محاولة في قراءة الوضع العربي
منير شفيق
أصبحت التجارب العربية في الانقسامات أو التوافقات مليئة بالعبر كما عجت بحالات التآلف وبناء المحاور في ظروف رزح فيها الجميع أمام طغيان خارجي، أو داخلي، لم يترك لأية قوّة من الأطراف المعنية (المعارضة أو المقاومة أو الممانعة) سبيلاً غير اللجوء إلى التكاتف والتآزر.
الحالة الثانية وصلت قمتها في العقدين الأخيرين بتجمع قوى المقاومة والممانعة والمعارضات الشعبية في المحور الذي عُرِف تحت عنوان جبهة المقاومة والممانعة. ولكن هذه الحالة أخذت تتغير مع إطلالة الثورات في أوائل العام 2011.
في الواقع منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تبلور وضع عالمي وإقليمي وعربي وقُطْري جديد اتسّم بتغيّر في موازين القوى في كل هذه المجالات، في غير مصلحة السيطرة الأميركية – الأوروبية، والكيان الصهيوني. وكذلك ما تشكل من نظام عربي ما بعد الحرب العالمية الأولى أي النظام الذي ساد الوضع العربي المجزأ إلى 22 دولة قطرية. وذلك بالرغم مما مرّ به من محاولات اختراق باتجاه التحرّر والاستقلال والوحدة والصراع مع الكيان الصهيوني.
انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو وجنوح الصين للتفاهم مع الغرب غيّر في عدد من المعادلات والمقولات التي سادت في قراءة الوضع العالمي في مرحلة الحرب الباردة.
ثم فشلت الولايات المتحدة في إقامة نظام أحادي القطبية. بل وتدهورت سيطرتها العالمية إثر فشل استراتيجية المحافظين الجدد في عهد بوش الابن. وقد توّج ذلك باندلاع الأزمة الاقتصادية 2008.
وبرزت أقطاب دولية منافسة وذات شأن مثل روسيا والصين والهند، كما بروز أقطاب إقليمية صاعدة مثل إيران والبرازيل وتركيا وجنوبي أفريقيا.
وتبعت الضربات التي تلقاها النظام العربي بانهيار محور الاعتدال كما خسارة الكيان الصهيوني حربَيْ 2006 و2008/2009 أمام المقاومتين في لبنان وقطاع غزة على التتالي، وكذلك تراجع أميركا أمام المقاومتين في العراق وأفغانستان. ثم جاءت ثورتا تونس ومصر وانتصارهما مطلع عام 2011 لتطيحا بركنين من أركان محور الاعتدال العربي. مما أدخل الوضع العربي خلال الثلاث سنوات اللاحقة في مرحلة فوضى عارمة من خلال ما نشب من صراع بين الثورات والثورات المضادة، كما في ما بين مختلف المكوّنات الاجتماعية والسياسية والعسكرية والدينية والقبلية والجهوية والاثنية والطائفية.
هذا ونشبت صراعات قاسية حول السلطة والدستور وإقامة النظام الجديد، كما حول إعادة بناء النظام
العربي. الأمر الذي أدخل الأوضاع في انقسامات وتنازعات راحت تنتثر فيها الأشلاء، وتسيل الدماء، وتقتلع مئات الألوف والملايين من أماكن سكناهم ليُلقى بهم إلى عالم الهجرة والتشرّد...
إن الجوهر السياسي في ما راح يندلع من صراعات دار ويدور حول السلطة في الدولة ليس بالمعنى المبتذل في الترامي على السلطة، وإنما بمعنى الكيفية التي سيُقرَر فيها مصير البلاد.
فطبيعة الصراعات المندلعة في ما بين المكوّنات الداخلية من الأقطار العربية، وكذلك على المستويين العربي – الإقليمي تدور حول من يملأ الفراغ الذي نجم عن انحسار السيطرة السابقة عالمياً وإقليمياً وعربياً، كما حول كيف سيتقرّر مصير النظام القادم، وما هو موقع كل طرف فيه ودوره ومستقبله (فيما أصبح كل طرف أشدّ جرأة وقوّة وتصميماً بما يشبه صراع "العمالقة" لو جازت المقارنة.
ومن هنا نفهم حدّة الصراعات الداخلية التي راحت تُبْرز قوى وظواهر كانت في السابق مهمشة، ولا يكاد يُسمع عن وجودها، أو يُبرز قوى كانت قوية ولها دور ولكنها أصبحت اليوم في صدارة القوّة. وهذا ما يُضيء، ولو نسبياً، لماذا راحت تتفسّخ أو تضعف تحالفات؟ ولماذا راحت تنشأ محاور جديدة. ولكنها متقلبة وقابلة لاحتمالات التلاشي السريع أو التثبيت لمدى أبعد. وقد قامت على قواعد جديدة غير تلك المعروفة.
فالمرحلة الانتقالية التي عاشتها (وتعيشها) عدة بلدان عربية خلال الأربع سنوات الماضية أي منذ الإطاحة بحسني مبارك وزين العابدين بن علي تكشفت وما زالت تتكشف عن السمات الآنف ذكرها.
