هل يعود أبي
عبد الواحد محمد
مهما علت الأصوات الأتية من المجهول فسيظل أبي رمزا لاينطفئ ومعه ذكريات تجسد حلم أننا هنا نصلي من أجل كل البشر ؟
ورغم كل الأحزان الدامية تذكرت نشيدنا العربي كل مساء ونحن في حضرته نتعلم كيف يصنع الرجال دون شعارات جوفاء ومقرارات بلهاء أو غرورسطحي أعتدنا أن نراه اليوم كثيرا بلسان بذئ فلم يكن أبي له هم غير همنا وحلم هو حلمنا يعمل ويكد دون شكوي وآنين وتعالي فلم ينزلق إلي لغة لانفهمها أولا نستوعبها أو يتشدق بها كأنه أمبراطور كوني ؟
نعم كان كيان وقلب كبير وعقل إبداعي ببساطته وعمقه التاريخي الحافل بكل مولدات زمن وعصر وحلم وفروسية تتجه صوب حريتنا مهما كانت المقادير!
فعرفنا منه الكثير والكثير وعلي رأس هؤلاء فارس العرب الأول بلامنازع صلاح الدين الأيوبي الكردي العربي المسلم عقيدة وسلام وتسامح ونبل وثراء إنساني بلاحدود والذي أنتصر علي الحملة الصليبية في مواجهة ريتشارد قلب الأسد الذي نكس لغة السلم واستبدلها بالحرب لينتصر الفارس المغوار العربي صلاح الدين الأيوبي وتفتح القدس بعد غلق طويل من عقود مزعومة فحرر المعتقد والإنسان من فوضوية الأفكار العابثة والمزاعم السفلية بحوار وعقل راجح فيه العدل أساس الملك ؟
نعم كان التاريخ يجسد له ولنا كينونة وطن ممتد بلا زمن وحد وفاصل وقصيدة عمياء تحمل صك اليتم إلي قبور التعساء وقاطعي الطريق بوعي وحكمة من يقدر الإنسان والوطن امرأة .. رجل .. ولشاعر الأردن عبدالسلام جادالله قصيدة تحمل ( صانعة القهوة ) وتحمل مدلول أمس ويوم في بوح غير مكتوم
ياصنعة القهوة
ياابنة خمسين شهيدا
يازوجة معتقل
وشقيقة متهم
يا أم صغار ماتوا دون تسلسل
أكلوا جزء رغيف قبل قدوم الجيش وناموا تحت الليل نشيدا
أكبرهم يعرف كيف يعد لعشرة
ويحب أغاني الثورة
والآخر يسعل أثناء التفتيش
فيسكته الجندي بما تبقي من طلقات
فيئن الإبهام علي شفتين بلاضحكات
وتعربد رائحة البارود وشرنقة الوردي
فتات
مولود بالأمس ولم تقطع صرته أم خليل
وبعد المغرب بقليل
حمل الجيران بقايا الجثة دون دماء
يدفن في الليل الفقراء
والشهداء
ياوطني
أهرب منك فألقاك علي كل الأشياء
في بحة أرغول تتمختر قرب زهور
الصيف
في صمتي نفسا يتأرجح بين الحزن والخوف
قرب أسرة أولادي
في ذاكرتي
في لون الطيف
ياوطني
ياوطن القصف .. ياوطن النزف .. ياوطن العزف ... ياوطن النسف
نعم كان أبي يجسد كينونة وطن عربي كبير وجلل بكل المعاني الخالدة والهاربة اليوم كم حملت قصيدة شاعرة الأردن عبدالسلام جادالله في رائعته ( صانعة القهوة )
وفي وقار يفتح باب الحوار علي مصراعيه ليعلمنا بطريقة غير مباشرة كيف ندلي بالرأي ونستمع إلي الآخر بلا رفض أو مصادرة !
ثم يبدي رأيه دون أن يشعرنا أنه الفذ المنتصر دائما ؟
هذه بعض من سطور أبي الذي تفتحت أعيننا عليه يقرأ جريدة الأهرام العتيقة بكل ما تحمله من ثراء فكري عربي إبداعي أصيل بلاخطوط حمراء وأزياء عارية وحلي زائفة ؟
فيبدي رأيه أيضا في سلسلسة مقالات شيخ الأدباء العرب في تلك الآونة ( توفيق الحكيم ) والتي كانت تجد صد من كثيرون من النخب المثقفة في ( حوار مع الله ) لم يزعجه المعني الحرفي واللفظي بل كان يري الفكر الإبداعي منحة ربانية رغم نشأته الأزهرية ؟
وزملاته للعديد من قمم الفكر الديني والإنساني آبان دراسته في معهد الزقازيق .. وطنطا الديني الأزهري زميلا لكل من الشيخ جاد الحق علي جاد والشيخ متولي الشعراوي .. وغيرهم من رفاق رحلته نحو عالم مقتوح ؟
فالتسامح كان عنوان فلسفته وجهه المشرب بحمرة عربية تحمل وسامة المشرق وديارنا العتيقة الأندلسية وأغلب تلاميذه كمعلم للأجيال من الأقباط في مدارس الأمريكان بمدينة المنصورة أحدي محافظات مصر الحبيبة فظل معلما وأب لهم لم يعرف تعصبا أو ينتقص من دور أحد فقيرا.. غنيا ..
