ليس دفاعا عن العلمانية

إذا كانت هذه هي العلمانية فأين العلمانيون؟!!

زهير سالم*

[email protected]

لست علمانياً..

ولا أرتضي المشروع العلماني. وأبذل ما وسعني الجهد لتكون خيرة الله فوق خيرة البشر. ولكني أعتقد أن المنهج العلماني حين يقوم على قواعده وأصوله يبني حالة أرقى بكثير، مما نسمعه ونعايشه ونعانيه، حتى صرنا كما تقول العامة: مثل... لا دنيا ولا آخرة.

 للمشروع الإسلامي شروطه وقواعده. وللمشروع العلماني شروطه وقواعده. وأزعم أن المشترك بينهما أكبر، لولا بعض الهوى الذي يصد عن سبيل الله. وبينما قدم المسلمون في العالم العربي العدد الأكبر من الأوفياء والشهداء، فقد ظل المشروع العلماني، من غير غمط لصاحب فضل، بدون رواحل صدق ووفاء. اللهم إلا إذا اعتبرنا طلائع عصر النهضة بمعنى ما علمانيين، وهم لم يكونوا كلهم كذلك، فقد كان لأصحاب المشروع الإسلامي فيهم نصيب أوفى..

 لم يجد المشروع العلماني بأبعاده الأساسية القاصدة نخبة تتبناه بصدق، وتدافع عنه، وتضحي في سبيله كمشروع كلي له أصوله وفروعه. كل ما حظيت به العلمانية العربية هو نفر من (المُقْتَسِمِينَ)، حسب التعبير القرآني، الذين أمسك كل واحد منهم من العلمانية بطرف تلبية لنازع، أو خدمة لمأرب، أو إشباعا لنهمة في ذات نفسه؛ فكان أمر العلمانية بينهم كحقيقة الفيل تتعرف عليه مجموعة العميان.

 ولم يجد المشروع العلماني العربي بالتالي القاعدة الشعبية التي يرتكز عليها، وتضحي من أجله. الأحزاب العربية، التي تذرعت بالعلمانية ووصلت إلى السلطة وضعت قواعد الحياة العلمانية الحقيقية خلفها ظهرياً. وتبنت لنفسها مناهج ذات خصوصية ربما لا تجد لها في جدول تصنيف الأنظمة السياسية عنوانا. وكانت الحرية الفردية والجماعية سرُّ العلمانية وروحها أول الموؤدات.

 وأصبحت العلمانية بفعل طروحات ومواقف بعض دعاتها، وشيء من كيد خصومها أيضا، صورة شوهاء، ودعوة إلى الكفر والفسق والفجور. والحقيقة أن كل من مر بوادي سلمى العلمانية يعلم أنها محايدة بالنسبة لجميع الأديان والعقائد والأفكار، وأنها منحازة فقط إلى حرية الإنسان واختياره، وليس إلى كفر أو إيمان..

 كان مقتل العلمانية الأول أن المتحدثين باسمها – زعموا - حملوها إثم الدعوة إلى الإلحاد، وانحازوا باسمها إلى الاستهتار بالقيم على مسرح دعوات الأنبياء..

 ثم لنتصور دعوة المسيح عليه السلام بلا حواريين (قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ..). ولنتصور دعوة الإسلام بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من غير أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وخالد..

 مع كل دعوة ناجحة جيل من الأوفياء والشهداء وأصحاب التضحيات..( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ).

 رُفع أصحاب عيسى بن مريم على الخشب، ونشِّروا بالمناشير، وكان فيهم ومنهم أصحاب الأخدود...

 وخرج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن أموالهم وأهليهم وديارهم وضربوا في الأرض تضحية وفداء وقدوة وعطاءً..

 ونتساءل هنا مع المتسائلين: عن حملة المشروع العلماني الأوفياء له بأبعاده الحقيقية ولوازمه الأساسية، كمشروع للحرية الإنسانية في إطاريها الفردي والجماعي. عن العلمانية كمشروع نهوض يقوم أساسا على إرادة الإنسان الحر المختار.؛ أين هم هؤلاء العلمانيون الذين ينصبون أعناقهم هدفا لسيف الجلاد، لتمكين مخالف من حقه في التعبير؟ ولماذا لا نسمع على ألسنة أدعياء العلمانية غير عبارات الندب والتحريض والدعوة إلى الإقصاء والتخويف؟ في الفهم العلماني الأصيل أن كل ما تنتجه الحرية هو علماني، تقدسه العلمانية وتدافع عنه مهما كان التقويم الموضوعي له.

