هذه الحياة مبنية على الاختيار

حارثة مجاهد ديرانية

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

إن قلة من الناس فقط يعون هذه الحقيقة، حقيقة أن الحياة مبنية على الاختيار، ولعل ذلك لأنهم لا يريدون الاعتراف بحقيقة مرة لا يحبونها. فثمة أمور في هذه الحياة تمنعنا من أن نفعل أي شيء نريد ولا نستطيع معها إلا أن نختار -من بين قائمة لا تكاد تجد لها نهاية من الاحتمالات- إلا شيئاً يسيراً من ذلك.

فمثلاً يوجد "أنا" واحد فقط، و"أنا" لا أستطيع أن أسافر هذا الصيف إلى ماليزيا وأصيف "أنا" -في ذات الوقت- في الأردن، ولأنني محدود بشخصي الواحد كان علي أن "أختار" بين الذهاب إلى ماليزيا أو الأردن ولم  أكن أستطيع جمعهما معاً.

ومالي محدود، فلو كنت أملك مئة ألف ريال ما استطعت أن أشتري بها شقة لنفسي وسيارة جديدة في نفس الوقت، ولكنني أستطيع أن أختار إما أن أشتري سيارة جديدة أو أضع المال في دفعة أولى لامتلاك شقة سكنية.

ووقتي وطاقتي البشرية محدودان أيضاً، فلا يمكنني أن أصبح فقيهاً عظيماً وعالم أحياء بارزاً وأشهر لاعب لكرة السلة في العالم في آن معاً مهما اجتهدت، لأن عمري كله لا يكفي لذلك ولو أردت وعملت بجد، ولكن أستطيع أن أختار واحدة منهن وأعمل لها.

لقد كتبت مقالي هذا لأبين للناس أن أي اختيار في هذه الدنيا -مهما كان- لا بد أن يترتب عليه التضحية باختيار آخر بدلاً عنه؛ فلو أنني كنت اخترت -في مثالي الأول- الذهاب إلى ماليزيا لضحيت بالذهاب إلى الأردن لأجل ذلك، ولو اشتريت السيارة في مثالي الثاني لضحيت بامتلاك الشقة.

وهذا مبدأ يعرفه الاقتصاديون ويفهمونه، فالاقتصادي لا يقيس أثمان الأشياء بالنقود بل بما ضحيت به في سبيل الحصول عليها. إنه يعتبر قولك إنك دفعت ألفي ريال ثمناً لاشتراك ناديك السنوي تعبيراً يفتقر إلى الوضوح ويسألك بدلاً عن هذا: ما هي أهم الأشياء التي كنت تهم بشرائها بالألفي ريال لو أنك لم تشترك بناديك؟ ما هو أهم ما ضحيت به لأجل ناديك وكنت تقدر عليه لولاه؟ فلو قلت له حاسوب وتلفاز حديث لقال لك هذا هو إذن الثمن الذي دفعته لقاء اشتراكك بناديك، لأنك "تركت" الحاسوب والتلفاز اللذين كنت تقدر على شرائهما لولاه (أي لولا دفعك النقود الألفين للنادي).

لقد اخترت (ولم يكن يمكنك سوى أن تختار)، وحينما اخترت اختيارك دفعت ثمنه أنك تركت أحسن الخيارات الأخرى. فإذا كان الذي اخترته أفضل من الذي ضحيت به فهذا معناه أن اختيارك كان صواباً، وإلا كنت مخطئاً.

وبعض الأمور لا يمكن جمعها ولا بد أن تختار من بينها لتعارضها. وقد أجلت مثالي الأهم لأختتم به مقالي القصير، فهل عرفتم ما هو؟

سأخبركم به يا سادة؛ إنه الاختيار بين لهو الدنيا في الفواحش والمحرمات وبين سعادة الآخرة! (وهديناه النجدين) فهذان متعارضان لا يمكن جمعهما معاً بل أنت مضطر للاختيار بينهما. فمن كان يجرؤ أن يدعي أن اللهو في الحرام شيء يستحق أن يضحي بالآخرة لأجله فهنيئاًَ له بلذته الزائلة!

والكَيِّس الفطن هو الذي يوازن بين الاختيارات بما لها وما عليها ثم يختار ما فيه مصلحته وسعادته الدائمة.