وحدة العراق

أ.د. عبد العزيز الدوري

وحدة العراق...*

هذه كلمة التاريخ، وحين يتحدث التاريخ

لا يبقى مجال لقول انتهازي أو تلفيق أو تزوير

شيخ المؤرخين العرب أ.د. عبد العزيز الدوري

ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة جديدة هي فكرة تقسيم العراق، ولم نسمع أحدا من العراقيين يدعو لها، إنما جاءت الدعوة بناء على قرار قالوا انه غير ملزم من الكونجرس أصدره ليحل به مشاكل العراق. يدعو هذا القرار إلى تقسيم العراق إلى كيانات ثلاثة إستنادا إلى ألتعدد ألطائفي والعنصري، مما قوبل برفض شديد عند كافة فئات العراقيين في الداخل والخارج.

إن العراق من ناحية جغرافية يشكل وحدة طبيعية متكاملة بين البحر والسهول والجبال، وبحكم هذا الموقع الجغرافي، وطبيعة أراضيه، تميز العراق عبر التاريخ بميزات إجتماعية أسبغت عليه صفة التعددية في المذاهب والديانات والإتجاهات الفكرية، والمجموعات البشرية.

وكان أهل العراق يقيمون دولة واحدة على أراضيه في آن واحد، ولم يفكر أهله ولا الغزاة بتقسيمه أو بإنكار وحدته.

ففي العصور القديمة قامت دول كبرى كالأكدية والبابلية والآشورية، ولم يجد المؤرخ اليوناني تسمية لها غير بلاد ما بين النهرين.

وتعرض العراق للغزاة من الشرق والشمال الغربي، ولم تتأثر وحدته. وجاءت الفتوح ألإسلامية العربية فأكدت هويته، فكان موحدا في صدر الإسلام، حتى أن إدارته وشؤون الجبهة الشرقية (إيران وأواسط آسيا) التابعة له، كانت تعهد إلى أمير واحد.

وصار العراق بعد ذلك مركزا للخلافة لدولة موحدة لعدة قرون، ومركزا للثقافة والحضارة.

ولما ضعفت الدولة بقيام الحركات الإنفصالية، بقي العراق دارا للخلافة ومحورها.

ولما غزا المغول البلاد ألإسلامية، واجتاحوا العراق، لم يسعوا إلى تقسيمه، بل بقي موحدا بكيانه الإجتماعي والثقافي لأنه كيان غير قابل للتجزئة.

وتوالت الأحداث، واستولى العثمانيون على العراق، وبقي ساحة صراع بين جارتيه ألدولتين من الشرق والغرب، ولكنه بقي موحدا، ونظم إداريا ولكنه يعتبر كيانا خاصا واحدا. وتتحدث الدراسات الرئيسية الحديثة (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) و(ألعراق بين احتلالين) أي العثماني والبريطاني. تقول هذه ألدراسات بأن العراق وحدة رغم كونه أصبح جزء من ممتلكات الدولة العثمانية.

ومما يؤكد وحدة العراق وكيانه، دوره ألتاريخي والحضاري. فقد قامت على أراضيه حضارة من أقدم الحضارات البشرية. ووضع أهله أقدم الشرائع والقوانين، بخاصة شريعة حمورابي وهي أشهر من أن تعرف.

وفي الدولة الإسلامية، كان دور العراق رائدا في بناء الثقافة والحضارة العربية الإسلامية، ليصبح في العصر العباسي مركزا رئيسيا لهذه الثقافة والحضارة، وملتقى ألعلماء والباحثين والفقهاء والأدباء. وهذا يؤكد أهمية الموقع، والبيئة الإجتماعية المفتوحة، والنشاط الفكري لمتكامل، إضافة إلى المجالات ألوافرة للكسب والتقدم، والجو الآمن ألذي كان يشجع ذلك، مما بقي سمة بارزة من سمات العراق، وكون نسيجا إجتماعيا متكاملا، متماسكا يتعذر تفكيكه، بل كان سببا في إغناء الثقافة وفي إزدهار لحضارة.

