المرأة والعلم والبيئة

المرأة والعلم والبيئة / نظرة جديدة

عصام أبو الدهب

[email protected]

ترتبط المرأة في ثقافتنا الشعبية ومعارفنا الدينية بالعاطفة والشعور ورقة القلب والحنان والخوف والدفء والبحث عن الهدوء، وفي أحيان قليلة بالجبن والتراجع والتفكير الطويل، كما ثبت وفق الدراسات النفسية إلى أنها تنظر دائما للقضايا والأشياء بصورة عرضية وليست طويلة وممتدة كالرجل كما أنها تهتم بأدق التفاصيل والجزئيات التي لا تعني الرجل في شيء، ولأسباب عدة مرجعها بعضها ديني وآخر ثقافي وثالث اجتماعي نجد أنواعا ملموسة من محاولات التقليل من شأنها، فوصفت بأشبع الصفات التي ينبو عنها السمع، فالمرأة عند أفلاطون الفيلسوف اليوناني المشهور الذي يعدها في عدد من كتبه ومحاوراته هي مع العبيد والأشرار والمخبولين والمرضى وليس هو وحده بل كل فلاسفة الغرب قديما حتى الفلاسفة المتأخرون القائمة فلسفتهم على الثنائية العقلية والمادية أمثال ديكارت وكانط وغيرهم ربطوا العقل بالذكر ووثقوا المرأة بالمادة؛ ووصفت بأنها ضعيفة في كافة الاتجاهات بالذات في قدراتها العقلية، وأنها وجدت من أجل الجنس، وبالغ فرويد رائد مدرسة التحليل النفسي مؤكدا أنها جنس ناقص لا يمكن أن يصل إلى الرجل أو أن تكون قريبة منه.

ولذلك حرمت من المشاركة في مجالات عدة فأصبح العقل صفة الرجل، وهي دونه بمراحل واسعة، وأمسى الرجل مهيمنا على العلم والفكر والثقافة ووسائل الإنتاج، فشعرت المرأة بالهوان والذلة، ومن هنا جاءت حركات الدفاع عن حقوقها، وبدأت رحلة الصراع والبحث عن الحقوق والمكانة، ولسنا بصدد تناول هذه الظاهرة التاريخية والتي يلخص توجهها العام مقولة رائدة الدفاع عن حقوق المرأة سيمون دو بوفوار: ( لا يولد الإنسان امرأة بل يصبح كذلك)، فهي قضت تماما على عنصر المرأة بخصائصها وسماتها وفطرتها التي فطرها الله تعالى عليها وجعلته تفسيرا اجتماعيا لحالة الاضطهاد التي تعاني منها المرأة، وبذلك خالفت الفطرة وحقائق العلم والتاريخ، وهذا ما أدى إلى أن فقدت المرأة كيانها الحقيقي وأصبحت رجلا في جلد امرأة، وهذه العلاقة المتوترة أسهم فيها الرجال بشكل كبير نتيجة لعوامل عديدة نذكرها منها شيئا قبل أسطر، ومن أجمل العبارات التي تلخص الموقف بينهما عنوان مقالة للكاتب محمد خالد تقول " ثقوب في جدار الرجولة "، ولعل هذا العنوان يشكل مدخلا رئيسا في محاولة لطرح وجهة نظر جديدة كل الجدة، وعنوانه البليغ يؤكد أن أي مساس بحقوق المرأة هو مساس بشكل من الأشكال بالرجل ووجوده، ولكني أتوسع في معناه وأؤكد أن أي مساس بكيان المرأة وطبيعتها وخصائصها وتغيير فطرتها والبحث لها عن مكانة وخصائص وصفات غير ما هي مهيأة له كما خلقها الله تعالى هي ثقوب كبيرة الحجم تمس وجوده وكيانه وحياته وتطلعاته وبقدر قوة وصلابة جدار الرجل على حد تعبير الأستاذ محمد خالد تستمر الحياة.  

سطور في الحركة النسوية

وقبل أن أتطرق إلى ما أصبو إليه، أذكر في عجالة شيئا عن الحركة النسوية العالمية، والتي يمثلها اتجاهان رئيسيان، أولهما: يتمثل في مبادئ حقوق الإنسان والمطالبة في المساواة في الحقوق والواجبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.. ألخ.

