جدار غزة... ودور الإعلام

جدار غزة... ودور الإعلام

ومنبر الداعيات في عامها الـ17

سهاد عكيلة

[email protected]

لم يعد النظام العربي الرسمي البائس بحاجة إلى ذلك "الجلد الأملس المرقّط" الذي كان يتدثر به طَوال عقودٍ خلت ليَحبك الخطط ويمررها في غفلة من الشعوب، ذلك لأن الفضاء الإعلامي المفتوح لم يترك لهؤلاء خصوصية ولم يكتم لهم سراً؛ فقد كان منتهى أمل النظام "الشقيق" أن يستيقظ أهل غزة على جدار فولاذي وأنابيب تضخ مياه البحر لتُغرق الأنفاق ومن تسوّل له نفسه اقتحامها، دون ضجيج إعلامي، ومن غير تنديد، ومن دون حسيب ولا رقيب! فإذا بأولياء نعمته يبوحون بالسر ويفضحون مخططه اللئيم ويُحرجونه عالمياً، لتطل رأس الأفعى وتعلنها صراحة: إنه قرار "سيادي" وضرورة أمنية لحماية مصر من العدو الغَزّي الذي يهدد "السيادة" المصرية برؤوسه النووية وبدباباته وطائراته وفوسفوره "الأخضر"... بينما حلالٌ على الصهاينة أن يخترقوا حدود مصر وبحرها وجوّها، وأن يجعلوها بقرةً نِفطية حَلوب تحلب لهم الغاز والبترول بالمجّان!!! وحلالٌ على أمريكا أن تستخدم قناة السويس لنقل الأسلحة لتدمير العراق وأفغانستان، في الوقت الذي عانت فيه قافلة (شريان الحياة) الأمرَّيْن، وعادت أدراجها محوِّلة مسارها باتجاه ميناء العريش بقرارٍ تعجيزي ينم عن مقدار ارتهان أصحابه للحلف الصهيوني الأمريكي! وبقية القصة معروفة...

وإنصافاً في القول، يحق للصهاينة وعلى رأسهم ذلك النظام، ويحق للأمريكان، وكذلك للأوروبيين مجتمعين أن يبنوا الجُدُر ويقيموا الحدود والسدود... يحق لهم أن يقطعوا بكل صفاقة شرايين الحياة عن أهل غزة... بل يحق لهم أن يحلموا بأن يَصْحُوا ليجدوا غزة قد غرقت في البحر! ذلك بأن الشعب خرج العام الماضي بعد 22 يوماً من حربٍ -لا يمكن أن يتصورها عقل إنسانٌ - ثابتاً صابراً واثقاً بالله (وما بدّلوا تبديلاً) رغم الجراح... وهو اليوم يُحيي ذكرى ذلك العدوان باحتفالية، وهي ثقافة لا يدرك كنهها إلا صاحب قضية، ليخلِّد جراحات أبنائه، وليذكِّر النظام الدولي الأعمى بأنّ الساكت عن الحق شيطان ليس أخرس فحسب، ولكنه مشارك في الجريمة مشجِّع على تكرارها طالما أنه يترك المجرم بغير عقاب! وليفضح أولئك المتآمرين من "الأشقاء" وذوي "القربى"، وليجدد العهد مع الله بأن أبناءه ثابتون على الذي يُحارَبون من أجله، باقون ما بقي فيهم عِرْق يَنبِض، شامخون كشجرة السنديان: تموت وهي واقفة... عالية الرأس... هذا الشعب لم تُجْدِ الحرب المجنونة معه، فهو يحتاج إلى طرق أخرى لقتل روحه المعنوية، لذا...

فيا أيها النظام لا عليك: استصدر فتاوى سياسية على مقاسك، من مشايخ السلطان المحتلّين للأزهر، مع كونكَ لستَ بحاجة لمن "يُشرعن" لك جرائمك وخيانتك لأمتك... وابنِ الجُدُر الفولاذية الضاربة في عمق الأرض 30 متراً والممتدة 10 كيلومتر عبر الحدود لمنع أهل غزة من "تهريب" المواد الغذائية ومعها أدنى مستلزمات الحياة، فإيمان هؤلاء ضاربٌ في عمق الفطرة متجذِّرٌ في سويداء القلوب، ممتدٌّ في خطٍّ أصيل عبر فضاء التاريخ موصول بسيد الخلق (ص)؛ هؤلاء هم جيلٌ جديد من: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:173 – 174)... وشتان بين مَن اتبع رضوان الشيطان ومَن اتبع رضوان الرحمن: لا يستوون، أولئك يركعون عند أول تهديد بقَطْع "المعونات" وبتقليص الرواتب الشهرية، وبالحرمان من أسباب الرفاهية، فضلاً عن المناصب والكراسي والرُّتب*... أما هؤلاء فلا يخشَوْن إلا وعيد الله ولا يطمعون إلا بموعوده تعالى؛ فكيف يركعون لغيره سبحانه جلّت قدرته؟!

