عوامل ترسيخ المواطنة في المجتمع العراقي

عماد كامل

العراق- البصرة

[email protected]

يعد مفهوم المواطنة من المفاهيم القديمة المتجددة التي تفرض نفسها عند

بحث أي بعد من أبعاد التنمية البشرية بالمفهوم الإنساني الشامل بصفة عامة ومشاريع

الإصلاح والتطوير بصفة خاصة،ويمكن ملاحظة ذلك على مستوى التشريعات والمناهج التربوية لدول العالم،حيث تتضمن دساتير جميع دول العالم بنودا تنظم حقوق المواطن وواجباته،كما إنها تسعى إلى تكريس روح المواطنة قيماً وممارسات لدى أفرادها من أجل أن تحقق اندماج وطني واسع، وكذلك احتل مفهوم(المواطنة) مساحة كبيرة في الدراسات السياسية والاجتماعية والتربوية ، وتعدد أبعاد هذا المفهوم في علاقاته الممتدة عبر تنسيق علاقة الفرد بالمجتمع والدولة في أطر قانونية منظمة للحقوق والواجبات ، ومبنية على أبعاد المواطنة حسب المنابع الفكرية للدولة

ومرجعية نظرياتها السياسية،وقد أنتجت ألأطروحات الفكرية في مختلف دول العالم العديد من الرؤى والتصورات الفكرية حول مفهوم المواطنة من حيث المبدأ والحقوق والواجبات  أما في العالم العربي فقد اختلفت أطياف الفكر داخل البلد الواحد باختلاف الأيديولوجيات التي تتعاقب على إدارة الدولة في حقب زمنية مختلفة مما أوجد أنماطاً متعددة من الوعي لدى الشعوب العربية تداخلت أحياناً وتصادمت أحيانا ً أخرى ، وخصوصا في العراق فأثرت على دوائر الانتماء مما أدى إلى العديد من الانعكاسات السلبية على مبدأ المواطنة ذاته فضلاً عن ممارساتها من قبل الأفراد.

وقد اختلف المنظرون في وضع تعريف خاص لمفهوم(المواطنة) فعرفتها دائرة المعارف البريطانية بأنها " علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة متضمنة مرتبة من الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات وتسبغ عليه حقوقاً سياسية مثل حقوق الانتخاب وتولي المناصب العامة . وميزت الدائرة بين المواطنة والجنسية التي غالباً ما تستخدم في إطار الترادف إذ أن الجنسية تضمن بالإضافة إلى المواطنة حقوقاً أخرى مثل الحماية في الخارج، إما  موسوعة كولير الأمريكية فأنها لم تفرق بين الجنسية والمواطنة فالمواطنة في(موسوعة كولير)

هي عضوية كاملة في دولة أو بعض وحدات الحكم، وتؤكد الموسوعة أن المواطنين لديهم بعض الحقوق مثل حق التصويت وحق تولي المناصب العامة وكذلك عليهم بعض الواجبات مثل واجب دفع الضرائب والدفاع عن بلدهم، وكذلك هي " أكثر أشكال العضوية اكتمالا في جماعة سياسية ما".وفي القرن الحادي والعشرين شهد مفهوم المواطنة تطوراً كبيرا لتحديد مواصفات

المواطنة عالميا مؤكدة على(الاعتراف بوجود ثقافات مختلفة،وعلى الفرد احترام حق الغير والاعتراف بدينه ومعتقداته،والمساهمة الفاعلة في نشر السلام الدولي وحل الصراعات بطريقة اللاعنف)

ومع التغير الحاصل في العالم المعاصر من حيث موازين القوى ، وظهور التكتلات السياسية والاقتصادية ، وتنامي البنى الاجتماعية الحاضنة للفكر الليبرالي وعبوره للحدود الجغرافية على الجسور التي مدتها تكنولوجيا الاتصال ، والتركيز على خيارات الفرد كمرجع للخيارات الحياتية والسياسية في دوائر المجتمع ومع هذه التغيرات العامة بالإضافة إلى التغيرات الخاصة التي حصلت في المجتمعات العربية شهد مفهوم المواطنة تبدلاً واضحاً في مضمونه واستخداماته ودلالاته والممارسة  الفردية وما يرتبط به من قيم وسلوكيات تمثل عوامل هدم أو بناء للمجتمع وهيكل الدولة .وقد شهدت المواطنة خلال السنوات القليلة الماضية تحدياً جديداًَ يتمثل في عملية الانفتاح الثقافي الذي تعددت آلياته ووسائله لمخاطبة المجتمعات عن بعد، مما اثر على مسارب تفكير العقول خاصة لدى فئة الشباب ومن هم في سن القابلية للاحتواء أو التقبل الفكري والثقافي بحكم خصائص المرحلة العٌمرية التي يعيشونها، وأثار هذا الانفتاح جدلاً واسعا في الأوساط السياسية والدينية والتربوية حول مدى تأثر مفهوم المواطنة لدى الشباب بهذه الأفكار التي يستقبلها عبر الأثير.