وثانيها: وهو أكثر خطورة وتطرفا يطالب بتغيير البنى الاجتماعية والثقافية والعلمية واللغوية والتاريخية باعتبار أنها متحيزة للرجل/الذكر، وفي داخل هذا التيار نشأت حركات صغيرة تدعو إلى أفكار شديدة التطرف حتى دعوا إلى تأليه المرأة مقابل الأديان الذكورية التي يخاطب فيها الإله بصيغة المذكر، لذا لا بد للمرأة أن تكون آلهة في الدين الجديد وأن تخاطب بصيغة الأنثى، وتضع هذه الحركة النسوية في عمومها والتيار الثاني خصوصا إعادة الروح للإنسان من خلال تأليه الطبيعة هدفا رئيسيا وهاما ليساعد على إعادة العلاقة بين الطبيعة وبين الإنسان بعد أن دمرها الرجل المستبد المسيطر الذي صنع آلات الدمار فدمر بها الطبيعة والحياة وتسبب في حروب قتلت الملايين وشردت أضعافهم، ولابد من إعادة العلاقة من جديد بين الطبيعة وبين الإنسان من خلال المرأة؛ لأن هناك علاقة مباشرة بين المرأة والطبيعة، فالطبيعة فيها الجمال والخصب وفيها النماء وتوحي بالسلام، وهكذا هي صفات المرأة.

المرأة والطبيعة والبيئة

هذا الربط بينهما باعتبار أن المرأة متوافقة مع الطبيعة، فإذا ألهت الطبيعة ألهت المرأة فتنشأ علاقة مقدسة بينهما، فالطبيعة هي بوجه من الوجوه تمثل المرأة والمرأة هي الأخرى الصورة الأخرى للطبيعة، وبناء على هذه الأفكار نشأ مذهب داخل هذه الحركة في المجتمع الغربي يسمى المذهب النسوي البيئي ((Ecofeminism ) , يكون الرب فيه مؤنثاً وأظهروا له تماثيل بشكل المرأة ذات الصدر العالي تسمى (الآلهة) (Godess) مؤنثة وليس (إله) (God) مذكر، واسترجعوا تاريخ الوثنيات القديمة التي ألهت الطبيعة في مجتمعات آسيوية وأفريقية قديمة ليضعوه أحد مسوغات هذا الفكر الجديد بوجهه النسوي المتطرف في العالم الغربي.

هذه إحدى الأفكار المطروحة في الغرب وتمثل وجها من وجوه تفسير العلاقة بين الرجل والمرأة والطبيعة والحياة، ولكن قبل أي شيء نشير إلى أن ديوان الشعر العربي قديمه وحديثه ملئ ومكتظ ومثقل بتشبيه المرأة بمفردات الطبيعة وجمالها الخلاب وبساطتها وروعتها مما لا نجده في آداب العالم أجمع، حتى عند المتصوفة كابن عربي وابن سبعين.

إذن هناك محاولات لربط المرأة/الأنثى ( الأم / البنت / الزوجة ...ألخ) المرأة الطبيعية بخصائصها وطبيعتها وكيانها وسماتها النفسية والبيولوجية وإمكانياتها الحقيقية مع الطبيعة والبيئة، ظهرت في عدد من التوجهات والفلسفات والرؤى الفكرية، بعضها تميز بالتوسط والاعتدال في بيئتها التي نشأت فيها، ـ ولنا فيها وجه نظر مختلفة لكونها تتعارض مع عقائدنا وثقافتنا ـ واتسم بعضها بالتطرف في الطرح والتحليل، ونحن في هذا متفقون معهم، وإن اختلفت أسباب الاتفاق، ولكن من باب التواصل الثقافي والحضاري والفكري والمعرفي نحاول أن نتعرف على شيء من هذه الأفكار والأطروحات ونتعمق في أبعادها ومراميها.

