مرقص الوجدان
مرقص الوجدان
د. فاروق المناصير
في صيف 1998 ، سافرت إلى إحدى الدول العربية الجميلة ذات التنوع الطبيعي البشري والإثني والثقافي . وكنت قد زرتها قبل هذه المرة ولكن من مدة طويلة نسبياً وزيارتي لهذه البلدة كشفت لي عن حقائق وأمور كثيرة لم أرها في المرة السابقة ، لقد تغيرت البلد وتغيرت معالمها القديمة واتسعت مدنها ومجمعاتها التجارية .
غير أن الذي لفت نظري بشكل واضح وساءني كثيراً انتشار ظاهرة (المراقص والملاهي الليلية) ، فقد غزتها قشور وانحرافات الحضارة الغربية الوافدة ، وهي الدولة العربية المحافظة والعريقة في إسلامها ودينها .
نعم .. لقد تبدلت أخلاق الناس وتغيرت قيمهم وأصبح الهدف هو السعي إلى الكسب السريع وجني المال والثروة حتى بالطرق المحرمة وغير المشروعة .
أذكر أني سكنت في شقة مفروشة وفي منطقة راقية ، وكنت إذا رجعت من صلاة العشاء أعرّج على محل صغير لبيع القهوة العربية ، فأقف لأشرب فنجاناً أو لأشرب فنجانين وأتجاذب أطراف الحديث مع صاحب المحل في شتى شؤون الحياة .
لفت نظري أن بقرب هذا (الدكان) الصغير مرقص ليلي كبير، رواده معظمهم من أهل الخليج العربي ، وكنت أسمع وأنا أحتسي فنجان القهوة صوت المغنية أو المغني وهو يصرخ بين وصلة غناء وأخرى في أهل الخليج يحثهم بكلمات الثناء والمدح لإخراج أموالهم ونقودهم ويرمونها على رأس وصدر (المطرب) و (الرقاصة) ، أما صوت الموسيقى المنبعث من (المرقص) فقد كان عالياً ويصم الآذان .
مرّ عليّ الأسبوع الأول ثم الأسبوع الثاني وأنا أسمع كل ليلة بعد تأدية صلاة العشاء نفس هذا الصوت الخارج من هذا المرقص المسمى بـ (مرقص الوجدان) .
عندها قررت في نفسي أن أنصح مالك (مرقص الوجدان) ، وأخبرت صاحب القهوة بهذا الأمر، فأصابه الذهول والاندهاش وقال لي : (كيف تنصح السكارى والمخمورين .. ومن منهم سوف يستمع لنصيحتك وهم في هذه الحالة من العربدة والسكر والمجون ؟)
قلت : دعني أجرب ولن أخسر شيئاً فما هي إلا كلمات أقولها ثم أنصرف .
ذهبت إلى المرقص ووقفت عند بابه من لخارج دون أن أدخله ، وناديت مالك المرقص وكانت امرأة ، جاءت إليّ وهي تمشي الهوينى وشبه عارية وتمسك في يدها اليسرى سيجارة أخذت منها نفساً أو نفسين .
لقد رأت شاباً خليجياً يلبس اللباس العربي ، فجاءت باشة وهاشة وهي تظن أن هذا الشاب سوف يحجز مقعداً في صالة الرقص وسوف يرمي بأمواله على صدر الراقصة والمغنية .. أليس هذا ما يصنعه رواد المرقص الخليجيون كل ليلة .
ولكني فاجأتها بطلب معرفة اسمها ، لكنها لم تسمع صوتي لطغيان صوت الموسيقى ، فأشرت عليها بإحضار ورقة وقلم ، وقمت بكتابة هذا السؤال : (هل أنتم مسلمون ؟) وأريتها الورقة ، فهزت رأسها (بنعم) .
كتبت على الورقة من جديد هذا السؤال : (يا أختي لو قدّر الله عليك الموت هذه الليلة وأخذك أهلك فغسلوك وكفنوك وصلوا عليك ووضعوك في التراب ثم مضى عنك الأهل والحباب وجاءتك ملائكة العذاب . هل عندك إجابة صحيحة وصادقة تقنعين بها الملكين ؟ سكتت ولم تحر جواباً .
أخذت الورقة من جديد وكتبت عليها هذه الآية : {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين } [المطففين : 5 ، 6].
أريتها الورقة ، فإذا بدمعتين ساخنتين تخرجان من مقلتيها ...
ودعتها بعد هذه الوقفة القصيرة ومضيت لحالي ، وبعد بضع خطوات التفتُّ إلى الوراء فإذا بي أجدها واقفة تنظر إليّ .
لم يمض إلا يومان بعد هذه الحادثة ، فإذا بها تغلق المرقص وتترك عالم الفن .
قال لي صاحب القهوة : يا أخي .. والله إنك لساحر .
قلت : كلا .. والله لست بساحر، ولكن لعل الله علم مني الصدق فوفقني لهدايتها وما كنت إلا سبباً من الأسباب ساقه الله في هذه اللحظة لهدايتها .
نعم .. لقد أغلقت هذه السيدة ملهاها (مرقص الوجدان) ، بعدما تحرك وجدانها الداخلي نحو الهداية الربانية والتوفيق الإلهي .
كثيرون يعتقدون بأن أهل الفن لا تنفع معهم النصيحة والموعظة ، فهم أبعد ما يكونون عن الله تبارك وتعالى . ولكني أعتقد بأنهم بشرٌ يتأثرون بما يتأثر به بقية البشر، ولهم مشاعر وأحاسيس وعواطف ، وقلوب البشر بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
وكم من فنان وفنانة هداه الله واستقام أمره وترك عالم الضياع وبؤرة الفساد والمجون ؟
إن علينا العمل والنصيحة بالتي هي أحسن .. وعلى رب العالمين الهداية والتوفيق.