العيش في الزمن الصعب!!

حسام مقلد *

[email protected]

لاشك أننا جميعا نواجه عقبات جمة وصعوبات كثيرة في هذه الحياة، وليس بغريب أن نستمع للشكاوى الدائمة من الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والغني والفقير، بل ومن العاقل الناضج والغر الأحمق..!! فقد أصبح الملل والضيق والاكتئاب سمة بارزة من سمات هذا العصر؛ حتى صار يُعرف لدى العديد من علماء النفس والاجتماع بأنه عصر القلق والاكتئاب والتوتر الاجتماعي...!!

وهناك من الناس فريق كبير وقطاع واسعٌ أبرزُ سماته التوجُّع الدائم والتَّشكي المستمر، وكأن حياتنا كلها شر متواصل وسلبيات متتابعة لا خير فيها، وكثير من هؤلاء يعشقون العيش في دور الضحية، ويهوِّلون المواقف التي تمر عليهم، ويُبْدعون في حشد الكثير من العوامل والأسباب التي تقف وراء فشلهم، وعدم تحقيق أي هدف من أهدافهم، وتجدهم يبررون ذلك دائما بمبررات غير واقعية، فيوهمون أنفسهم بتلك الأسباب والعوامل؛ لتصنع لهم درعا واقيا، ولكنهم في الواقع يزرعون بذلك في أنفسهم كثيرا من اليأس، ويكدسون فيها كتلا قاتمة من الأحزان، فتضيِّقُ عليهم سبلُ الحياة رويدا رويدا...!!

وفي المقابل نجد فريقا آخر أقل عددا وأضعف ناصرا يرى أن هؤلاء الناس ليسوا محقين في هذا التذمر الدائم والتبرم المستمر؟ ويتساءل أصحاب هذا الفريق في اندهاش: أليس هذا العصر هو عصر التقنية وثورة المعلومات؟ أليس هو عصر التطور والتقدم والرفاهية؟ بل ويزعمون أن الإنسان العادي يتمتع الآن بقدر كبير من الترف والرفاهية التي ربما لم يتمتع بمثلها في الماضي بعض الملوك والأمراء، أو الأثرياء والسادة...!! ويحاولون إقناعنا بقولهم: إننا لو نظرنا فقط إلى الطعام والشراب لوجدنا ألوانا لا تعد ولا تحصى من نعم الله تعالى علينا من المآكل والمشارب تتوافر لأغلب الناس دون عناء، فقط يكفي الواحد أن يفتح ثلاجة منزله ليجد الماء البارد، والعصائر اللذيذة المتنوعة، وعددا كبيرا من الأطعمة والمأكولات الشهية..!!

ويواصل أنصار ذلك الفريق تساؤلاتهم المستنكرة قائلين: إذا كان الأمر على هذا النحو إذن لِمَ الضجر والملل؟! لِمَ الضيق والتبرم؟! وهل الناس محقون في إبداء كل هذه المشاعر السلبية تجاه بعضهم وتجاه الحياة؟!لِمَ لا نسمع دائما عبارة: الحمد لله ..؟!! نعم (الحمد لله) على نعمه الكثيرة، وأولها وأهمها نعم الأمن والوطن الآمن، ولو أن أحدنا نظر يمينا أو شمالا لوجد الناس يُتَخَطَّفُون من كل مكان ويعانون أشد المعاناة ... فَلِمَ لا نسمع عبارة: الحمد لله .. إلا قليلا ؟!! وصدق الله القائل ـ سبحانه جل شأنه ـ: "وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" [سبأ : 13]

الحقيقة هناك حيرة كبيرة تجاه موقف كلا الفريقين، فهناك مشاكل كثيرة ومعاناة قاسية وفقر وحرمان تعانيه شرائح واسعة من المجتمع ، ويكفي أن نعرف أن نحو 40% من المجتمع المصري على سبيل المثال تحت خط الفقر كما تذكر بعض الإحصائيات الرسمية، لكننا عندما نتحدث عن الحياة بالمعنى الواسع للكلمة، وننظر حولنا ونتأمل نجد هناك نعما عظيمة أنعم الله تعالى بها علينا، قال عز وجل:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)" [إبراهيم : 32 ، 34]