فهذا التوصيف قد يشكل مقدّمة لفهم وتفسير ما نشأ من أوضاع وصراعات وتغيّرات وظواهر جديدة وعلاقات عربية - عربية وإسلامية – إسلامية، كما مواقف دولية (حاولت أن تجد لها دوراً من خلال القوى المتصارعة فيما كانت في الماضي هي التي تحدّد مصائر الصراع وأدوار القوى الداخلية، وهي التي كانت قادرة على ضبط كل خروج على النظام الذي تشكل بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ولو بعد حين من سنين الحصار). أي لا بد من التحرّر نظرية المؤامرة أو وجود مخطط وراء ما يسود من فوضى وظواهر جديدة وإلاّ فقدنا القدرة على التفسير والمعالجة.
على أن من الضروري هنا أيضاً أن تلحظ السرعة التي تنقلب فيها الطاولة على وضع جديد تكوّن، أو محور أخذ ينشأ أو يتراجع إلى جانب التبدّل المتناقض في مواقف عدد من القوى والدول الوازنة.
فموازين القوى الداخلية أصبحت أشبه ما تكون بحالة الرمال المتحركة، فالمفاجأة خلف الباب، لتقلِبَ ما استجدّ من معادلة، أو ما كان قائماً، رأساً على عقب.
هذا ما حدث مثلاً في مرحلة رئاسة محمد مرسي، ثم مرحلة الإطاحة به، وهذا ما حدث في معادلة الوضع بعد انهيار الجيش العراقي وامتداد داعش وإعلانها قيام الخلافة. وهو ما يحدث الآن مع دخول الحوثيين إلى صنعاء وانهيار الجيش والقوات الأمنية فيها. (وهذه أمثلة بارزة فقط).
من يدرك هذه السمات التي أخذت تتسّم بها الصراعات وتقلبات موازين القوى وتشكل العلاقات في ما بين القوى الداخلية كما علاقات كل طرف عربياً وإسلامياً وعالمياً، ولا سيما إذا أدرك أن استقرار سلطة جديدة ما، أو اتجاه ما، لم يحن أوانه بعد. فما زالت كل القوى تقف على رمال متحركة. وليس مِثْل مرسي والمالكي وغيرهما من يلمس الآن وبعد فوات الأوان، معنى الوقوف على رأس السلطة فوق رمال متحركة، أو فوق أرض تميد من تحتِه.
تريد هذه المقالة إلى جانب ما قدّمته أن تلفت انتباه كل من يحقق انتصاراً أو يصل إلى تسلم سلطة ألا يقع في غرور القوي وقصر نظره. فيذهب إلى سياسات لا تحسب جيداً موازين القوى الحالية ولا طبيعة المرحلة والصراعات، ولا يتفكر في كيفية الوقوف أو البناء على رمال متحركة، ولا يُحسن تقدير قوة مختلف الأطراف فرادى ومجموعات، وكيف تضاعفت عن ذي قبل، وأن ما كان يستخدمُه من مقاييس في قراءة الأدوار والأحجام والتأثير والمسالك لم تعد صالحة للتطبيق على الوقائع الجديدة أو على ما طرأ من متغيّرات على موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والمحلية الداخلية القطرية.
باختصار إن المعادلة الراهنة لا تسمح للمسيطر بالحسم والاستفراد ودوام الحكم لعشرات السنين فإلى جانب تنمية القوة الذاتية، وما بلغته من سطوة وتفوق يجب البحث دائماً عن المساومة وإتقان فن توسيع التحالفات والتقاطعات وما يتطلبه ذلك من تنازلات من قِبَله قد تبدو غير ضرورية، أو كبيرة جداً، لا يستحقها المعني، ويمكن الاستغناء عنه إن راح يزيد على "السعر" الذي اقترحه عليه فيما الرمال تتحرك والأرض تميد.
هنا يلعب غرور القوي المنتصر دوره في تقرير السياسات كما يلعب قصر النظر دوره في استبعاد التوافق فيفقد الفرصة فيما هو قوي وقادر ثم يأتي اليوم الذي يجد فيه نفسه غير قادر على مساومة متوازنة شبه عادلة وقد أصبح ضعيفاً أو أضعف من ذي قبل. لأن من سيأتي سيجنح إلى ما جنح إليه.
إن السياسة ذات النظرة النافذة هي التي تحسن تقدير الموقف وتسبق الأحداث بخطوة واحدة. ولكن طبعاً إذا سبقتها الأحداث عليها أن تحسن تقدير الموقف في المرحلة الجديدة أيضاً قبل أن يتسّع الفتق على الراتق اتساعاً لا يصبح الرتق معه ممكناً. أما استباق الأحداث بخطوة، وأنت قوي ومتمكّن يكون في القدرة على تقديم التنازلات السخية والملموسة من أجل تحقيق أوسع إجماع شعبي ووطني.
ويبدو حتى الآن أن الظروف ومعادلات موازين القوى لا تسمح بالانفراد في الحكم وفرضه لعشرات السنين كما كان الحال في المراحل التاريخية السابقة. والله أعلم.