العراق وحنين التاريخ

م. الطيب بيتى العلوى

العراق وحنين التاريخ

م. الطيب بيتى العلوى

مغربي مقيم بفرنسا

باحث في الانثروبولوجيا الدينية والثقافية بباريس

[email protected]

الأحكام فى قضايا التاريخ الكبرى، يصدرها التاريخ ،وينفذها من خلال أجياله ويعلو بالأمم ويهبط ليعيد الموازين الى الاعتدال...الأستاذ  أنور الجندى

ان التاريخ هوالكتاب المغلق على الغد الذى يوجهنا-ان أحسنا قراءته- الى ايجادمفاتيح المستقبل،وحياة الأمم فىأى عصرماهى سوى حاصل حياة أفراده ،وحياة الأفراد هو حاصل ما يفكرونه، وما يحققونه حاضرا ومستقبلا..وما أخطاء الأمم والدول  الاأخطاء "الروح" أو العقلية التى يحيى بها بنو العصر

فالدولة العراقية منذ نشاتها فىالعهد الاسلامى، كانت عالما اضطربت فيه الأفكارمنذ بداياته ،باختلاط الأجناس، من مجوس وزنادقة وشعوبيين، كارهين للعرب وللاسلام  ،ومنهم الزرادشتيون والمانويون والمزدكيون والراونديون والمقنعيون والخرمية والقرامطة..

وقبل ذلك بقرون، كان بلدا ولدأرقى الثقافات البشرية،كمااختلطت فيه باقى كل حضارات المنطقة(أسيوية ومتوسطية)

فعن طريق الأشوريين انتقلت الى العالم كبرى المسائل الفلسفية، والروحية الكبرى المتعلقة بما وراء الطبيعة ووحدة الاله المتجانس،فى الوقت الذى كان يتخبط فيه حكماء اللوغوس من اللاتين فىالميتلوجيات  والأساطير،ووثنيات آلهات الأولمب المتعددة والمتناحرة*

ومن أرض حمورابى(1350ق.م)الى المدرسة الرواقية، انتشرت أرقى الحضارات فى تاريخ البشرية..فقد انجز السومريون والأكاديون حضارت رفيعة، فسجل لنا التاريخ تلك الأساليب الراقية للتعاطى العملى عند التناحر أو أو التمازج أو الغزو المضاد لشعوب المنطقة،  والتى لم تحل دون استنساخ الحضارات فيما بينها، حيث أنه تحت ظل الملك البابلى السابع حمورابى ،سنت أعرق قوانين المساواة بين الأعراق فىالتاريخ(1)فى الزمن الذى كانت الأعراف الأثينية فى أوج عظمة أثينا تبيح للأثينى قتل غريمه (الآخر) بمساعدة أهل أثينا انفسهم-وهى نفس الأعراف الرومانية  التى كان قانونها(الذى مايزال مصدرا من مصادر بعض التشريعات الغربية)  أو المتمثلة فى سجع الكهان فى التوراة اليهودية (صاحب الابادة المقدسة للشعوب- والتى هى المصدر الرئيسى للتشريع فى اسرائيل ..

وللمقارنة البسيطة فانه لم يثبت-تاريخيا- أن الاشورى المنتصر دك معابد المغلوبين، أو مس، أو حرف، أو طمس لغاتهم، أواستاصل ثقافاتهم. فقد كانت "نينوى" عاصمة ومسرحا للثقافات المختلفة والمتناقضة والمتنافرة(ممالم تحققه أية عاصمة غربية الى الآن )، كما كانت بابل أعظم حواضر الدنيا  تمتد من العراق الى سوريا والاردن وفلسطين حتى نهر النيل،وكانت نموذجا للتعايش المشترك بين الشعوب الغالبة والمغلوبة ..(ولم يعط الغرب اى نموذج للتعايش منذ مفخرته الكبرى وملحمته الكولونيالية العظمى فى الدول التى استعمرها من الصين الى جنوب افريقيا سوى الاحتقار ومسح  الثقافات المحلية).

 كماقد تسربت الحضارة اليونانية الى العراق، منذ غزوات الاسكندر الأكبر،مع تأثيررجالات سوريا، فى نقل الشىء الكثيرمن هذه الحضارة ، ونقل مؤلفاتها الى السوريانية،فتمثلها العراقيون القدامى أحسن تمثيل..