بالقطع لدى كل واحد منا مبرراته القوية التي تدعم آراءه وتسوِّغ انفعالاته ومواقفه في الحياة، لكن في رأيي ـ المتواضع ـ أن السبب الحقيقي لكل ما نعانيه من اضطرابات وأزمات فعلية في حياتنا هو أن الرقي المادي المتسارع باستمرار لم يواكبه رقي فكري موازٍ، ولم يصاحبه رقي أخلاقي وتمسك بالمبادئ والقيم والفضائل الإسلامية النبيلة، ومن ثم تغوَّلت روح المادية فينا، واكتسبت ديناميكية الحياة الطابع المادي الجاف، القائم على منظومة جامدة من الآليات والتدابير الصارمة القاسية، وتضاءلت مساحات المشاعر والأحاسيس الإنسانية الرقيقة، وخفتت الدوافع الدينية، واكتفى الكثير من الناس بالواجبات فقط، وتوارى كثير من الأخلاقيات الاجتماعية الرائعة مثل النجدة والمروءة والشهامة والمؤازرة، وكادت مظاهر المساندة المعنوية والدعم النفسي والتعاطف الوجداني تتلاشى من حياتنا، وقل الإحساس بالجماعة وزاد التوجه الفردي، وتترسخ كل يوم الميول الفردية الذاتية وتتقلص مساحات الاهتمام بالجماعة ومصالحها؛ ومن ثم يزداد تهميش الآخر وتُتَجاوز مشاعرُه في أغلب الأوقات، ويكاد لا يلتفت إليه أحد...!!

والمشكلة تتفاقم عندما يجد المرء نفسه محاصرا بهذه الثقافة الجديدة التي تجتاح جميع المجتمعات الآن، فيقف حائرا لا يدري ماذا يفعل؟!! هل يعامل الناس بنفس البرود والتجاهل الذي يلقاه منهم؟! هل يتصرف مع الناس بنفس الطريقة من الزيف والخداع وإضمار السوء والشر وإظهار الخير؟! أليس من النفاق والرياء والخيانة أن يبدي المرءُ للناس عكس ما يبطن لهم؟! أم أن هذا الأسلوب في التعامل هو أنجع الأساليب حتى لا يتصادم المرء مع غيره ويفتح الباب على مصراعيه لمناكفات ومشاحنات ومضايقات لا تنتهي؟! ألم يجرب البعض الإخلاص والشفافية والخوف الشديد على العمل فما كان جزاء الواحد منهم سوى إساءة الظن به، وتشويه سمعته، والوشاية به، واتهامه بالرياء والتصنع والتزلف والتقرب للمسؤولين؟! ألم نشاهد كثيرا في حياتنا المعاصرة ملاحقة المخلصين المجتهدين بألسنة حداد، وكيْل الاتهامات لهم، وترويج الإشاعات ضدهم، وشن الحروب الباردة عليهم من أقرانهم وزملائهم حسداً من عند أنفسهم؟!

إذن ما الحل؟ وكيف العمل؟ هل ينعزل المرء عن العالم وينكفئ على نفسه؛ ليصونها من طعن الطاعنين، وتشويه الموتورين، وإساءات الأعداء والحاقدين؟ أم يتحمل جمود المشاعر وغلظة وجفاء الكثيرين، ويصبر على وشايتهم به وسعايتهم للوقيعة بينه وبين غيره وتشويه صورته أمام الناس؟!!!

في الحقيقة أنا رغم احترامي لكل ما سبق من مشاعر، واتفاقي مع الكثيرين فيما يرددونه من أفكار تؤكد أننا نعيش في الزمن الصعب إلا أنني متفائل بطبعي، وواثق في رحمة الله عز وجل ثقة مطلقة، وأنا على يقين من أننا ورغم وطأة ثقافة العولمة والغزو الفكري الخطير إلا أننا لا نزال بخير، نعم المجتمعات العربية والمسلمة لا تزال وستظل بخير بإذن الله تعالى، حقا المجتمعات العربية الإسلامية تمر بفترة انتقالية لكنها تثبت كل يوم بفضل الله سبحانه وتعالى أنها مجتمعات صالحة محبَّةٌ للخير ميَّالة للسلام والهدوء، وتسعى للرقي والتطور مع الحفاظ على الدين والأخلاق، وتحرص على التحلي بالمبادئ والقيم والفضائل والمثل العليا...

إنني بفضل الله مطمئن جدا على مستقبل المسلمين، ومتفائل لهم بالخير الكثير بأمر الله تعالى، ولكننا نحتاج إلى مزيد من الرفق واللين والتعامل بتؤدة وسكينة في كل المواقف والمجالات، وعلى الرجال المخلصين الأوفياء وهم كثر في مجتمعاتنا العربية المسلمة ولله الحمد والمنة أن يتحلوا أكثر وأكثر بروح التضحية والصبر والبذل والعطاء، وبث الثقة والطمأنينة في النفوس، والعمل على نشر ثقافة الأمل والتفاؤل في الجميع، وإبداء المزيد والمزيد من التراحم والتواصل والبذل والتضحية والعطاء والإخلاص والتجرد لله تعالى، وانتظار الأجر من الله وحده، ولنعلم أن النصر والفوز سيكون حليفنا في النهاية قال سبحانه وتعالى:" فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" [الرعد : 17] وختاما أؤكد على نقطة مهمة هي أهمية التحلي بعلو الهمة والتفاؤل الدائم مع الصبر والتحمل واحتساب الأجر عند الله تعالى "إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ " [هود : 88]

           

* كاتب إسلامي مصري