أريد أن أقول أن هذه التعددية كانت مصدر قوة واستقرار، وليس مصدر ضعف وانقسام، وكانت مصدر غنى في الثقافة والبناء، ولم نسمع عن صراعات مذهبية أو عرقية، أو حروب دينية، أو تهجير فئات وإبقاء أخرى بل كان التعاون والتآلف والوحدة رائد ألجميع.

بعد الحرب العالمية الأولى، وضعت إتفاقية سايكس بيكو التي إقتطعت قسما من العراق ولكن ذلك لم يطبق لأنه يناقض ألواقع والإرث التاريخي.

ولكننا نواجه الآن بقرار من الكونجرس بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات تحت راية الطائفية والعنصرية، وبحجة تحقيق الإستقرار وحل المشاكل، متجاهلين بذلك التاريخ ألطويل، وهو يناقض الإرث التاريخي لهذا ألبلد، وينقض أبسط الحقوق العامة لأبنائه.

ومن الطبيعي أن تعلن جل الفئات في العراق رفض هذا القرار لأكثر من إعتبار، منها :

اولا: لأنه يقضي على دور دولة مهمة في المنطقة لها إمكاناتها.

ثانيا: يؤدي إلى تمزيق هذا النسيج المتماثل، ويخلق كيانات هزيلة، لا تستطيع تدبير أمورها، بل قد تكون هدفا لأطماع آخرين وسببا للمشاكل في المنطقة.

ثالثا: لا يحل المشاكل الداخلية، بل سيكون سببا في مقاومة داخلية شديدة وفي صراعات لا نهاية لها، بل لا يمكن في العراق أن يكون معزولا عن المنطقة، بل قد يكون بداية لمشروع تجزيئي أوسع.

بين الدوري وابن الأثير

يقترب الزمن

حينما رأيت السنة النيران تتصاعد من دور العلم وخزائن الكتب والمخطوطات في بغداد، اصبت بفقدان الثقة بكل شيء، وصرت أشعر بعدم جدوى ما نعمله – نحن المشتغلين بالتاريخ- في الحفاظ على تراث الامة. فما اهمية تحقيق مصدر او نشر كتاب مقابل سرقة وإحراق تلك الكنوز النفيسة التي لا تعوض.

حملت هذه الهموم والاحزان وغيرها الكثير، وهرعت الى الدكتور عبدالعزيز الدوري لازيحها عن صدري بعد ما اسودت الدنيا بوجهي، وضاقت علي رحابتها، فاستقبلني كعادته بالبشر، مبددا كل الغضب الذي انتابني من جراء غزو بلادي من قبل لصوص النهار الذين ينقمون على كل ما هو حضاري.

شكوت له كثيرا، وبحت له بشعوري الجديد.. عدم اهمية ما اقوم به من عمل في التاريخ والحضارة والتراث.

استمع الي بكل جوارحه، وادرك بحسه التاريخي العظيم.. بحس العالم، ادرك سورة الغضب التي تملكتني، فسكت، ثم جر نفسا عميقا بعد دقائق من الصمت. ثم قال : العراق بموقعه الجغرافي المميز، وبمكانته الحضارية المعروفة تعرض للكثير من النكبات، وسيبقى يتعرض لها طالما بقي في العراق علم، وعقول تفكر، لكن التاريخ اثبت ان العراق ينهض من جديد بعد كل كبوة. نهضة تفوق سابقتها. كان علينا ان لا نصاب بخيبة أمل فنترك تراث الامة نهبا للغزاة. بل علينا مضاعفة العمل، فمن يستطيع ان ينشر كتابا، عليه تجميع قواه لينشر كتابين، وهكذا. وينبغي ان نهتم بالتاريخ وتدريسه كي يكون اساسا صلبا، تقوم عليه نهضة جديدة.

ولكن علينا ان نقف وقفة تأمل ومراجعة. فنحكم على انفسنا، هل قدمنا تاريخنا المجيد بالصورة الصحيحة والحقيقية؟ وانما قدمناه على انه سلسلة من الصراع الطويل، والحروب التي لا يبرز فيها الا السيف والرمح والدماء، واهملنا صور العلم والفن والسلام.