وتسربت الحضارة الفارسية منذ أن انشأ كسرى مدرسة "جنديسابور"، و استمرت هذه المدرسة ثلاثمائة عام برغم زوال ملك الفرس وقيام الحضارة الاسلامية .

وبلد اختلطت فيه الديانات

فقد ترعرعرت فى العراق قبل الاسلام، حضارة اكتنفتنها ديانات عدة ، بدءا باليهودية فى الشمال التى سبقت الزرادشتية بنحوتسعة قرون، والتى بدورها ،سبقت المسيحية بستة قرون، ثم المسيحية تسبق الاسلام فى شمال جزيرة العرب بنحو ستة قرون أخرى، وكأنما خصت السماء هده البقعة بأسرارها السماوية والروحية  فى تلك القرون القديمة.

.وبقى العراق محسوبا على فارس وموصولا بها بحكم تاريخه وموقعه، فتجمعت فيه أخلاط من المدنيات والجنسيات والعقائد لم تشهدها جزيرة العرب ، ولا بلاد الشام، مما جعل أقوامه أرهف حسا و أكثر حدة  و"ألطف  أذهانا" كما سماهم الامام مالك.

وبلد ولد كل مبادىء الأمة الاسلامية ومدارسها الدينية  والفلسفية واللغوية والادبية والفنية والمعمارية والموسيقية بدون استثناء والتى اغنت هذه الحضارة الفتية وأثرتها..

 والمسلمون كانوا فيه منذ البداية شيعة  وسنة وخوارج وقدريون ومرجئة ومتكلمون ومعتزلة ومتصوفة، ولكل فرقة فرق ،ولكل مدرسة أتباع وشيع ومريدون، وكلهم مسلمون وان أخطأبعضهم الطريق، وأهل السنة كانوا هم الدولة الرسمية وجمهورالأمة، وهم أيضا مذاهب شتى ومجتهدين ومقلدين.

و كان بالعراق لكل ملة او نحلة او اتجاه سياسى نواة أو صدى، وفيه مضطرب ثروات الامبراطورية الفكرية والمادية وخاصة مضطرب الفرس منذ بدايات بنى العباس

. فتولدعن هذه الاخلاط " الخليط العراقى" المتميز كشعب حساس وأنف شموخ و منتفض ومتمرد –وتمرده كان غالبا تمردا على الظلم باستقراء التاريخ-..(وصيةمعاوية لابنه يزيد بأن يغير كل يوم وليا على العراق والا سل فى وجهه مائة ألف سيف)، واستمر العراق  يتمرد و يثورقرونا من الزمان، مرة على نفسه ،ومرة على غيره دون كلل،بل ان التمرد والثورات تقويه وتشحذ همته أحيانا وتجدد دماءه ،وسرعان ما يعود الى رشده ،ويتم كل ذلك  فى رقعة منبسطة خصتها السماء دون بقاع الأرض من الخصب المادى الطبيعى والروحى،وامتزاج الحضارات وامتزاج العناصر التى شملت الأشوريين والبابليين فىبلد يعمرها مع المسلمين فرس يدينون بالزرادشتية أو بالمسيحية.. ومانيون يدينون بمزيج من الزرادشتية والهندية والمسيحية ،وحرانيون لهم عقائد خاصة كانوا واسطة الوصل بين الحضارة اليونانية والعربية، لاحتفاظهم بالدين المسيحى، وبالصلة ببيزنطة، كما كانوا القناة الفكرية بين العرب واليونان عبر فارس

واحتفظ العراق  بالفارسية فى لغة الدواوين، بالرغم من أن الخليفة عمردون الدواوين منذ العهد الأول للاسلام ،حتى عام 78للهجرة فى زمن الحجاج بن يوسف الثقفى( الذى برى الرقاب حتى سالت الدماء الىابواب المساجد )، وبقى معظم كتاب الدواوين من مجوس خراسان. وكان نصر بن سيار أول من نقل الكتابة الى العربية من الفارسية فى أواخر بنى أمية.

بغداد العاصمة الكوسموبوليتية  الاولى فى التاريخ.

