شريان الحياة 4
د. لطفي زغلول /نابلس
سواء كتب لقافلة شريان الحياة 4 أن تشد الرحال وتحط على أرض غزة المحاصرة ، أم لم يكتب جراء الحصار المفروض عليها ، فإن غزة ما زالت تعاني الأمرين . وها هي أشكال الحصارات تتعدد ، ليضاف إليها المزيد من الجدران ، وحالات التحكم بالقوافل ، والتشنج وتوتر العلاقات ، ويبقى الصمت العربي هو أخطر ما تحاصر به غزة .
إن الشعب الفلسطيني بمجمله على يقين بأن هناك ضمائر إنسانية حية لم تلوثها منظومة الحقد والكراهية والتسلط على الشعوب ، تقف إلى جانبه وتؤيد قضيته . والشعب الفلسطيني لا ينسى أيضا الشرفاء من بني جلدته ، أبناء العروبة الأوفياء وما يقدمونه دعما لقضيته الإنسانية .
لقد كان ولا يزال حصار غزة على مسمع الدنيا ومرآها ، حصارا اشتركت فيه الولايات المتحدة الأميركية ، والعديد من دول الإتحاد الأوروبي ، ودول أخرى من هذا العالم الجاحد الظالم . إلا ان الانكى من ذلك كله ان الأنظمة العربية قد أسهمت به ، بل كان لها دور في تجسيده على ارض الواقع . وأما الذين لم يفقدوا الرحمة في قلوبهم ، ويتحركون لنصرة شعب غزة المحاصر ، فانهم يستحقون كل تقدير في المعنى والمبنى . ويستحقون أن تتوج رؤوسهم بأكليل الزهور .
عودة إلى قافلة شريان الحياة 3 ، فليس المهم فيما قد قدمته هذه القافلة من مواد عينية وأدوية وادوات مدرسية ولعب أطفال فهي تظل رمزا في حد ذاتها ، إنما الهدف المعلن هو كسر الحصار الظالم الذي قض مضاجع الغزيين القابعين تحته ، بتحدي هذا العالم الكبير الذي أغمض عينيه عن مأساة مليون ونصف من المواطنين الفلسطينيين ، وفي مقدمتهم هذا العالم العربي ، وهذا العالم الإسلامي .
وكم كانت الصيحات تقرع ابواب الأنظمة العربية ، وهم غير آبهين بما يدور حولهم . لقد كانت هذه الصيحات تذهب أدراج الرياح هباء منثورا . فلا جامعة الدول العربية ، بأمينها العام الذي وعد ذات مرة أنه سوف يكسر هذا الحصار ، فكان وعده حبرا على ورق ، ولا الانظمة العربية والاسلامية التي غضت النظر عما يدور في القطاع المنكوب ، وتجاهلته في اجنداتها السياسية .
لقد نام العرب الذين كانوا ، ورحم الله ما كانوا عليه من خلق وضمير يوم كانت تغتلي فيهم نار الحمية والشهامة والمروءة قبل عشرات السنين . أما اليوم فكل في طريق ، وكل في سبيل ، لا يفكر إلا في نفسه . وكيف لا ؟ ، ورغيف الخبز أصبح غاية قصوى لشعوبهم ، وتحصيل الدواء فهو الآخر صار هدفا ، إذا ما تم تحصيله .
لقد كانت صيحات الإختناق والإحتراق تتكسر عند أولئك القابعين في أبراجهم الإسمنتية ، التي أصبحت رمزا لهذه المرحلة الحالية من تاريخ العروبة ، وكأن العروبة ينقصها هذا التطاول في البنيان . وكأن هذا التطاول سوف يجلب لها الخير العميم والكرامة والمجد ، وسوف يجعله في مقدمة الأمم . إنها العولمة التي افترست كل شيء بما فيها أموال العرب .
وأما فلسطين فلا فرق بين جنوبها وشمالها ، بين قطاعها وضفتها . إن الحال واحدة دون ادنى شك . فقد كشف تقرير لمكتب الأمم المتحدة يعنى بالشؤون الإنسانية ، أن جيش الإحتلال الإسرائيلي ، قد قام بمئات عمليات اقتحام للأراضي الفلسطينية ، وقد أتبعها بمئات عمليات الاعتقال ، علاوة على ما لديه من اسرى فلسطينيين .
ناهيك عن مئات عمليات تدمير المنازل وطرد أهلها الآمنين إلى العراء والمجهول . واخيرا لا آخرا عمليات القتل والإغتيال والإعدام التي مورست بحق مواطنين فلسطينيين . وهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة . إنها مكررة تكرارا خطيرا لا يحتمله كائن من كان . ان المشكلة المتفاقمة تكمن في العروبة الآخذة في التراجع إلى حيث لم يعد لها ذكر في الأجندات السياسية العربية إلا ما ندر .
ولست هنا لكي أتناول كل المؤثرات التي جعلت من القضية الفلسطينية أمرا مستعصيا على الحل . إنه العام الثاني والستون يدخل على العالم العربي ، وليس في يده ما يدل على أنه استقى العبرة من كل ما يدور في الساحة الفلسطينية . لم يجد أي حل لقضية اللاجئين ، ولا الإستيطان الذي افترس الأرض الفلسطينية ، فعمرها وغمرها شرقا وغربا ، شمالا وجنوبا ولن أتناول كل معطيات الجدار العازل بألوانه القاتمة ، ولا تهويد القدس الذي أصبح هو الشر كله وكأن الأمر لا بد منه . ولا الاعتداءات المتكررة على المسجد الاقصى المبارك ، فقد اصبحت معروفة للقاصي قبل الداني .