 وعلى أساس تقديم الخيار الإنساني الجماعي والفردي كل في إطاره، سبق العلمانيون في الغرب إلى تجريد البنى الأساسية التقليدية منذ القرن الثامن عشر من صلاحياتها وأدواتها السلطوية، فأعلنوا فصل الدين عن الدولة. لكي لا يكون للدين لا بنصوصه ولا بهيئاته ولا برجاله سلطان على الدولة ومؤسساتها، وخلّت العلمانية بين الدين أو أي سابق آخر غيره وبين الفرد سلوكه وضميره.

 ولم تكن الدعوة العلمانية حين صادمت الكنيسة والإكليروس في الغرب تصادم الدينَ في الكنيسة، وإنما كانت تصادم النزوع السلطوي لديها. كانت الثورة العلمانية التي واكبت الثورة الفرنسية تجاهد لتحرير (الاختيار الإنساني) من كل هيمنة علوية مسبقة. مصرة على تحرير هذا الاختيار من كل سلطان سابق وليس من سلطان الدين فقط. كانت الدعوة العلمانية منصبة على تحرير الاختيار الإنساني من جميع أشكال الإكراه السلطوي. العلمانيون أو المنتسبون إلى العلمانية في العالم العربي لم يجرؤوا، خوفا من صاحب السلطان، أن يعلنوا مذهبهم عبر هذه البوابة، بوابة الدعوة إلى حرية الاختيار وتجميلها والتنديد بسياسات الإكراه مهما كان مصدرها؛ ولو فعلوا ذلك من حيث المبدأ ربما لوجدوا شرائح أكبر من أبناء المجتمع تناصرهم وتتعاطف معهم.

 وجد العلمانيون العرب، الذين دخلوا الساحة العامة في عصر غربة الإسلام، وأفول شمس دولته، وانتصار الغرب السياسي والثقافي والاقتصادي منذ غزو نابليون لمصر، وجدوا في (الإسلام) و(أهله) جداراً واطئاً فركبوه. ووجدوا في أصحاب السلطان الذين أخذوا مكان (النص) و(الكنيسة) و(البرلمان) جانباً خشناً فهادنوه، ورأى فيه بعضهم ضرعاً مدرا فاحتلبوه.

 ولم يكن لمن سُموا بالعلمانيين العرب غير الدين يقللون من قيمته، ويسخرون من نصوصه، ويحاربون دعاته وأتباعه. وراقبت المجتمعات المسلمة التي لم يكن لها تاريخ سلبي مع الإسلام: العقيدة والشريعة والدعاة. فأدارت ظهرها للمشروع وللمتخبطين باسمه. وخطت لنفسها طريقاً بين الفرث والدم لتصنع حالة مجتمعية جديدة، ربما تعجز مباضع الجراح عن الفصل بين خيوطها.

 وزاد من سُموا بالعلمانيين العرب الطين بلة، فكما أنهم لم يطرحوا المشروع العلماني بالأمانة التي يستحق. وبالأسلوب الذي يحرص عليه (الداعية) لإقناع الجماهير بدعوته، فإنهم تجاوزوا عند التطبيق، فإذا لهم مكاييلهم المتعددة يكيلون كل واقعة بمكيال. وهم في كل أحوالهم إنما يشهدون على أنفسهم فعل ما قيل عن بعض من يسمى رجل الدين من قبل..

 يحرم فيكم الصهباء ظهراً

ويشربها على عمد مساء..

 فكيف نستطيع أن نفهم ونُفهم الجماهير من حولنا أن الرسوم الكاريكاتيرية في الدنمارك حرية تعبير وإبداع ينبغي أن تُحترم، وأن الخروج السلمي للاحتجاج عليها جمود ورجعية وتخلف وإرهاب..!!