وعندما انشا  ابو جعفر المنصور بغداد(2) عام149هجرية كان قد بناها لتكون أم المدائن، حيث ساوره ما ساور الأباطرة قبله، من أحاسيس الفخارمثل احساس"تيزيي" اليونانىعند بنائه لأثينا الذى تنازل عن ملكه كله لينشأ مدينته ، وقبله"رومولوس"  الذى كان لايقتل أسراه  وانما يأمرهم بهدم قراهم  ودساكرهم، وأن يقدموا لبناء مدينته "روما" وتعميرها. ثم صار بعد التشييد الها يخر له الرومان سجدا،

فجاءت بغداد"صندوق الدنيا" الذى يحتوى غرائب لم تعرف فى مدن الحضارات السابقة مثل أثينا أو روما، ولم تكن مثل دمشق عاصمة بنى أمية وعصبتهم فحسب ،بل نشرت بغداد جناحيها على العالم بأسره، فكانت تنبض من عجائبه، لكونها كانت أكبر مدينة فى العالم ،وأضخمها حجما وسكانا (كان بها حوالى  مليونى نسمة زمنها)عندما لم تكن باريس ولندن سوى بلدتين صغيرتين، ولم تكن نيويورك سوى غابة عذراء، وعرفت العراق بمدنها العريقة عملية التمدين قبل أوروبا بقرون، فأصبحت بغداد مدينة السلام، وعاصمة العلوم الكونية،التى آدنت الدنيا بعهد جديد وأصبح العراق(عن طريق بغداد) جوهرة العالم، ومفخرة العرب والمسلمين وقبلة الكون بأسره،حيث كان الخليفة المأمون يباهى ببغداد عجائب مصرأم الدنيا كما كان يطلق عليها(وما يزال).وأمست كخلية نحل تعمل فيها كل الملل والنحل و تعج بالأفكاروالأجناس،

هارون الرشيد(اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لأحد من جد وهزل :...الخطيب البغدادى

وان التاريخ ليرفع الرشيد الى اعلى  الدرجات العلى، فخلافته هى اعظم ما عرفته دولة فى القرون الوسطى..فقد اوتى من كل شىء سببا.(كما أوتيت العراق كذلك لكل شىء سببا كما اوردته فى التقديم للدولة العراقية)كانت اواسط اسيا قد دانت كلها له، وفىا لغرب كان جنوب اوربة الشرقية مذعنا له، ويتلمس ملوك اوروبا واباطرتها رضاه، ويدفعون له الجزية وهم صاغرون، وكانت سفنه تمخر  فى البحار من موانئ الصين الى الخليج العربى..وكانت قرى امبراطوريته الممتدة حتى الهند والصين تعج باصوات العلماء والمتعلمين فى شئون الدنيا والدين بينما كانت اوروبا لا تقرا ولا تكتب  ،حيث قال عنه المؤرخ الخطيب البغدادى" اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لاحد-قبله- من جد وهزل..وزراؤه البرامكة، وقاضيه ابو يوسف، وشاعره مران بن ابى حفصة، ومغنيه ابراهيم الموصلى...." الى نهاية كلام مطول عن متناقضات الرشيد ومجالسه، ويبدو ان لسان حال مؤرخنا هو القول بان الرشيد جمع من المتناقضات ما لم يجمعه خليفة  اموى ولا عباسى ...من فروسية مثلى ونفس شاعرة حساسة(كان شاعرا مجيدا هو وزجته  زبيدة التى كانت تنظم له القصائد الطوال وهو فى غزواته الحربية )...: وبراعة وعقلانية فى تسيير شئون السياسة والحكم والحرب ...، وورع وتقوى... ، الى جانب بذخ وفخامة ، مع الصرامة والحزم،واهتمام بالعلم الاسلامى مع اهتمامه بترجمة علوم العالم من اليونانية والفارسية والهندية والسريانية والقبطية، ليتمثلها المسلمون فتنقل علومهم من جديد مترجمة الى اووربا فتبدا بها نهضتها المعاصرة.

