وأد 1
وأد
(1)
ماجد سليمان
"لا دفء بعد اليوم" ..
بهذه العبارة كنت أجلد نفسي دائماً، لا مفرَّ من القدر فأمي لم يهبها الموت لحظة واحدة للوداع، أحس أنني مقتلع من الأرض ومعلقٌ على هاوية الحياة .. إنها لعنة الرحيل .. كأنني جالسٌ على ضفَّة الموت أتخيل الكفن آخر الأصحاب من دُنيا المحن، فلم أعد أرى في سمائي نطفة نجم أبدا .. لا دفء الأمومة، ولا دفء المحبوبة، تلاشى كلاهما عن طريقي، ولم يتركا لي سراباً أتصبَّر به على الأقل.
لقد خشع قلبي لله رضىً بقضاءه فقلب المؤمن حين يخشع فكأنه غصنٍ على سجادة الرمل انحنى، لقد صارت أمي وبعض أوجاعي في عداد التاريخ، التاريخ ذلك الكهل الذي سقط حاجباه على عينيه فهو لا يعلم إلا ما مضى من أحداث العصور السالفة.
لم يعد لي وطن أغرس في ترابه أهدابي الصدئة فأنا وطني عينٌ ممبلة الأهداب وعشقٌ قد هرم ويبس.
"نورانية".. آهٍ من النار التي بين أصابعها، إنها الراغبة الآثمة .. يا كم غيَّرت خرائط روحي بحبها، ويا كم رَكَضَت على رمل قلبي حافية القدمين، كان لي وقت طويل أراقب العمر الذي يتناثر في جسدها، إنها كتاب الهوى وصفحات الغرام النديّة، لم تكن ككل النساء لقد أيتمتني هي أيضاً، أيتمتني بفراقها، بعد أن تركت سهمها المشتعل ماكثاً بين ضلعيّ .. لم أنتظر منها صدوداً بقدر ما اشتعلت لموعد لقاءها المائي .. لقد قلت لها مراراً: "إنني لا أعرف ترديد الجروح، وأحتار كثيرا في كتابة سطور القلق" ..
في لقاءها الأخير ألقيت بجثث التساؤلات فكانت فاللاإجابة هي أجابتها .. لقد طال بي تقبيل جبين السكوت الذي لم يُعنّي على شيء، وجلست أطبطب على قلبي بيدي المملوؤة بالغرام.
* * * * * * *
عرفتها بعد وفاة أمي بسبع سنوات تقريباً عرفتها والعشق يخرق جدران العزلة، عرفتها وأنا محملٌ بأتعاسي ورغباتي المحرومة .. وفارقتها وأنا لم أُنْزِلْ عن ظهر صبري صندوقاً واحداً من صناديق عذابي وحرماني.
ها أنذا أبدد ثروة الأمل في حانات الحياة، وأمشي في دروب يتيمة مثلي .. آهٍ لو علمت نورانية عن خطواتي التي تبيت في دروب العتمة مع أن العتمة أحياناً أوضح من باب قد عهدته موصدا خلفي .. آهٍ لو علمت كيف أغمدت الحيرة سيفها في ضلوعي .. وأنني ما زلت سارٍ قد أكلت الطريق أخفاف نوقي ومع كل هذا لم أصل إلى مبتغاي اليتيم .
إنها بكائي وخفقان قلبي ..كيف أخبرها أن روحي مُغلَّفة بالهُيام وقلبي مهدومٌ لم تُقمه كلمة (أحبك) بعد .. لا أدري لمن أهدي مرجان القصيد بعدها، وليتني أعلم هل يَدقُّ ناقوس السهر في عينيها مثلما يعلق أجفاني حتى يجثو الليل على ركبتيه.
الحب علاقةٌ تطفو فوق ماء الحياة لا يحققها إلا الزواج، ويبقى الوداع تابوت المُحب .. هذا هو إيماني في دُنيا المحبين فأنا لا أتسول المحبة ولا أطلب إعانة الأعداء، فقد عشت عمري مصلوباً على خشبة البوح، فأنا صاحب غاية شريفة والغاية الشريفة لا يحققها إلا السعي الجاد، ولأنني مؤمن بقضائي وقدري مؤمنٌ أيضاً بأن قلب المؤمن طائرٌ حالم لا يحطُّ إلا على الغصون المورقة المثمرة.
