الداخل» وأودعه أحد معارفه في مصر فلما اشتدت حملة الاعتقالات علي الإخوان في مصر سنة 1954, خاف الرجل علي نفسه, فأحرق «الوديعة», وهي المخطوطة الوحيدة للكتاب.

ولكن سيد قطب كان قد نشر عدة حلقات من مخطوطته سنة 1951, 1952 في مجلة «الرسالة» الأسبوعية تُبين عن رؤيته لأمريكا «من الداخل» مجتمعا وحضارة, وسياسة, وخلقا, وكذلك جهود أمريكا وعملها الدائب «لتخليق إسلام جديد», ونشره في دول العالم الثالث, وهو «إسلام» يتسع لخدمة مصالحها, وأهدافها الاستعمارية النفعية, وفي سبيل ذلك تجند امكانات مادية ضخمة, مستعينة بمواليها, وأنصارها من عبّاد الدولار, وعلماء السلطان, والحاقدين علي الإسلام ومما كتبه - رحمه الله - «.. والإسلام الذي يريده الأمريكان, وحلفاؤهم في الشرق الأوسط, ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار, وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان, ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية, إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم, ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم, لأن الإسلام حين يحكم سينشّئ الشعوب نشأة أخري, وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة, وأن طرد المستعمر فريضة, وأن الشيوعية كالاستعمار وباء, فكلاهما عدو, وكلاهما اعتداء..

الأمريكان وحلفاؤهم إذن يريدون للشرق الأوسط «إسلاما أمريكانيا».. يجوز أن يستفتي في منع الحمل, ويجوز أن يستفتي في دخول المرأة البرلمان, ويجوز أن يستفتي في نواقض الوضوء, ولكنه لا يستفتي أبدا في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي, ولا يستفتي أبدا في أوضاعنا السياسية والقومية, وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات.. فالحكم بالإسلام, والتشريع بالإسلام, والانتصار للإسلام لا يجوز أن يمسها قلم, ولا حديث, ولا استفتاء...»

*  *  *

وهذه الصورة التي قدمها سيد قطب «للإسلامم الأمريكاني» من نصف قرن اعتمادا علي رؤيته الميدانية الموضوعية «لأمريكا من الداخل» هي نفسها الصورة الوحيدة «المشروعة» للإسلام الذي تريده أمريكا للشعوب المسلمة حاليا, وإن كانت الأخيرة أكثر تفصيلا, وأصرخ ألوانا, وأجهر صوتا, وأقوي صراحة, ولكن الخطوط الرئيسية واحدة, وقاعدة القواعد خلاصتها: أمريكا تقنن, وتشرع, وتوجه, وعلي الآخرين - حكاما, وشعوبا - التنفيذ والتسليم, ومن ليس معها حسما وقطعا, فهو عليها, ولو كان محايدا. فهي لا تعترف إلا باللونين: الأبيض والأسود, أما الرمادي فلا وجود له في نظرها, ومن ثم: ليس هناك إلا مكافأة, أو عقاب

وحتي يأتي هذا الإسلام الجديد في صورته «الأمريكية النموذجية», اتخذت وتتخذ خطوات وإجراءات منهاا:

- تجريد الإسلام من الطوابع السياسية, وقواعد الحكم والجهاد, والإعداد العسكري.

- حصر الإسلام في الجوانب التعبدية والروحية, والتركيز علي هذه الجوانب في المساجد, والتعليم, والإعلام.

- التوسع - بإسراف شديد - في إبراز خلق العفو والتسامح وحسن الجوار علي حساب تنمية سمات العزة الذاتية, والاعتزاز بالأرض والعرض والوطن.

- الاعتماد علي منطق البتر والمغالطة والتلفيق لتبرير غدر الحكام وخطايا الكبار في السياسة والحكم, فحينما عقدت «كامب ديفيد» و«أوسلو» وغيرها, رأينا الساسة وعلماء السلطة يتمثلون بقوله تعالي: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله..», ولم يبرز واحد منهم قوله تعالي: {فان لم يعتزلوكم ويلقوا اليكم السلم ويكفوا ايديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم} [النساء: 91].

إغفال وقائع الانتصارات التي سجلها المسلمون في عهد النبي -صلي الله عليه وسلم - وخلفائه وسلفنا الصالح, وخصوصا تلك التي تثير في نفوس الصهاينة الحساسية والغضب, كانتصار النبي صلي الله عليه وسلم علي التجمعات والمستوطنات اليهودية وتطهير المدينة وما حولها من بني قينقاع وبني النضير, وبني قريظة وخيبر.

- وكذلك إغفال الريادة العلمية للمسلمين في مجال البحارة والطب والكيمياء والجغرافيا والفلك, وهي ريادة لا يمكن نفيها تاريخيا.

- التضييق علي التعليم الديني بإلغاء معاهده (كما حدث في اليمن, ويحدث تدريجيا في باكستان) وتجفيف روافده, والتخفيف من مقرراته حتي يتحول إلي تعليم مدني بالتدريج.

- تقييد حرية خطباء المساجد, وتوحيد خطبة الجمعة والعيدين, وقصر رسالة المسجد علي أداء الصلوات.

- تهميش مادة «الدين» في المدارس المدنية بحيث لا يكون له تأثير بالرسوب والنجاح, وتحويلها إلي مفاهيم أخلاقية عامة.

- إبعاد المعلمين المتدينين عن حقل التربية والتعليم إلي وظائف إدارية لا صلة لها بالتعليم والتوجيه, أو التأثير في الجماهير وخصوصا الشباب.

- ضرب الحركات الإسلامية ذات التأثير مهما كانت معتدلة بدعوي أنها متطرفة مخربة.

وأخيرا نقول: ما أشبه مطلع القرن الحادي والعشرين, ببداية منتصف القرن العشرين ورحم الله سيد قطب شهيد الإسلام والمسلمين.