تعدد الهويات ووحدة الانتماء للوطن

يعرف الانتماء على انه انتساب لكيان ما يكون الفرد متوحداً معه مندمجاً فيه،

باعتباره عضواً فاعلا يتمتع بالانتساب إلى ذلك الكيان والذي يكون على شكل جماعة ، طبقة ،قبيلة، وطن،وهذا بدوره يولد تمازج بين الولاء و الانتماء الذي يعبر الفرد من خلاله عن مشاعره تجاه الكيان الذي ينتمي إليه. وقد ورد في الانتماء آراء مختلفة للعديد من الفلاسفة والمفكرين فأعتبره فروم حاجة ضرورية على الإنسان إشباعها ليقهر عزلته وغربته ووحدته ، أما (وليون فستنجرف) فاعتبره اتجاهاً وراء تماسك أفراد الجماعة من خلال عملية المقارنة الاجتماعية ، وهناك من اعتبره ميلاً يحركه دافع قوي لدى الإنسان لإشباع حاجته الأساسية في الحياة ويأتي كنتيجة حتمية للجدلية التبادلية بين الفرد والمجتمع،باعتبار إن وجود المجتمع هام جدا بالنسبة للفرد ليعبر عن رغباته عبر ارتباطه بالآخرين ولذا فأن الانتماء يتأثر بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية،فتنعكس هذه الظروف على أنماط سلوك الفرد نتيجة لفشله في الشعور بالانتماء وإحساسه بالعزلة عن الجماعة، وخصوصا إذا لم يستطع إشباع حاجاته فأنه يتخذ موقفا عدائيا حيال مجتمعه، وقد يلجأ إلى مصادر غير مرغوب فيها أحيانا يوجه إليها انتماءه وتكون لها عواقب سيئة على الفرد والمجتمع. نستنتج من ذلك إن التأصيل النظري لمفهوم المواطنة يبين أن المواطنة هي الدائرة الأوسع التي تستوعب مختلف الانتماءات في المجتمع كما أنها تضع من المعايير التي تلزم الأفراد بواجبات والتزامات معينة تحقق الاندماج والمشاركة في تحقيق مصالح الأفراد والوطن. في حين أن الانتماء ترسمه العديد من القوى الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية التي قد لا يمكن السيطرة عليها ، إذ يتم الانتماء عبر قنوات الأسر والقبائل والعشائر ، و من خلال الدوائر الفكرية والدينية الأخرى التي ربما تفضي في بعض الأحيان إلى ممارسات مناوئة لمبدأ المواطنة ذاته، وهذه الظاهرة شكلت تحديا داخليا في المجتمعات العربية ومنها العراق حيث أدى تمازج حدود الانتماءات في داخل الوطن الواحد إلى تكوين شكل ظلامي في الممارسات اليومية للفرد داخل المجتمع انعكست سلبا على الحقوق والواجبات خصوصا في ظل الفوضى الفكرية التي عصفت في البلد والتي وصلت إلى حد التناقض بين الرؤى حيال مفهوم المواطنة ذاته،والتي اتخذت من الإقصاء وعدم قبول الآخر أشكالا لهذا المفهوم.

وعلى ضوء ما تقدم يمكننا المساهمة في تفعيل روح المواطنة لدى الفرد العراقي، وخصوصا إذا علمنا إن هذا المفهوم يتسع ليضم جميع الإفراد في إطار ثقافي قانوني يؤطر آليات مشاركة الفرد في الشأن العام والحفاظ على المصالح العليا للوطن عبر تعزيز مبدأ المواطنة بمختلف أبعادها وتعدد مستوياتها لتصبح قضية مجتمع بأكمله تتداخل فيها المسؤوليات لتصبح مهمة وطنية يحكمها التوازن وتنتظم وفق سياق متناغم عبر تأسيس علاقة بين مكونات المجتمع والدولة على أسس وطنية تتجاوز الأطر الضيقة وتراعي عوامل بناء الدولة الحديثة، كما على الدولة أن تعمق الالتزام بالجوامع والمشتركات الوطنية من خلال الممارسات المنضبطة بضوابط العدل والحرية،كي يتشرب أفراد المجتمع بقيم المواطنة الحقيقية منذ صغره ليتمكن من ممارستها عمليا في مختلف مجال حياته العملية وحسب المرحلة التي يمر بها الفرد.