فدائماً أتأمل قِصَر الحياة لأن العمر مجرد زفرة، ولم أفكر في جلد روحي لمحبة المال بتاتاً لأن المال بالنسبة لي عَرَضٌ من الدنيا يطلبه الطامع الدنيء فوق الحاجة، ويطلبه العزيز الكريم حسب الحاجة، ولي أمنية مثل بقية البشر فالأمنية ظمأٌ لا يقطعه إلا ماء السعي والعمل، ولدي إيمانٌ كاملٌ بضرورة مصارحة الغير مع أن المصارحة في وقتنا هذا أعظم من المسبَّة، لقد عشت مرحباً بمن يعرض عَلَيَّ أخطائي دون تَشَفٍّ ولا انتقام، فأن يواجهني أحد بخطأي أحبُّ إليَّ من مَن يجاملني فيه، وليرى بنفسه شجاعتي فمن الشجاعة الاعتراف بالخطيئة، وناهياً نفسي من المجادلة بالذَّات مع السفيه، فمجادلة السفيه سَفه.
جَنَّبت قلبي عن قنافذ الحسد مع معرفتي أن الحسد سهامٌ مدقوقة في صدر الحاسد، مع ابتسامتي حتى للعدو لأن ابتسامتي في وجه عدوي إقرارٌ مني بتفاهته .. عشت عمري كارهاً للغيبة رغم أنني لا أسلم من شياطينها لعلمي أنه ما عثى لسان المرء في الأعراض إلا زاد رصيد سيئاته، فأنا لا ينقصني سيئات حتى أرفع من رصيدي.
* * * * * * *
أبكي كبكاء الأرض الضمأى لأن بي ذاتاً معذَّبة، فقد ضمئت محاولاتي في إقناع نفسي أن أمنياتي كلها قد سُحقت .. لكنني ما زلت مُعَلَّقاً بحبل أمل على وشك الانفلات .. مع كل شوقي إلا أنني حين كنت ألتقيها يجف في فمي الكلام، ويصير صدري عريضاً جاهزاً لسهام المراوغة والهروب من أسئلتي .. لا أدري هل صدئت مشاعرها أم أن الحيرة التي عشت أياماً أمضغ خبزها بأسنان الضياع أشبعتني يأساً منها.
الآن .. أقف مشدود الجوارح أحاول أن أدوس على كرامة الملل لكن لا جدوى فالملل نفسه أقوى مني بالآف المرات، فلم يعد لي سوى صبر قد فُقئت عينه، وظنٌ موبؤة شراشفه فلهذا وقفت عاري الحيلة مملوئاً بالندم على ضعفي.
هذه الروح ياكم أنختها على رمل التساؤل .. تساؤل يا كم جاب قيعان النفس وتلاعها .. "نورانية" ..شمسٌ حاولت أن أفسح لها مكاناً في الروح لكنها أبت، فأبدلتها بالروح فأبت أيضاً .. ومع هذا ما زال عشقي لها صلباً لم يُهدم بعد .. وما زلت أفض لها أبكار القوافي لعل سحاب الأمنيات يساق لي .. مللت من نشر صياحي في ظلام اليأس .. أجدني مكبلاً بضيم الحياة وقهرها، فأنا مصرٌّ على أن أغوص في الظلام الكثيف محاولا رسم شمعة من نور تقودني لمبتغاي .
أذكرها حين كانت تُقلَّبُ قلبي بين كفيها الطريين، وكنت أراقب هذا القلب بحذر، تمرره بين أصابعها الحليبية ككرة مطاطية .. عيناي تراقبانه بحذرٍ أكثر .. تغرس أظفارها الفارهة في عروقه برفق ثم تنزعها خلسة .. فلم يخرج الدم بل كانت أوتار الحنين تدندن من الجروح التي حفرتها.