كيف يستطيع العلماني العربي أن يفسر للمواطن البسيط أن من حقه وحق كل باحث أن ينتقد (النص المقدس) يعني القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأن العقل حر في النقد، ولأن ديكارت علمنا أن نضع جميع الحقائق قبل أن نقبلها على محك الشك. وأن علينا ألا نقبل القول بعصمة أحد.. ثم إذا حدث أن قال رجل (لمفتي) في المدرسة العلمانية أخطأت يا سيدي.. هبت عليه جوقة العلمانيين والعلمانيات تنتصر لواقعة وافقت هواها بنقض المبدأ العلماني القائم على نفي العصمة عن كل أحد، والتشجيع على النظر والنقد من كل أحد!! وحتى لو كان المخطِّئ مخطئا، فالعلمانية المنهج تقبل ذلك وتشجعه، لأنه انتصار لسابقة أن يقول المريد للشيخ لم؟! وأن تعيد المرأة التي رباها الإسلام الجواب في وجه عمر: ليس لك ياعمر..

 أما كانت المنهجية العلمانية تقتضي من العلمانيين أن يجعلوا من الواقعة سابقة تخدم توجههم. ليقرروا حقيقة أننا يمكن أن نراجع قول صاحب العمامة مهما كبرت. وأنه ما من صاحب قول إلا ويؤخذ منه ويرد عليه، هل علينا أن نشرح للعلمانيين الذين يكتبون عن (العقل المستقيل في الإسلام..)،وصفة تشرح في التعاطي العقلي ( طريقة الاستعمال)!!

 كيف يقنع العلمانيون المجتمع بحرية الإنسان وطلاقة اختياره وقدسية هذا الاختيار، وهم ينتصرون لحق الفرد، ذكرا وأنثى، أن يخلع من ثيابه ما يشاء حيث يشاء متى يشاء، ثم هم فجأة يتكأكؤون خلف الذين ينكرون عليه أن يلبس ما يشاء حيث يشاء متى يشاء. معركة النقاب لا ينبغي للعلماني أن يخوضها تحت عنوان أن النقاب رمز ديني أو دنيوي، لأنه إن فعل طعن منهجه ( حرية الاختيار الإنساني وجدارته ) في الصميم.

 قضية النقاب حسب المعطى العلماني نفسه هي قضية الخيار الفردي الإنساني. وعندما ينتصر العلماني لحق الإنسان في اختيار ما يلبس، فهو ينتصر لشرعته ومنهاجه وليس لواقعة يعترض على فرعها. هذا وزير العدل البريطاني جاك سترو، ولا أظن أحدا يشكك في علمانيته، يقرر ليس من المقبول أن نقر تشريعا علمانيا في شأن النقاب، يقرر هذا في البرلمان البريطاني؛ هذا رجل يحترم علمانيته ويقدمها أيضا لمخالفيه منهجا يستحق الاحترام. العلماني الذي يحشر نفسه ليحدد لغيره مضمون الاختيار هو كاهن محكمة التفتيش بعينه لم يتغير في وعيه غير الثياب.

 وفيما تنتشر في عالم الغرب الأمريكي والأوربي مئات الجمعيات التي تعمل ليل نهار للحد من سلطان المشروبات الكحولية ( الخمر) على المجتمع، وآثار هذه المشروبات المدمرة صحيا واجتماعيا واقتصاديا، وانعكاساتها المباشرة على كثرة جرائم العنف الواقعة على المرأة وأفراد الأسرة بشكل خاص؛ يتباكى بعض العلمانيين في وطننا على جفاف الأحياء السورية من الحانات والخمارات، و يفتقد علماني آخر في مجتمعنا ناديا للمثليين ، وثالثة تبشر رفيقات دربها أنهم بدؤوا يصنعون غشاء بكارة في الصين بكلفة أربعة دولارات فقط...( يا بشراها..)، ورابع يحرض على صاحب عقيدة أو رأي، وخامس يتخوف من المصلين في مسجد، وسادس يضع الشيخ القرضاوي على المحك الصهيوني ويقومه على هذا الأساس، وسابع وثامن...

  كفى أرجوكم..

 للمشروع العلماني الحق آفاق أسمى من هذه الترهات.. إنه مشروع لحرية الإنسان أرادها القوم مطلقة بلا قيد، وسبقنا إليها وما زلنا ندافع عنها، ونضحي من أجلها عليها غلالة من نور الله..

 ما أكثر ما حذر المسيح عليه السلام من الرسل الكذبة، وفصل محمد رسول الله في وصفهم: فقال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب..

              

(*) مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية