مؤتمر المناخ والإنسان الصالح
ابتهال قدور*
المناخ المتمرد على كوكبنا الجميل قضية تشغل قادة العالم المجتمعين هذه الأيام في
كوبنهاجن...
مُلفت هو اجتماعهم في مؤتمر يحاول إنقاذ الأرض، وملفت كان غيابهم عن مؤتمر يحاول إنقاذ الإنسان الجائع على هذه الأرض.. في مؤتمر الجياع الذي انقضى بلامبالاة واضحة!
منطقياً لا تبدو الفروق كبيرة بين قضية تدهور أحوال الأرض، وبين قضية تدهور أحوال الإنسان وقضائه جوعاً، فالأرض خلقت للإنسان وجعلت محضناً له، هي داره وبيته ومكانه، والتهاون في صيانتها ذنب كبير، ولكن ما فائدة اهتمامنا بالدار إذا ما غادرها ساكنوها؟؟!!
يعيدنا هذا السؤال إلى "بديهية" حولتها تعقيدات الحضارة المعاصرة إلى ما يشبه "الجدلية" تبحث في قيمة الإنسان الفعلية في هذا الزمن، وفي إطار ما هو سائد من أيديولوجيات، على مستوى قيادات العالم ومتخذي القرار...
البيت أثمن أم ساكن البيت؟!
يفترض أن تكون الإجابة هي الإنسان، بلا تردد، ولكن تأملوا معي، حين كان أكثر من مليار جائع يتجهون بأنظارهم وقلوبهم وعقولهم وأجوافهم الفارغة، إلى قمة تبحث شؤونهم، كان قائد أقوى دولة في زيارة تاريخية إلى الصين لبحث شؤون المال والأعمال..وحصص السوق، وكان غيره من القادة يعيشون الروتيني من أعمالهم، في تجاهل كامل وتغاضي عن ما يحدث من جرائم تجحدها الإنسانية السليمة وتتنكر لها..!
ومع ذلك يسعدنا اجتماع العالم في "كوبنهاجن" وسيسعدنا أكثر توصل قادته إلى ما يحد من غضب كوكبنا المخلص..
فتحقيق النجاح هاهنا يشكل تحد، إذ لا تخلو القضية من انقسام مصدره الاختلاف في التشخيص...
اختلاف في التشخيص والمرض قائم..
هناك من يرى أن الأرض متوعكة، ترتفع حرارتها بسبب سباق الإنسان المحموم مع التقنية، وسعيه المستميت لتكثيف الإنتاج، و تشجيع الاستهلاك، هذا بالإضافة إلى أمور أخرى تتضمن الحروب و تصنيع الأسلحة...
ولكن هناك فريق آخر يرتاح للتشخيص الآخر، ذاك الذي يبرئ ساحة الإنسان و ما تفعله يداه، بل هناك من يرى أن حرارة الأرض لم ترتفع خلال الفترة مابين 1998 إلى2008 إلا بمقدار 0,02 أي أن النسبة تقترب من لاشيء!! هذا حسب مركز هادلي، وجامعة (ايست انجليا) البريطانية.
من هؤلاء من ربط المشكلة بتقلبات حركة الشمس، ومنهم من يعتقد أن الأرض تمر بدورات شبه منتظمة، من برودة مرتفعة نسبياً، تستمر سنوات أو عقود، تتبعها حرارة مرتفعة، أيضا تستمر سنوات أو عقود...
"مجيب لطيف" يرأس فريقاً من الباحثين في جامعة "كيال" الألمانية صرح بأنه "من الممكن أن ندخل في عقد أو عقدين تنخفض فيها درجة الحرارة عما هي عليه الآن،
الأمر الذي لن يكون نهاية تغيرات المناخ، ولكن أحد آثاره المتعددة.."
(جريدة لوموند).
وهناك من المسؤولين من يتشاءم أو يحتار أمام التقارير الصادرة عن مراكز الأبحاث، خاصة تلك المتعلقة بما يحدث في منطقة المتجمد الجنوبي، حيث تفوق حركة الجليد التوقعات، وتستبق التقديرات، فالعالم هناك يسير وفق قانون لم تتضح معالمه الدقيقة بعد...
نشير هنا إلى " تقرير نشرته مجموعة المنظمات الحكومية الدولية لخبراء المناخ عام2007 توقعت فيه ارتفاع مستوى البحار بين 18 إلى 59 سم مع العام 2100، بفعل انهيار الكتل الجليدية ولكن هذا التقرير تجاهل عن عمد - حسب صحيفة لوموند الفرنسية- ظاهرة تم تسجيلها في العام 2000 هي أن هذه الكتل لا تتقلص بالانهيار فقط، ولكنها "تنزلق" وتذوب في البحر، وتقرر حينها أنه ما يزال من المبكر الحديث عن هذه الديناميكية للجليد، لكن ما تظهره الأقمار الصناعية اليوم تنقل لنا انسكاب ما يقارب الخمسمائة مليار طن سنويا في المحيطات، في إشارة إلى تسارع حركة الجليد عن ما كان متوقعاً! وما يزال الخلاف قائماً في بحث كيفية التعامل مع هذه الظاهرة..."
فالخلافات حادة بين تيارين، ولكل منهما مساندون ومؤيدون...وإعلاميون!