فجسدها المتباهي بحلواه والذي لم يتطهَّر من آثامه بعد .. لم يمهلني لحظة فقيرة أستعيد فيها قليلا من كبريائي .. لم أنسَ أنها كانت تيمم القلب بأحاديثها الخضراء في يوم يابسٍ من عمري الرمادي وأذكر تماماً حينما قلت لها وأنا أسحب يدي السمراء من دفء يديها الحانيتين:
- مشكلتي أنني أدفع كبريائي ثمناً للمحبة.
ولأنني لست من الذين يعشقون السباحة في يم المحرمات ولا من الدجالين الذين يطرزون الأساطير والأكاذيب على رمل حكاياتهم ورواياتهم المعفرة في طين الوجل والريبة، ولأنني لا أملك قنطار صفة من كل هذا .. لم أرق لها.
لم تكلف نفسها أبداً فتح نوافذ الرحابة لي، لم تحاول البتَّه .. داهمتها بمشاعري الثائرة، حاولت إقناعها بأنني صلب الغرام فأتاني ردها أقسى من الصخر الصلد تأكدت من هذا عندما أغلقت باب المنزل بقوة بعد أن ألحقتني بكلمات لا تقل بذاءة عن سابقاتها:
- لا يدفعك إليَّ إلا شبقك المتوزع في أنحاء نحولك.
لم يكن بإمكاني أن أفيق من كلامها المسكر .. لم اكترث كثيرا لما قالته كما كنت سابقاً وبخطىً متثائبة حملتني أقدامي إلى دكَّةٍ لأحد أصدقائي وأسلمت أجفاني لنعاسٍ ثقيل.
حلمت في تلك الدقائق أنني على أرضٍ تتقيأ الظَلمةَ والحساد، أرضٌ وقف على إحدى تلالها غراب النفاق وبَقَرَ رأس التل ففاضت أعين المنافقين منه.
فتحت عيني على صوت انفتاح عبوة المشروب .. حسَّ صديقي أنني صحوت فناولني على الفور قارورة المشروب قائلاً:
- اسكب لنفسك ولي في الأقداح الصغيرة الموضوعة على الرف الذي يليك.
اعتدلت في جلستي .. ساويت غترتي .. أخرجت قدحين من بين الأقداح من مكانها وسحبت القارورة من يده اليمنى ثم تأملت القدح قبل أن أسكب المشروب فيه، كان قدحاً بني اللون تكثر في باطنه علامات القِدَمِ وشقوق من الدرجة الثالثة تنتشر على أطرافه وجوانبه، أرقت بعض المشروب في القدح ثم ناولته إياه:
- خذ.
أشعل سيجارته وراح يمتصها بشراهة حتى أضاء قبس جمرتها من بين الوسطى والسبابة ثم مسح بيده اليسرى على جبينه وأخذ القدح قائلاً:
- شكراً.
* * * * * * *
لقد كانت تعبث بمشاعري عبث الطفل بلعبته، ففي إحدى لقاءاتي بها في مقهىً عائلي كانت تقاسيم وجهي تُبجّلُ جهها المطل من خلف طرحتها الشفافة، وكفيّ الغليظين تعبثان في خواتمها الساكنة في أصابعها اليسرى .. كانت بوادر التصديق تسطو على وجهي النحيل وهي تعترف لي لأن حبي بُذر في تراب قلبها ونبت في أضلاعها، وأن لا ثاني لي في حياتها .. وبعد دقائق هربت من رصيد العمر المتبقي .. رنَّ هاتفها فأجابت المتصل:
- أهلا حبيبي.
وقفت كالمفجوع تمنيت لو أني سُويت بالثرى ولم أقف هذا الموقف .. أخذت أنظر إليها بحقد وحبٍّ معاً .. رفعت رأسها فلاح لي نورها من خلف النقاب فتهدَّل غضبي وناخ عُنفي، حتى جاء صوتها رقراقاً:
- لماذا وقفت؟
جَفَّ صوتي وجاهدت الإجابة:
- لماذا يا نورانية؟!
راحت عيناها اللتان غرقتا في حدود الكحل تجري في وجهي بتعجب وسألت:
- لم أفهمك؟!