إنجازات المرأة في العلم

وأولى مرتكزات ووجوه تحليل العلاقة بين المرأة والطبيعة، هو مدى العلاقة بين العلم والمرأة، وما الذي قدمته المرأة كإنجاز حقيقي يعبر عنها كامرأة لها خصائصها المختلفة عن الرجل، لاسيما في ظل التصورات السائدة عن أن الأعمدة الثلاثة للعلم المعاصر هي المادة والحياة والعقل(1). يضاف إلى ذلك أن توزيع القوى على الأرض في القرن الواحد والعشرين ستكون لمن سيمتلك القدرة العقلية والخيال والابتكار وتنظيم التكنولوجيات الحديثة وهي العناصر الإستراتيجية الأساسية.(2) والثقافة السائدة شئنا ذلك أم أبينا حتى في الغرب ذاته أن الرجل يتمتع بقوى عقلية أكبر وإمكانيات خيالية خلاقة، والبحوث العلمية تؤكد هذا وتثبته يوما بعد يوم، ومن قبل هذا وذلك كانت الصرخة المدوية التي أطلقها ألكسيس كارليل الحاصل على جائزة نوبل للسلام في كتابه " الإنسان ذلك المجهول " بضرورة معاملة المرأة معاملة خاصة تتفق مع طبيعتها وليس دمجها في الرجل ونسخها كصورة مطابقة له، كما أن العلم الحديث بمعطياته على ما يعتقده بعض العلماء "بأننا ذهبنا بعيدا جدا وسريعا جدا، وان عواقب اجتماعية غير منظورة ستنجم عن هذه الثورات العلمية" و سيشكل العلم في الألفية الثالثة ثقافة متميزة تكتسح كثيرا من الأنماط والثقافات التقليدية التي تعارفنا عليها وورثناها، وبلا شك فإنها ستضخم من حجم التصدعات الموجودة حاليا في مجتمعاتنا وبيئتنا، وهو ما سينعكس حتما على كثير من الملامح الحضارية للمجتمعات والأمم المختلفة، بل على العالم برمته. وستشهد المجتمعات الإنسانية تغيرات وإشكالا جديد من العلاقات تكون غير مألوفة أثناء تبادلاتها لإفرازات الثورة العلمية التكنولوجية وما سيصاحبها من تغيرات اقتصادية واجتماعية كبرى (3)، هذه المفردات المتعددة يقف التفسير النسوي أمامها حائرا وأحيانا متخبطا، لا سيما وأن هناك شعورا متناميا ومتزيدا بأن المسؤولية الأخلاقية للحضارة الإنسانية  يجب أن يكون لها دور وتقف موقفا إيجابيا بحيث يستوجب التعاون والتواصل والحوار لمسح هذه المخاطر الأمراض ومكافحة أسبابها والقضاء عليها أو على الأقل تطويقها بما يقلل أضرارها على سطح الكوكب، وذلك قبل الحديث عن القرية الكونية وتواصلها عبر قنوات وشبكات الحاسوب والانترنيت التي يجهلها الملايين من سكان هذا الكوكب ومنهم لم يسمع بها في ظروف سيادة وتفشي الأمية والمجاعات والحروب والأمراض، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نعفى المخابر والمراكز العلمية في الدول المتقدمة من مسؤولية تجاربها على العديد من الفيروسات والبكتيرات والأمراض وعوامل الحرب البيولوجية والكيميائية ومواد أسلحة الدمار الشامل والكوارث الطبيعة والتي أسهمت كل الإسهام في إحداث أضرار ضخمة علاجها يحتاج إلى جهود مضنية(4) حتى أن بلدانا لم تعرف يوما الكثير من المنجزات العلمية استوطنتها نواتجها السلبية الأمراض الوافدة إليها من المؤسسات العلمية ومخابرها التطبيقية والتجريبية.

أنثوية العلم رؤية جديدة

من هذا المنطلق حول الدور الذي تمارسه العلوم المعاصرة في الإضرار بالبيئة والذي تأسس على فلسفة العقلية المادية وما ترتب عليه من ترسيخ ثقافة وممارسة العقل التي يمثلها الرجل، تناقش الدكتورة ليندا جين شيفرد في كتابها "أنثوية العلم" الصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة العدد (306) هذا القضية بتوسع وعمق لا نظير لهما. حيث تتناول العلم من منظور الفلسفة النسوية، وتكشف عن الوجود الأصيل للأنثوية فيه، وهي لا تدعو لعلم أنثوي منفصل ومواجه لعلم ذكوري مضادّ، وإنما تبحث عن التكامل بين الرجل والمرأة، التي يتم اقصاؤها في الغالب، انطلاقاً من قاعدتين: أولهما ترجع أصوله إلى أرسطوطاليس وغيره من الفلاسفة الذين وضعوا المرأة في مكان سفلي من حركة التاريخ، والثاني يرتبط بالنظرية القائلة أن العلم منذ نشأ كان ذكورياً بحتاً، ولم تسهم المرأة فيه أي إسهام.

وتعتمد في رؤاه في هذا الكتاب على التماس المباشر مع المؤسسات العلمية في الغرب وذلك باعتبارها عالمة في مجال الكيمياء الحيوية، وقد لا حظت أن هناك توجها عاما لدى الطلاب والطالبات في الغرب نحو دراسة الإنسانيات، وتؤكد أن ذلك ليس حبا في الإنسانيات، بل كرها في العلوم، وتعلل ذلك بأن العلم يبدو جهما جافا، بسبب سيادة الثقافة الذكورية بطول الحضارة الغربية وعرضها والتي ربطت العقل بالرجل والمرأة بالعاطفة، ولأن العلم هو نجيب العقل الأثير وفارس الحلبة المعرفية الآن، فقد صبغته السلطة الذكورية بقيمها وسيمائها وملامحها واستبعدت عنه الأنوثة والخصائص والخبرات الأنثوية واعتبرتها ضد العلم ولا علم، وعملت على حجبها ليبدو ا لرجل هو الفاعل الوحيد في العلم ولمل فعل حضاري، مهما كانت خسائر هذا الزعم.