يجلس الى مالك بن انس وابى يوسف الفضيل والشافعى ، وكبار الوعاظ والزهاد.. ومع ذلك ينشىء دار الحكمة لترجمة الثقافات الوثنية الغريبة على اذواق العرب والمسلمين، فيديرعجلة الترجمة بقوة بحيث ياتى بكتب الروم فى غزواته او معاهداته لترجمتها فى حين لم يكن اصحابها يعرفون مافيها

ويحج عاما راكبا او ماشيا ( ولم يحج خليفة من قبله ماشيا)-بالرغم من طعن بعض المصادر الشيعية فى صحة هده الرواية- واذا حج  أحج معه مائة عالم وابنائهم.ويتصدق فى كل يوم من ماله الخاص بالف درهم ذهبا. وكان يتنقل معه العلماء والرواة حتى فى غزواته..

ويصلى فى اليوم مائة ركعة منذ حداثة سنه، ويغزو عاما فى الشمال  او فى الشرق، فقد غزا الروم اثنتى عشر مرة فى حكمه الذى استمر ثلاثة وعشرين عاما.وقاد جيوشها الى انقرة وانطاكية وطرسوس والبوسفورفى الشمال. وقاد جيوش ابيه الى القسطنطينية سنة 165 للهجرة وهو ابن السادسة عشرة ربيعا..

وكان سماعا للحكمة والموعظة الحسنة ويبكى لسماعها ، (وكم ابكاه الواعظ الزاهد ابن السماك، حتى ان بعض المدهنين يقولون له : ارفق بامير المؤمنين قيجيبهم بن السماك ..دعه فليمت..حتى يقال ..خليفة المسلمين مات مخافة الله..وكان ايضا يستمع الى الفصيل بن غياض فيغشى عند سماع حكمه ورقائقه) مع ذلك كان لا ينسى نصيبه من الدنيا

 وكان قصره يعج  بمئات الجوارى اللاتى لايقرأن الا القرآن فكانت اصواتهن تسمع كدوى النحل، ولكنه يستمع الى الغناء  وينتقد الالحان والأصوات وعارف بالمقامات..

 ومن بر امه مشى فى جنازتها آخذا بقائمة التابوت خافيا يخوض فى الطين والوخل فى ذلك اليوم الممطر..

كما يشهد له التاريخ على ان الدولة كانت فى يده  بينما اصبحت فى ايدى الآخرين بعد موته...

وباختصار فان عصر الرشيد وبنيه كان عصر الافعال العظيمة –بما فيها من ثغرات كبيرة بسبب هفوات من لحقوه – وفى عصره  تالق في مجالسه وسفاراته الأئمة الخالدون الذين ملأ علمهم اركان الدنيا الاربعة.. الى يومنا هذا مثل مالك والشافعى وابن حنبل وابو يوسف ومحمد بن الحسن وكل الذين ساروا على آاثارهم، وضمت مجالسه ورعايته معلمى الحضارة لانسانية جمعاء فى الكيمياء والفلك والرياضيات والطب والهندسة والاحياء امثال جابر بن حيان (اول مشتغل بالكيمياء والمقعد لاصولها فى التاريخ ، واحد ارباب البيان والعرفان والتصوف والتفلسف) والكندى والخوارزمى –كما ساتطرق اليهما كواضعى القوانين العلمية للموسيقى المبنية على علم التشريح والرياضيات وعلم النفس (اوبالاحرى علم احوال النفس كما يراه المتصوفة والاشراقيون لا كما  تقزمه الابحاث المعاصرة منذ ظهور الفرويدية) كما ضمت مجالسه الكتاب العالميين مثل الخليل بن اخمد والفراء والاخقش والتوحيدى والكسائى، والشعراء الفحول مثل ابى العتاهية ، وابى نواس ومسلم بن الوليد والحسن بن الضحاك  وعباس بن الاحنف ومروان بن ابى حفصة -_مع انحرافات معظمهم وتفاخر بعضهم بشعوبيتهم مثل بشار وابى نواس اللذان  نشرا الغزل المتهتك ورفعا من شان العجم والنيل من العرب.. وتلك من نتائج التسامح الذى دفع ثمنه غاليا  من اتى على اثرالرشي، فقد سن حق السكن للنساطرة فى بغداد بعد ان حرموا منها ، وكان يرسل  المبشرين بالمسيحية فى غير بلاد المسلمين  من نفقة حزينة المسلمين،  وخصص جناحا فى دار الحكمة التى انشات لترجمة التوراة والانجيل ترجمات جديدة منقحة الى العربية،وانفرد فى التاريخ البشرى بالنزعة العلمية وحب العلم والعلماء من كل الاطياف والمجالات حيث قال فيه كبير المستشرقين "نيكلسون" "......لقد بدا الناس –فى  العراق- جميعا من الخليفة الى اقل افراد العامة شانا طلابا للعلم او على الاقل انصارا للادب"  ويضيف".. وفى عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعيا وراء العلم أو تعليم الآخرين.."