في برنامج إذاعي جمعه مع عدد من المستشرقين وبثه راديو تل أبيب في 18 تشرين الثاني 2009 قال عاموس جلبوع رئيس قسم الأبحاث الأسبق في شعبة الاستخبارات العسكرية الصهيونية، وهو يميني متطرف: "إن العلاقات مع مصر تمثل أهمية كبرى بالنسبة لإسرائيل. والمتابع للسياسة المصرية يلاحظ أن النظام المصري خرج عن طوره بسبب مباراة كرة القدم بين مصر والجزائر، حتى أصبح يهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. لكنه ينتهج سياسة مغايرة تجاه إسرائيل؛ فإلى جانب التزام النظام المصري الصمت عندما قمنا بحملة (الرصاص المصبوب) ضد غزة مؤخراً، فإنه وفر الأجواء لاستمرارنا في الحملة، رغم سقوط المئات من الفلسطينيين، كما أنه منع أي تحرك عربي لصالح الفلسطينيين خلال الحرب (يقصد إفشال مصر لمؤتمر القمة الذي دعت إليه قطر).. وفي أحيان عدة يتم قتل جنود مصريين (بواسطة الإسرائيليين) ممن وُجدوا بالقرب من الشريط الحدودي، لكن الحكومة المصرية لم تقم بأي إجراء، وهذا يدلِّل على وجوب تحقيق إجماع داخلي حول استراتيجية العلاقات مع مصر...»!!!**

وعوْداً على بدء، ففي معارك هذا العصر يتجلى دور الإعلام في الكشف عن الحقائق وإعطاء الأشياء مسمّياتها؛ ولولا وجود إعلام ينحاز إلى جانب الحق ويكشف عن حجم الإجرام والمأساة، ويفضح المواقف والسياسات، ويتمكّن من صناعة رأي عام عالمي كان لعقودٍ خلت مخدوعاً لا يفهم حقيقة الصراع التي غُيِّبت عنه بسبب الأخطبوط الصهيوني الذي كان يحتكر وكالات الأنباء فلا تخرج معلومة للعَلَن إلا بإذنه، ولولا انفجار ثورة المعلومات والتطور التكنولوجي الذي شهده العالم في العصر الحديث لما انفلت شيء يسير من قبضة اليهود، وتالياً لمَا تحوّل سير الإعلام في العالم العربي عن خَطِّه "النظامي"، ولمَا تابع العالم لحظة بلحظة ما يجري في غزة قبل العدوان وأثناءه وبعده، وأيضاً لمَا تحرّك أحرار العالم نُصرةً لغزة وإنقاذاً لأهلها؛ وما الوفود الأوروبية التي تأتي لتقف أياماً وأسابيع على معبر رفح حتى يُسمح لها بالدخول، وما قافلة (شريان الحياة) التي ضمّت الآلاف من جنسيات مختلفة دفعهم الشعور الإنساني لقطع المسافات وتكبّد المشاق رغم ما لاقَوْه من صلف وتعنّت "الشقيقة"... ما كل ذلك إلا دليل بَيِّن على خطورة دور الإعلام، وتأثيره في المعارك الذي لا يقل أهمية عن أثر الأسلحة التقليدية، ومساهمته في تغيير حسابات مختلف الأطراف.

وعليه، فإن على المسلمين عموماً أن يهتموا بهذا السلاح تخصُّصاً ودعماً، وعلى المؤسسات الإعلامية أن تُحسن التخطيط لهذه الصناعة؛ إن من حيث السياسات التي تنتهجها، أو من حيث جذب أصحاب الاختصاص ذوي الخبرة العملية والفكر الحر الابتكاري المبدع المؤطَّر بإطار المنهج الإسلامي، وكذلك من حيث إقامة المشاريع الاستثمارية التي ترفد هذه المؤسسات بما يلزمها من مال لتغطية موازناتها الضخمة وللارتقاء المستمر في أدائها التِّقني والبشري، فلا يجعلوا وسائلهم مرتَهَنة لابتزاز المانحين، ولا عُرضة لمماطلات المتبرِّعين والمتطوِّعين... ليكونوا على مستوى التحديات التي يواجهها الإعلام الإسلامي.