وإذا ما أضفنا إلى هذا وذاك ، كل الحالات الإحتلالية الأخرى التي ما زال الإحتلال الإسرائيلي يمارسها ، فهو ما زال يمارس جنون الإجتياحات والإعتقالات والإغتيالات والأطواق والحصارات والحواجز الأمنية الخانقة . وهو لم ينقطع عن عن اغتصاب الهواء والماء والثروات المعدنية . ولا كل ما يخص العالم العربي من طاقة تحرك مقدراته فتحكم فيها .
إلا أن الأنكى من هذا كله أن هذا العدد الكبير من الإغتيالات والأسرى الفلسطينيين ، لم يعد يحرك ساكنا في ضمير هذه الأمة العربية . فتحجرت أحاسيسها ، وتبلدت ، وقست ، وماتت مشاعرها . وها هو الشعب الفلسطيني في كل من غزة ، والضفة محاصر حصارا لا انفكاك له . ها هو يعاني ما يعانيه من فقر وحرمان . لقد اصبحت قضية الشعب الفلسطيني ليست اكثر من قضية اجتماعية انسانية .
وبرغم الإمكانيات الهائلة للعالم العربي وبخاصة المادية منها ، مضافا إليها الكفاءات البشرية المتخصصة في مجالات شتى لها صلة بالسياسة والإقتصاد ، وبرغم وجود جامعة الدول العربية التي يفترض بها أن توحد الصوت العربي وأن توجه مساراته إلى حيث ينبغي أن يكون عاليا ومسموعا ومؤثرا ومفهوما .
الا أن هذا ظل افتراضا لا مكان له على أرض الواقع العربي الذي عانى من غياب جبهة إعلامية قادرة على التحرك خدمة للقضايا العربية ، ودفاعا عنها وتصديا لاجتياحات إعلامية آتية من وراء حدود العالم العربي ، تستهدف النيل منه على كل الصعد ، وتركيعه على طريق موجة جديدة من أحدث أشكال الإستعمار والإستغلال والتحكم والهيمنة في إطار عولمة تستهدف اقتلاع العرب والمسلمين من جذورهم الثقافية والحضارية .
وحقيقة الأمر إن الأنظمة العربية الحالية ليست مؤهلة للعمل العربي القومي كونها نشأت أساسا في إطار حدودها السياسية المنغلقة على ذاتها ، وهي والحال هذه دول أجسادها تنتمي إلى العصر ، وأما أرواحها فتنتمي إلى العشيرة التي تدين بالولاء لعقر دارها وشيخها ليس إلا .
وثمة سبب آخر كون دول هذه الأنظمة غير متجانسة تربويا وثقافيا واقتصاديا ، وثمة اختلافات في التركيبة الديموغرافية للسكان من حيث العدد والتعددية المذهبية والعرقية والطائفية ، الى جانب التباين في درجة الإحساس القومي .
إن غالبية الأنظمة العربية - إن لم تكن كلها - تهيمن عليها روح القبلية والعائلية والإنتماء إلى الجغرافيا الضيقة جدا ، أو الهروب إلى تاريخ غير عربي ولا إسلامي ، يمنحها على حد ادعائها ما تفتقر إليه في الواقع من رقي حضاري . وإذا كانت هذه الأنظمة قد تطورت ظاهريا ، أو لنقل إنها وجدت نفسها أمام طفرة فجائية من استخدام أساليب حضارية استهلاكية تحت ظلال تنمية تظاهرية .
إن مفهوم العروبة لم ينضج بعد ولم ينتقل من مرحلة وحدة اللغة إلى وحدة الهدف والصف والمصير ، ومن الخاص إلى العام ومن الأنا إلى نحن ، ومن الجزء إلى الكل وهي الأهم والأخطر . والأنظمة العربية سادرة عن قصد في الإبتعاد عن هذه المركبات الأساسية التي يفترض أن تزود العروبة بالطاقة التي تفتقر إليها جراء النزيف المستمر الناجم عن السياسات العربية الفردية .
وتفتح هذه القضية ملف السياسة العربية تجاه القضية الفلسطينية ، والذي لم يزل يتمثل في الإعتداءات الإسرائيلية على كافة الصعد بمشاركة ومباركة من الولايات المتحدة الأميركية وصمت من قبل الإتحاد الأوروبي ، ولامبالاة على صعيد المجتمع الدولي . وما هذا الذي نراه إلا ردة فعل عربية ، والمحصلة كانت المزيد من المعاناة الفلسطينية التي لم يسبق للشعب الفلسطيني أن عرف مثيلا لها .
وهكذا فإن انتظار بارقة أمل تأتي من هنا أو هناك ، وأقصد قافلة شريان الحياة 3 ، وما سبقها وما سوف يلحقها ، إذا ما كتب لها ان تصل ، تشكل في ظل هذه الهجمة الشرسة من قبل الأنظمة العربية والإسلامية ، ومن ثم الجهات الغربية ، تحديا سافرا لكل المخططات التي تستهدف هذا النيل من صمود هذه الجماهير . إنها خطوة كبيرة إلى الأمام ، ولعلها تكبر وتكبر ، عساها تصبح هي الحقيقة . وعساها تكون الأمل والرجاء للمحرومين والمظلومين . إلى ان يكون الفرج القريب بإذن الله .