أجمع المؤرخون شرقا وغربا على انه اجتمع للرشيد من كل شىء سببا.وكان نسيجا وحده وجمع من المتناقضات حتى لا تدرى ايها اطفح..

ولم تقتصردقائق العلم فى العراق على دورالعبادة وحلقات أبى حنيفة والشافعى وابن حنبل وتلامذتهم او علماء الكلام من المعتزلة  او الزهاد ومريدى الجنيد والبسطامى والكرخى والدقاق وعبد القادر الكيلانى من المتصوفة، وكل الفرق التى حاورها امام الحرمين الجوينى وأبو حامدالغزالى لاحقا فى القرن الخامس الهجرى، أوما كان يدور منها فىدورالولاة والأمراء  وقصور الملوك وعلية القوم، بل كتب لها الرواج فى كل الأسواق حتى عند باعة الخبز كما بين الجاحظ...حيث انتشر مناخ الجدل الفقهى المتفتح بين المشتغلين بالكلام والفقه، مما استفادت منه الأمة والدولة والعلم والتعلم، فربما انصرف بعض المتكلمين عن الكلام الىالفقه أوالتصوف(الحسن البصرى وأبو حنيفة)وفقهاء انصرفوا عن الفقه لىالكلام(ابن ابى داوود صاحب فتنة حلق القران) –بل ان المأمون نفسه كان متشيعا وفقيها وفيلسوفا وتحول الى الاعتزال-.. حتى أن كثرة اقبال الناس على العلم والتعلم وعلى المسائل الخلافية أدى الى وضع الأصول العقلانية لأصول العلم أو"أدب الحديث والمناظرة"  بقواعد صارمة تعتمد الحجة والحوار الرصين(وما ابعد المسلمون المحدثون عن ذلك اليوم)

فانطلق الفكر فى حريته الى أبعد الحدود حتى لترى بيتا كبيت الفقيه (أبى الجعد) فيه ستة اخوة اثنان شيعيان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان.

 وكان المامون الذى تشيع فى اواخر ايامه..وزيره يحى بن اكثم سنيا،  وقاضيه احمد بن ابى دوود معتزليا،

بل ان الائمة الاربعة الذين كانوا فقهاء ومعلمى مؤسسى الدولة العباسية أشاعوا بعلمهم وتقواهم وفهمهم للنصوص اكثر من غيرهم  منهج الحوار وعدم التنطع والتعنت والتمسك بالراى او القراءة الأحادية للنصوص القرأنية الظنية الدلالة

(فمالك  معلم الرشيد وابنيه) لما طالبه الرشيدمن  ليكتب "الموطا" لتعميمه فى آفاق امبراطوريته الشاسعة رفض قائلا " يا أمير المؤمنين.. اختلاف العلماء رحمة الله على هذه الامة.كل يتبع ما صح عنده . وكل على هدى . وكل يريد وجه الله تعالى

 وأن امام أهل السنة والجماعة وواضع أصول الفقه الاسلامى  محمد ابن ادريس الشافعى، الذى صاحبه الرشيد أيضا ترك وصيته العلمية قبل وفاته  قائلا" ما ناظرت أحدا على الغلبة..وودى أن جميع الخلق يعلمون كتبى ولا ينسبون الى منها حرفا"  قالها يوم الأحد ومات يوم الخميس

 وصنوه أبو حنيفة النعمان يقول"علمنا هذا رأى فمن جاءنا باحسن منه قبلناه"

...وهكذا نهجوا نهج الصحابة (وهم السلف الصلح) الذين لم يتعادوا.واختلف الأئمة كذلك ولم يتخاصموا. وأما العداء الفكرى والسقوط فى لوثة التكفير والقذف والشتم  فلا تنجم الا عن أفواه  الحمقى والمتنطعين..وسفلة المتحزبين...والمحتالين ومن لا ورع لهم(ولنا فى رسول الله اسوة حسنة )

وفى زقاق مدينة البصرة  وساحاتها–(مدينة الحسن البصرى والأصمعى  وابن سيرين والخليل الفراهيدى ورابعة العدوية والجاحظ وفحول اللغة والادب فى العالم العربىو الاسلامى بلامنازع ومدينة التشيع مع نظيرتها الكوفة)  تحاور المتكلمون والسنة والشيعة والمتصوفة وباقى الفرق السبعين بحرية ما بين الاتفاق والاختلاف، فى جو مفعم بالاحترام المتبادل.. حيث كفر بعضهم بعضا ..أو ناوش بعضهم بعضا بدون اراقة دماء، أو استاصال، بل أثرى  بعضهم بعضا. حتى غشيت هذه الظاهرة العوام أنفسهم مما لم تلحظه أوروبا القرن العشرين بشهادة أكثر المستشرقين حقدا مثل مرجليوث  وبروكلمان وجب وغولدزيهر.وبرنارد لويس

.وبهذااجتمع بالعراق من المعترك العلمى أسباب الاجتهادوالاختلاف،ما لم يحدث للأمة العربية الاسلامية لاحقا حين تحجرالعقل، ووقف الاجتهاد منذ بداية القرن الثامن الهجرى الى يومنا هذا..فما حجة المدعين بقدم النزعة الطائفية فى تاريخ العراق القديم ؟ ومن اين اتت مصادره؟

ثم امتدت الحضارة الاسلامية من بغداد الى أقصى أقطارالعالم، حيث أصبحت أمبراطورية قيصر وأمبراطورية فارس  مجرد تابعين ومحكومين( بعد أن كان عرب الشام الغساسنة وعرب العراق المناذرة تابعين لهاتين الامبراطريتين لقرون حتى الفتح الاسلامى)حيث قدمت الأمة العراقية الدليل على قوتها وحيويتها واصالتها وقدرتها على استيعاب اجناسها،وأقوامها، وتدبيرشؤون خلافاتهم واختلافاتهم، والعمل على امتصاصها. فلم يمارسوا عنصرية على الشعوب والاثنيات التى تبنت  الاسلام والعروبة عن طيب خاطر،فاحتضنوها واحتضنتهم، بل  مورس عليهم  بالعكس شعوبيات المنضوين تحت جناحيهم وتحت حمايتهم ، والشعراء الشعوبيين امثال ابى نواس وبشار وغيرهم كثر..

وتجلى هذا التخليط والتسامح والتفتح حتى فى دماء الخلفاء حكام العراق أنفسهم  فكان كثير منهم هجناء...

فالمأمون أمه "مرجل" فارسية من خراسان ..والمعتصم أمه"ماردة" من الترك..والواثق أمه "قراطيس" من الروم ..والمتوكل أمه "شجاع" من خوارزم..والمستعين أمه"مخارق" رومية  والمقتدر والمستكفى أمهما روميتان والمطيع أمه صقلبية .والمعز كانت امه (قبيحة-وهذا اسمها- جارية من القيان ..فكان بيت الخلافة العباسية فى العراق فىعزسؤدده ، أشبه منه بهيئة الأمم منه ببيت خلافة أو ملك عضوض ،وقد دفع هؤلاء ثمن  تساهلهم وتسامحهم غاليا- مع تغافل بعضهم واستهتاراخرين-

وهكذا كانت الدولة العراقية من (132-232) تمسك زمام الأمور بين الأجناس المختلفة والمتناقضة للامبراطورية العالمية الجديدة بحماية الدين والفكرفى العصر الذهبى

فاذاكانت دولة بنى أمية قد نشرت الاسلام بالغزوعندما كانت عاصمة المسلمين بدمشق، فقد انتشرت الحضارةالاسلامية من بغداد بفتوحات الفكر، وبعثت آثاره فى مهاب الرياح الأربع من المعمورة،

مع ما صاحب هذه الخطوات الرشيدة من كبوات بعض الخلفاء كتفضيل المامون للفرس واخيه للترك او سقطته واخيه فى قضية خلق القرآن الا ان التاريخ يشهد لهما بكفاءتهما على الاحتفاظ بالتوازن بين عناصر الامة واعلاء كلمة الدين وحضارة العرب.. فسنرى بان المامون  يقضى نحبه على راس جيشه فى تخوم الروم.

..

والمعتصم كان بطل عموريةآخرة المعارك الملحمية للدولة العباسية بالعراق من اجل حماية الاسلام ضد الغطرسة البيزنطية .

انحطاط الدولة العراقية ودرس التاريخ

فساد الروح سبب لفساد الأمم وانحطاطها

اما المامون فخلط،فسلط الناس على نفسه.

وما أبى المعتصم..فانه رجل حرب، ولم يكن له بصر بالكلام(يقصد علم الكلام )

 وما أخى الواثق، فانه استحق ما قيل فيه(كان فاسقا مستهثراوماجنا)

 من كلام الخليفة العباسى المتوكل  بن المعتصم بالله

لقد بدت علامات ادبار دولة بنى العباس فى العراق فى عصرالمامون رغم مظاهر العظمة البادية، اذ بدأ يفضل العجم الذين أجاءوه الى الخلافة على العرب الذين حاربوه مع أخيه.وكان القدوة التى اقتدى بها من جاءوا من بعده للارتماء فى أحضان الشعوبيين، ولكنهم لم يكونوا  يملكون ذكاءه وعلمه وقدراته الكبيرة على المناورات السياسية ، فارتموا بكليتهم ،لتهورهم،فى كل الأحضان الممدودوة من الفرس الى الترك الى البربر.

 وكان طبيعيا من دولة عربية تغير قلبها  العربى فتصيره فارسيا مع المامون، ثم تركيا مع المعتصم  باسقاطه للعرب من الجندية المنظمة، لينأو بنفسه من دسائس الفرس، ونفورا من عمومته وآل بيته العرب، فسيطروا على مراكز القوة .ومكنوا للشعوبيين، فمال ميزان المعادلة الى حيث لاعودة حين يتوج الواثق  بن المعتصم القائد التركى التاج ويلبسه وشاحين من جوهر فيصيره ملكا، ويفوض له السلطة  ولا يبقى لنفسه الا شهواتها، فكبكب فيها الى اخر المدى.بعد ان كانت دولة الرشيد فى يده وهى فى اوج عظمتها ولكن دولة من جاء بعد المامون كانت فى يد الاخرين ..فقدكان الرشيد الذى كان غزاء وبناء وجبارا، ككان ايضا سماعا للخير وبكاء لسماع الموعظة الحسنة.. وشتان بين من يسمع ومن لا يسمع* اما المتوكل فكان نموذجا  فريدا فى الجبروت الاسراف والعبث  والتقتيل(كان اقسى بنى العباس على اهل البيت وشيعتهم وطغيانه على اهل الذمة حتى لقبه المؤرحون الغربيون  (نيرون المسلمين).، وكان له فى تشييد القصور تصرفات خرافيةلم يدانيه فيها الا ملوك فرنسا فى القرون اللاحقة(والتى كانت سبب نكبتهم ايضا)

ثم خلف هؤلاء خلف،  كانوا طرازا آخر من الرجال،  اضعف ايمانا ورجولة . وأكثر جهلا ..حيث ابتدأت بهم قرون الدمار الذى لاراد له، لوقوعهم  فى أخطاء الروح ومستنقعاتها الآسنة، وما فساد الأمم الافسادا لروحها(وما ظهور المتمردين فى الحضارات القوية ماديا الا بسبب تعفن الأرواح كما يقول كولن ولسون فى فلسفة التمرد واللانتماء) وبسبب  تعفن الروح أو صفائها تسطع الدول أو تنهار (وقد اختلف الباحثوت والمفكرون فى الشرق والغرب فى تحديد العلاقة الجدلية بين الحضارة  والثقافة والمدنية والتطور وتعدد مفاهيمها بتعدد المنظورات والرؤى، وهذا موضوع شائك يحتاج الى بحث خاص)