ويتكون كتابها من اثني عشر فصلاً، يجمعها ناظم البحث عن الأنثوية في العلم الغربي، وقامت في عدد من الفصول، بتحليل سوسيولوجي لواقع العلم في الغرب، وفي مجالات متعددة منه وليس في مجال الكيمياء وحدها، بهدف الكشف عن وجود الأنثى ودورها في العلم، الذي هو دور فاعل كما نرى وليس دوراً هامشيا البتة، وهي الحقيقة التي يجري تغييبها عادة لصالح تأكيد ذكورية العلم، التي هي ذكورية العقل كذلك.

شيفرد تمتلك معارف واسعة بنظريات علم النفس، والاجتماع، ومثلها بالفلسفة، حاولت تقصي أسباب نشوء السلطة الذكورية في العلم، التي تعزوها إلى الثقافة الغربية التي استمدت أسسها وحتى الآن، خلال ألفي عام، وهي تحاول أن تنظر إلى العلم من منظور الفلسفة النسوية، باستنطاق علم النفس، ونظرية يونج على وجه التخصيص مّرة، وبالاسترشاد بتجربتها الشخصية كواحدة من العالمات، وتجارب أخريات من العالمات الشهيرات مرة أخرى، لتقنعنا كقراء، بأهمية بروز الأنثوية في العلم، وتطالب الرجل بضرورة العمل من أجل تحقيق التوازن، تخليصاً للعلم مما قد يصيبه من تطرف مدمر بسبب سيادة الذكورية ، أي إنها وفي بحثها الدؤوبتؤكد لنا أن اكتمال الحياة أو توازنها بتعبير أصح، لا يكون إلا بالتحام الاثنين: الرجل والمرأة أحدهما في الآخر، ذلك لأنها –الحياة- تحتاج مثلما قال عالم النفس يونج الى "كونشرتو" من الأصوات العديدة، لتأخذ سياقها الطبيعي كما هو الحال في أصل الخليقة.

وهي تكشف النقاب عن حقيقة العلم والممارسة العلمية بوصفه كيانا يجب أن تتكامل فيه سائر الخصائص الإنسانية الإيجابية الذكورية والأنثوية على حد سواء، وإذا تحقق ذلك فإن العلم سوف يبدو لنا أكثر جاذبية وحيوية وأفضل كفاءة وفاعلية وتحقيقا للأهداف المجمع عليها، وسيؤدي إلى حصائل أكثر سخاء توازنا واقل أضرارا جانبية من قبيل الإضرار بالبيئة وتصنيع أسلحة الدمار الشامل واتخاذه أداة للقهر الثقافات والشعوب.

أنها تبحث عن مبررات فهم جديدة، وثقافة غير سائدة الآن، تؤمن بضرورة تكامل مبدأي الذكورة والأنوثة، وليس اصطدامهما ببعضهما، أو سيطرة أحدهما على الآخر. وهي من أجل تحقيق هذه الغاية، تقدم في مقابل فلسفة التراتب الهرمي الذي يقف الرجل في قمته، ليلغي رجالاً ونساءاً آخرين، تقدم فكرة البنية الدائرية الأنثوية، حيث الجميع يقفون في مواجهة بعضهم، وليس أحدهم فوق الآخر، ولا مجال بالتالي أمام أي عالم لإلغاء غيره من العلماء، إن في العلم كميدان، أو في غيره من الميادين، وإن مثل هذا الإيمان، يعتبر الخطوة الطبيعية الأولي لارتقاء الوعي الإنساني.

من هذه الزاوية؛ تبدو الفلسفة النسوية الجديدة التي تدعو إليها ليندا جين شيفرد من أنضر وأنبل تيارات الفكر الغربي المعاصر، لأنها فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة، وبقدر ما هي فلسفة لتحرر القوميات بحيث تمارس جميعا الثقافات دورها في العلم المعاصر، وإن مثل هذه الأفكار الجديدة قد تطرح رؤى مختلفة لعلاج المشكلات الإنسانية المعقدة التي أسهمت فيها الحضارة الغربية نظرت إلى الإنسان بشكل أحادي في مفاصل كثيرة من تطوره الفكري والعملي مما أدى خلل التوازن في العلاقات والممارسات.

وصدق الله تعالى: "وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى" (سورة النجم /45)

وقال تعالى:"وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى" (سورة الليل/ 3)