وعلى الرغم من التزامه الشديد كمؤرخ، فإنه لم يعففِ نفسه من عدم النجاح في تقديم التاريخ بطريقة محببة. مؤكدا على وجوب إعادة كتابة التاريخ، وربط مراحله ترابطا منطقيا، وصياغة مناهج تدريسه صياغة تناسب ماضينا الزاهر، وتطلعاتنا المستقبلية.

وإذا ظن الغزاة انهم افرغوا العراق من كنوزه الاثرية والعلمية في هذه الحرب الثقافية المعلنة، فإنهم غافلون عن العراقيين، لأن تاريخ العراق وامجاده حاضر دائما في نفوس ابنائه ووجدانهم، و محطات حضارتهم محفوظة في قلوبهم اكثر من حفظها على رفوف المتاحف والمكتبات.

وكم كان الدوري كبيرا حينما سألني: وكيف تفكرون انتم معشر الشباب؟ فانتم اقرب للناشئة والاجيال الجديدة، ولعلكم اقدر على فهمهم.

لقد شعرت بانني حملت الدوري ألماً فوق طاقته وهو الإنسان المرهف الإحساس، والمؤرخ المدرك تمام الإدراك لحجم النكبة الثقافية التي حدثت، وهو غير مسؤول عن صنعها او تفادي وقوعها. حينها لمت نفسي وأشفقت عليه من حجم الهموم التي يحملها.. إنها هموم الأمة. كان يتحدث وقلبه يعتصر ألماً على كنوز العراق الثقافية، ومستقبل العراق، لكنه اخفى ألمه ليداوي ألمي. وقد فعل. فلله درك يا أبا زيد، ما أسماك وما أكبر قلبك.. قلبك الذي يتسع لكل هموم وأحزان الأمة، وآمالها وتطلعاتها وبعث نهضتها.

وهكذا قدر المؤرخين، تُلقى على كواهلهم مسؤولية تفسير الاحداث دون ان يكون لهم دور في صنعها، ومسؤولية تفسير اخطاء السياسيين وهم لم يرتكبوها، بل ولم يكونوا راضين عنها.

قال أخيرا: يجب ان نعمل شيئا يجب يجب. ولكن لتننتظر انجلاء غبار المعركة، فقمت وللحديث بقية....

خرجت من عنده وانا في حال أخرى من الامل والنشاط والتصميم على دحر العدو الغازي، ودحره بالقلم وليس بالبندقية. وبمجرد خروجي تراءى لي ابو الحسن ابن الاثير ذلك المؤرخ الكبير المتوفى سنة 630 هـ، فقد قال حينما دخل التتار بلاد الإسلام سنة 617 هـ :

"لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها، كارها لذكرها، فأنا أقدم اليها رجلا، وأؤخر اخرى، فمن ذا الذي يسهل عليه ان يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت امي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. إلا اني حثني جماعة من الاصدقاء على تسطيرها، وانا متوقف. ثم رأيت ترك ذلك لا يجدي نفعا، فنقول هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقت الايام والليالي عن مثلها عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم الى الآن لم يبتلى بمثلها لكان صادقا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يداينها. ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة، الى ان ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج".

هاهم يأجوج ومأجوج يغزون بغداد وينهبونها ويسرقونها في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من العالم. يشهدهم ابن الاثير مرة، ويشهدهم الدوري مرة اخرى، وكلاهما يصاب بصدمة وذهول. لكن ابن الاثير لم يتجاوزها إلا بعد عدة سنين. أما الدوري فيتجاوزها سريعا، ويبث الامل في عودة الروح لبغداد من جديد

 شبكة البصرة

               

*القيت بالنيابة عنه في المهرجان الذي اقيم في 8/10/2007 في مجمع النقابات في عمان بالأردن تأكيدا لوحدة العراق و قد قدم للكلمة بالقول: هذه كلمة التاريخ، و حين يتحدث التاريخ لا يبقى مجال لقول انتهازي او تلفيق أو تزوير.