غياب عربي كما في الغالب..
ولكن بغض النظر عن المعمعة الحاصلة على مستوى العالم بخصوص المناخ، أين هي شعوبنا من هذه القضية؟
قبيل المؤتمر المعني، قامت غالبية الشعوب والمنظمات والجمعيات المهتمة بالبيئة بعمل مظاهرات واستعراضات ومطالبات، تحث القيادات على الخروج بنتيجة فعالة تجاه مشكلة الاحتباس الحراري، فما بال شعوبنا وكأن المشكلة لا تعنيهم!
بل أين هي التوعية بقضايا يتم تغييبها عن اهتماماتنا، بينما ينبغي أن تظل في صلبها؟
إن الحديث عن صياغة المواطن الصالح، أو الإنسان الصالح، هو حديث يجدر به أن يطال كل جوانب الحياة، ولا ينبغي له أن يتجزأ، أو أن يقتصر على جوانب معينة دون غيرها، المواطن الصالح هو الذي يتفاعل بإيجابية مع كل ما يعني الوطن، والإنسان الصالح هو ذاك الذي يتفاعل بإيجابية مع كل القضايا المتصلة بالأرض والعالم والكون، والإنسان الصالح هو الأشمل إذ يضم تحت سقفه بالضرورة مواطناً صالحاً...لذلك كان هو ما يجب التركيز على صناعته. والمراهنة عليه.
فالفاعلية حين نغرسها في الأنفس الإنسانية كصفة راسخة، مستمرة، يكون من نتائجها توسيع نظرة هذا الإنسان لما ينبغي أن يدخل في بؤرة اهتمامه، فيتعاطى مع قضايا الكون والعالم على أنها من اهتماماته الأولية، التي لا ينبغي لأحد أن يخطفها منه، ويسلبه حق البحث فيها والتوصل إلى نتائج بشأنها...ولعل هذه تكون أولى درجات التغيير الحضاري...
أما حين يصبح كل ما يدور على الأرض لا يهم إنساننا، ولا يعنيه، ولا يدخل حيز اهتماماته، فذاك مؤشر على وجود داء اللامبالاة القاتل الذي يزداد انتشاراً، بفعل اجتزاءنا لقضايانا، وتصنيف ما يعنينا وما لا يعنينا، بناءاً على معايير غامضة، وسلم تقييمي وهمي.
فحين يقول لك الإنسان العربي عن قضية كونية معينة "إن هذه القضية لا تعنيني"، بينما القضية ذاتها تحرك وتثير بقية شعوب الأرض، فهذا يعني أن لدينا مشكلة خطيرة على صعيد بناء الإنسان.
هذا يعني أن إنساننا يعيش على هامش الأرض، وهامش الحياة، وأنه لم يعد يتحرك في وسطها ليقترب من مركزها، ويمسك بالزمام والقيادة والتوجيه...
نعم مناخ الأرض يعنينا ... ومشكلة الجوع تعنينا، وحقوق الإنسان تعنينا، وكل ما يحدث على هذه الأرض من تحركات يجب أن يعنينا، لأننا شركاء فيها، ولأننا إذا كنا نشارك بقية البشر هوائهم ومائهم، فلا بد لنا من أن نقدم ما ينفع هؤلاء البشر..كل حسب قدرته.
وصحيح أن من يصاب بداء اللامبالاة، سيأتيه يوم لا يجد لديه دافعاً يحركه حتى وهو في أشد حالات الخطر.
جاءت نتيجة استفتاء شعبي في فرنسا 58% "نعم" لإضافة حجم تأثير السلع على المناخ، أي أنه بالإضافة إلى مكونات السلعة، وتاريخ صلاحيتها، يؤيد الشعب هناك إضافة التأثير على المناخ ...ويبدو كما يقول الكاتب "ستنتشر هذه القضية بسرعة في الغرب"..
أين نحن من استفتاء كهذا، وأين شعوبنا من وعي بقضايا كهذه، بل ومما هو أدنى من ذلك!!
الإنسان الصالح ليس ذاك الذي تقوم قضية مركزية بتهييجه عاطفياً لفترة محددة من الزمن ينطفئ بعدها... وينسى ...
ولكن أيضاً، وفي المقابل، ليس الإنسان الصالح ذاك الذي يستهويه مؤتمر يرى فيه مصلحة فيحضره، ويتخذ بشأنه القرارات، ويزعجه مؤتمر لا يرى فيه مصلحة فيغيب عنه، ولا يتخذ بشأنه شيئاً...
الإنسان الصالح ليس ذاك الذي تحركه العاطفة وحدها، و تدفعه مصلحته الخاصة بمفردها، و تسيره نظرة أحادية قاصرة، هناك معادلات أخرى للإنسان الصالح..
ولكن، وفي إطار الصلاح، نجد أنه من الواجب أن نذكر بكوننا الأمة التي اختارها الله لتكون شاهدة على الناس، ونلفت النظر إلى ضرورة أن تؤدي هذه الأمة واجباتها، ومهامها التي تخولها لأداء دورها كشاهدة، فضلاً عن أدائها لدورها الإنساني المتمثل في الخلافة الإلهية على الأرض...سواء كان الموضوع مناخاً أو غير ذلك ..
*كاتبة سوريه مقيمة في الكويت