وبتعفن الروح.. دمر بنوا العباس أنفسهم،  وتقلصت مظاهر سلطتهم ،وبدأ يستغلها المغتصبون، فأمسى هناك سلطتان،سلطة زمنية فى يد السلاطين المغتصبين ،وسلطة دينية فى يد الخلفاء المغصوبين تتمثل فى بنى العباس، ثم صارت دويلات بعد تفتتها ،فتسابق المتسابقون على الظفر بتأييد الخلفاء الضعفاء بأسترضائهم ،أوالسيطرةعليهم، أوشراء دممهم بالمال مقابل ادعاء شرعى ،لسلطة فعلية  وليقبل العباسيين بسلطة وهمية،- واستمرت الأحوال بهم على هذه الوتيرة، الىأن زالت الدولة العباسية بالعراق عندما صار العرب غرباء فى ارضهم وفى دولة ال العباس عم الرسول. وكان المستعصم اخر الخلفاء شديد الكلف باللهو والمجون والليالى الملاح، مع ندمائه وحاشيته  ووزرائه... قتله الغزاة وهو يعاقر الدنان ويتسمع الطرب مع جلسائه وخلانه بين الجوارى والقيان والغلمان، سنة656هجرية...ويسدل الستار على امجاد اعظم وارقى دولة عرفها القرن الوسيط(بالمنظور التاريخى المركزى الغربى)-ان لم يكن فى التاريخ كله

وختاما فانى لااقصد من وراء هذه المقاربة التاريخية تسلية السامرين، أوهدهدة الآسنين، او تردادا لرقائق الواعظين .وانما القصد محرد تذكير بعد الغافلين ،على ان التاريخ يضع مراياه فى موقع العبرة وكأنها عيون باصرة أو أفواه ساخرة  وللرد على المتحاملين على هذا البلد بعد ان تقاعصت عليه صعاليك الامم ،وتناهبت كرامته شراديم حثالة البشر ووصمه بعقر الفتن والشغب

 الخلافات الطائفية مدمرة للدينو مهلكة لاتباعه

ولأذكر أيضابأن التاريخ يصدح بقوانينه عاليا بكل لغات الأرض، وفى كل الحضارات، وجهات الأرض ، قديما وحديثا فهو كله عبر ليظهر للأقوام ما يصنعونه أو ما يصنع بهم ..وأحيانامع سخرية الأقدار...ولكن قوانينه  تصل دائما.. فمنذ قرنين قال فكتور هيغو"  ....ربما تعرف الاشياء ما تصنع ،لكن الرجال –يقينا- لا يعرفون ما يصنعون"   ..فقد علمنا تاريخ اوربا الطويل، ان الخلافات توصل الى الكفر،وان منها ما قسم القارات ..ومنها ما دمر امبراطوريات.. ويقينا حطم الدين المسيحى وانتهى امره الى غير رجعة ، وقدتم ذلك  كله من جراء الخلافات بين أبناء الدين الواحد، حول تعاليم الكنائس، أى حول آراء الرجال، لا حول تعاليم المسيح، فانقسمت الكنائس، وانقسم الرجال حول الباباوات أنفسهم  وأقرالبابا انشاء غرفة فى برلمان باريس لمحاكمة الملحدين (الذين كانوا مؤمنين بالمسيح على غير مذهب الكنيسة) وسميت "غرفة الحريق" وهى المحرقة الاولى قبل محرقة اليهود -وأكثر وحشية- ثم تلتها مذبحة "سانت برتلمى" عام 1572 ثم أعقبتها المذابح الوحشيةللمسلمين التى عمت اسبانيا الأكثر وحشية فى التاريخ الاوروبى- وهى المجازر التى تمر عليها المصادر الغربية مر الكرام.-.ولذا فن الخلافات السنية الشيعية المفتعلة من كل جهال الطرفين، ستدفع الأجيال اللاحقة ثمن الخطايا التى اقترفها من أشعلوها  ومن مارسها ويمارسها–عمدا او جهلا- فيأكل الآباء الحصرم(اول العنب) والأبناء يضرسون، فيتحكم الموتى فى الأحياء من بعدهم .. وقد تكون هى نهاية الدين فى نفس الوقت.كما حدث للمسيحية التى لم يبق منها  سوى "الطقوسية" و "التدينية"La religieusité الفارغة من كل روح...نسأل الله السلامة والعافية