وعلى الإعلامي المسلم واجبٌ عظيم ومسؤولية كبيرة؛ فهو يحمل رسالة ويدافع عن قضية عادلة، فليعلم أنه جندي في المعركة، وليدرك أن عليه مهمة التوعية وتصحيح المسارات والاتجاهات الفكرية للناس، وليتذكر دائماً بأن مهمة الإعلام الإسلامي الأولى هداية البشر وتعريفهم بدين الله مستفيداً من آليات ووسائل هذا العصر، مقتدياً بأول إعلامي في الإسلام رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عندما صدح بما أُمِر بتكليفٍ من ربِّه عزّ وجل. فلا ينسَ أبداً وهو يؤدي عمله بموضوعية وباحترافٍ عالٍ أنه مسلم يتفاعل مع قضايا المسلمين ويبذل الجهود في تعريف الناس بها، فعليه أن يكون منحازاً للحق غير محايد.

بهذه القناعة مضينا في مجلة منبر الداعيات، وعلى هذا الخط سرنا منذ 17 عاماً؛ نُبرز الأحداث للناس برؤية إسلامية، ونتفاعل مع قضايانا بما أوتينا من عقلٍ وعاطفة وقوة، وننحاز لأمتنا، ولا نخدع الناس بفِرية الإعلام المحايد، ولا نضلِّلهم بعرض كل ما هبّ ودب من مناهج وأفكار ثم نتركهم ليختاروا– بحسب القانون الإعلامي– بل نجتهد في تبيين الحق من الباطل مهتدين بالقانون الإلهي: (ولِتَسْتَبِيْنَ – أي لتتَّضح - سبيلُ المجرمين)، وفي توجيه الناس وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفخر بأن يكون إعلامنا موجَّهاً غير متروكٍ سَبَهلَلاً.

كما حرصنا طيلة هذه السنوات الـ 17 على أن نقدم ما يفيد ويُمتِع الأسرة المسلمة فكرياً وروحياً، ثقافياً وتربوياً واجتماعياً... ومع افتتاح عامنا الثامن عشر نعِد قراءنا وقارئاتنا الأعزاء بالمزيد من المواد الشائقة؛ أبرزها استضافتنا الشهرية للدكتور صلاح الخالدي حيث سيخصّنا بموضوعات تهم المرأة المسلمة. هذا وقد بدأنا رحلة التجديد من هذا العدد سواء في الشكل، أو في بعض المضامين، مثل: باب (الصحابة في لبنان) للشيخ يوسف القادري، (الدين عند اليهود) للأستاذ محمد علي دولة، وقفات تربوية: المشكلة والحل في (دوحة الأسرة)، بالإضافة إلى تحديث (روضة الزهرات).

ولا يسعنا وقد بلغنا بمجلتنا هذه الأعوام إلا أن نشكر الله ابتداءً على فضله وتوفيقه، ثم نشكر كتّابنا وكاتباتنا الذين يسيرون معنا وفق المنهج نفسه الذي ارتضيناه منذ البداية، ونشكر كل مَن يساهم في إخراج المجلة كل شهر إلى النور.

وختاماً، لا يفوتني أن أُسدي التحية والتقدير لكل إعلامي مسلم كان انحيازه لإخوانه المنكوبين وللمجاهدين - في حرب غزة - واضحاً على محيَّاه وفي تعابير وجهه وبين ثنايا كلماته... في فرحه مع كل تسديد، وفي حزنه مع كل رصاصة... له ألف تحية ودعاء.

              

* ذكر تقرير صادر في عام 2008 عن مركز أبحاث الكونجرس أن لجنة الاعتمادات قررت حجب 100 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر، إلى أن تتأكد الخارجية الأمريكية من أنّ مصر أوقفت التهريب عبر الأنفاق ودمرتها!!! (ع(عن مقالة للأستاذ فهمي هويدي بعنوان: "الجدار حماية لأمن إسرائيل").

** المصدر السابق.