أميا .. متعلما .. فكان حداثيا أكثر من كل العصور القادمة ؟!
وكان صديق رحلته الأستاذ سدراك مدير مدرسة الأمريكان العتيقة واسرته علي قائمة المدعوين عندنا في رمضان والاعياد الدينية هو واسرته كبيرة العدد والتي تزيد عن عشرة أبناء وبنات لافرق وكذلك كان الأستاذ سدراك يستقبلنا بنفس الحفاوة الدين لله والوطن للجميع فلا نشعر بأدني بفرق الكل يصلي من أجل وطن وأمة عريقة لاتعرف تعصب وطائفية وحقد وسموم كالتي نراها اليوم بلغة من يساوم علي الخسارة وليس المكسب ؟
فكان أبي عنوانا لكل تقدم وريادة وخبرة تذودنا بها صغارا في طور التجربة فيرتشف من فنجان قهوته المضبوط والذي مازالت محتفظا به في صندوقي الخشبي وهو يترنم علي صوت كوكب الشرق أم كلثوم روائعها التي فتحت كل الأبواب المغلقة لجهاد عربي بصير وأطلال وعمر ولحن الألحان الخالدة ؟
وفي مسبحته الحجازية يستغفر الرحمن و يقرأ في وجوهنا صوت ما هو قادم آباء مقامرون جدا .. خائنون .. زواج عرفي .. زنا .. فرقة ..
قتل .. تشريد .. حروب .. وامرأة هاربة من عالم الأسرة الكبيرة لعالم القزم المحتال بلا ورقة غير شعوذة ودجل وزعم لكسر إرادتنا العربية ؟
آة كان يتمتم بالمستور الذي ساقنا له القدر اليوم من ردة الديار ( عناوين الصحف التي أصبحت نشرات تسويقية للجنس والمساحيق وليل الغرباء ؟
ربما لم نستوعب في حينه نبوءة أبي لكوننا صغار العمر والتجربة فكنا نؤمن بنصائحة الذهبية وهو يبارك أعمالنا يدفعنا إلي تصيحح أخطائنا دون قسوة وغلظة وجهه وعقل !
ليمضي يقرأ ويقرأ المستقبل صامتا ؟ ربما لم يرد أن يثقل علينا الأعباء فنحن مازلنا بحلم بالفانوس الرمضاني ومشاهدة الفوازير وبدلة العيد والتنزه في النادي والتسابق علي العدية وذبح الخروف ؟
ورمضاننا اليوم فقدنا فيه متعة لم الشمل الكل هارب في برجه العاجي لايسمع غير الحانه الهزلية حتي الهلال غائب فالصوم في بلد غير الآخر ؟
والعيد هنا غير الذي هناك رغم نداء المفتي لكل العقلاء وحدة الهلال من وحدة الصفوف وسلامة القلوب ؟
أختفي المسحراتي هو الآخر لم يعد يزور اطفالنا كما كان يزورنا في حياة أبي ؟
والفضائيات حولت الليل إلي نهار دائم لدرجة أصبح الطفل الصغير أبن الثلاثة أعوام يرفض النوم قبل الثالثة فجرا !
فأي متعة ننشدها وفينا وهم كبير وعري لئيم وأوطان تبحث عن مؤذن لايعرف لهو ودينار وصوت الغربان
ومن بين أبيات الشاعر الأردني عبدالسلام جادالله هذه السطور العفوية في رائعته ( صانعة القهوة )
مامعني أن نتوضأ بالحبر لنكتب شعرا
موبوءا
والبحر لنا
والنهر لنا
والأرض مساحة أحلام
تصلح للشعر وللتسبيح
وتنجب أطفالا مردة
ما معني طأطأة الرأس لأجل المعدة
أكمل موالك فلينصت مجلسنا الوطني
صانعة القهوة ماتت قرب الزير
أرجوكم لحظة صمت لاتتجاوز موت فقير
من خلف التل المفعم بالبابونج
تأتي رائحة غناء عفوي .. وهدير
أكتب في أوراقك ألف علامة
لست نعامة
لست التصفيق لشعر أعرف آخره
أومن بالحرية رغما عن غرف التعذيب
وأومن أن الحق كرامة
نعم كان أبي يقرأ قصيدة اليوم دون أن يخرج عن وقاره وعهده لكل الديار التي ترنم بها في رحلته منذ مولده في عام 1916 ميلادي وحتي رحل في الخامس من نوفمبر
عام 2003 ميلادي رحلة طويلة وعميقة شهد واستوعب فيها ما لم نكن ندركه ونحن صغار ليمضي ومعه حلمه الكبير عودة كل الديار العربية من غربتها وعودة صوت أم كلثوم وكل المبدعين الذين هاجروا السماء إلي الأرض فهل يعود أبي ؟!