- من هو حبيبك يا نورانية الذي اتصل بك قبل دقيقة؟!
كانت وأنا أسألها تدفع بصرها الرقيق عن وجهي فأذابتني ابتسامتها خلف النقاب حين قالت:
- هل غضبت لأنني قلت لابني "أهلا حبيبي".
ثم انخرطت في ضحك متواصل، وقعت يدي على الكرسي ثم أعدته وجلست ودهشتي تنسكب علي دون توقف:
- قلتي: ابنك!!
هدأ ضحكها وأعادت سهام عينيها في صدري قائلة:
- نعم ابني .. هو الوحيد الذي في حياتي لقد حاول أباه أن يحرمني إياه ففشل.
أصابت الرعشة يداي فقلت:
- نورانية .. هل أنتِ متزوجة؟!
هدأت نظراتها وقالت:
- نعم .. ما بك؟!
- كيف تقابليني وأنت في ذمة رجل؟!.
- 0000000
- لماذا تجرجرينني وراءكِ يا نورانية بهذه الطريقة؟!
- 0000000
- لقد وقع حبكِ في صميم فؤادي وقد زهدت في كل شيء من أجل رؤياكِ فتكون هذه هي الحصيلة.
نهَضَتْ فترائت ملاكاً يقف أمامي .. نهدان كاعبان، وعينان كأنهما لؤلؤتان، وقدٌّ كأنه رمح طعن السماء حين وقفت .. تخشَّبت عيناني في هذا الملاك الماثل أمامي فقالت:
- لقد اكتشفت خيانة زوجي مع إحدى قريباتي وعزمت على أن أثار لنفسي منه وأقابل الخيانة بالخيانة لكن شيطانك أبطل هدفي مع أنه شيطان .. لقد أيقظك في اللحظة الذهبية للثأر.
سرى كلامها في عظامي كاللهب .. اتكأت على الطاولة ونهضت على مهلي حتى كانت المسافة بين الأعين بضع سنتمترات، وقلت:
- واخترتي قلبي البائس اليتيم ليكون كبش الخيانة يا نورانية؟!
- 0000000
كان صمتها محزناً رغم بشاعة ما شاهدت وسمعت .. أدارت لي ظهرها وراح كعبها يراود الرخام عن نفسه وهي رائحة إلى سبيلها المجهول.
تعكزت على الكرسي، وأحنيت رأسي ألماً وأحساساً بالضعف والاحتقار، ثم أدرت وجهي لأراها ظبياً قد فرَّ من دوحتي إلى الخلاء الفسيح.
* * * * * * *
على أن غيابها فتَّت أملي إلا أن طيفها ما زال يضيء .. لقد أوقفتني على حافة هاوية الهلاك العاطفي، وجَرّت خلفها كل هزائمي مفاخرةً بها نفسها، مغموسٌ أنا في غرامها الفضيّ، مجموعة كل مآتمي تحت مظلة اعتذارها وارجاعها قلبي الغض الطري.
ألهبتني، ولم تمدَّ بعض مكارمها وتطفئني كما ألهبتني .. إنني المسجَّى على ذكرياتها، والمصلوب على استخفافها بجموع اشتياقي .. هكذا أكرمتني المصادفات، وبنفس الطريقة تصارحت معي الأيام الماضية، فأظنني من بعد كل هذا قرأت كلَّ ما تسرده لي شفاه المقبلات.
الآن .. أشتهي أن أغنّي يباسي للغمام، أتوق لأن أعزف لحني الأخضر على أسماع الهاجعين، بي رغبة جامحة لأن أفرد مماتي قبل الممات، بي جنونٌ أسمرٌ كلوني أريد أن أعلقه على جمجمة تاريخي، فلا شيء في الرياض يستحق البكاء بعد أمي ونورانية، لكن لا بد للغناء من ساعة تطبطب عليّ ولو ساعة، أخذت نفسي إلى الخلاء البعيد، قدماي تغوصان في الرمل دون تمهل .. أسْندتُ جذعي الأسمر النحيل على سارية أسمنتية، فمضيت أسحب من سلة روحي أعواد الاشتياق وأكسرها عوداً عوداً.