من يصلح هذا الفساد
حسام الدين أحمد محمد خليل/ج م ع الفيوم
كل صانع أدرى بصنعته ويعلم ما يفسدها وما يصلحها ولا ينبئك مثل خبير والله عز وجل خلق الأرض ونهى عن الفساد والإفساد فيها بعد إصلاحها فهو سبحانه لا يحب الفساد ولا المفسدين ومن ثم لا يُصلح عمل المفسدين ،وحتى لا تختلط المفاهيم ويصير المعروف منكرا والمنكر معروفا عرفنا الخالق ماهية الفساد وكيف يكون الإصلاح فكثيرا ما يفسد الناس من حيث يظنون أنهم مصلحون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون وكم من قوم ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا
فلا عجب أن ترى مفسدا يرفع شعار (لا للفساد) ويعجبك قوله في الحياة الدنيا وهو ألد الخصام وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد ، وليس أدل على ذلك من فرعون الذي قال لقومه : ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد
فلا بد إذاً من تحديد مفهوم الفساد ، وما الأسباب التي تؤدي لحدوث الفساد ؟ ومن هم المفسدون؟ ، ومن هم الذين يجب عليهم التحرك للقضاء على هذا الفساد ؟ وبأي وسيلة يتحركون ؟ ولكي نجيب على كل هذه الأسئلة لا بد أن نعود إلى أصل الموضوع ونرجع إلى خالق الأرض الذي ينهى عن الفساد في الأرض ويدعو أنصاره لينهوا عن الفساد في الأرض (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم )
فكما أن الله عز وجل خلق هذا الكون ووضع له نظاما دقيقا محكما لا يختلف ولا يتبدل ، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ، وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه بما تعملون خبير وهو سبحانه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ، جعل الله كذلك لهذا الإنسان في الأرض منهجا يسير عليه فلو ترك منهج الله واتبع هواه فسدت الأرض (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكر ربهم معرضون.)
ومن هذا المنطلق يتضح أن الفساد هو مخالفة تعليمات الخالق واتباع الهوى فالله خلقنا وخلق كل شئ وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه فلا ينبغي لنا أن نستخدم ما سخره الله لنا في إفساد الأرض بعد إصلاحها (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) فإذا نسينا لحظة أن الخالق هو وحده الآمر الناهي (ألا له الخلق والأمر ) يكون الفساد في الأرض ، والغاية هنا لا تبرر الوسيلة فالغايات تخضع للأهواء والوسائل ينبغي أن تكون منضبطة بشرع الخالق الحكيم حتى عند تغيير المنكر وإزالة الفساد لا بد أن تكون الوسيلة غير مخالفة لشرع الله الخالق البارئ
ويزداد الفساد ويستشري حينما يتقاعس
المصلحون ويغضون الطرف عما يحدث من فساد حولهم أو ينشغلون عنه بأي قضية أخرىوحينئذ
لن تكون لعبادتهم أي فائدة فالصلاة التي لا تدفع صاحبها لتغيير المنكر وإزالة
الفساد لا تغني ولا تسمن من جوع .
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
فانتشار الفساد إذا يرجع إلى سببين رئيسيين
1. مخالفة منهج الله واتباع الهوى ، وهما وجهان لعملة واحدة فمن لا يتبع شرع الله
فهو لا محالة يتبع الهوى ، ولذلك تجد آيات القرآن دائما ما تقرن بين اتباع الهوى
ومخالفة حكم الله
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴿38/26﴾
فاتباع الهوى ليس من شأنه أن يفسد الأرض فقط ولكنه (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن )
2. التخلي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (خيرية هذه الأمة) والتقاعس عن الجهاد في سبيل الله ينتج عنه فساد الأرض (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)
فإقامة الصلاة لا بد أن تؤدي إلى أمر بمعروف ونهي عن المنكر وإصلاح في الأرض فما كانت العبادة في دار الأرقم بن أبي الأرقم مقصودة لذاتها بقدر ما كانت بمثابة إعداد وتربية لهؤلاء الأفذاذ الذين سيقضون على الفساد في الأرض ، ولو أن محمدا صلى الله عليه وسلم قال لقريش في بادئ أمره أننا قوم ما جئنا إلا لنقيم الصلاة ونعتكف في المساجد ونقيم الليل ونهذب أخلاقنا ولا شأن لنا بكم وبما تصنعون ، لما أخرجوه أو أثبتوه أو قاتلوه ، لو فهمت قريش من محمد هذا المنطق المغلوط لبنت له المساجد في كل ناحية يعتكف فيها هو وأصحابه ما داموا سيتركونهم وشأنهم ، لكن الفهم الصحيح لرسالة الإسلام أعلنه ربعي بن عامر في كلماته المضيئة حينما دخل على ملك الفرس في عزة الإسلام ليعلنها مدوية على مسامع التاريخ : نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة . ، وحينما أمر الله نبيه بقيام الليل بين له العلة من ذلك (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) فكان قيام الليل استعدادا لحمل الرسالة وزادا لمواصلة السير والجهاد في سبيل الله واستمدادا للعون والقوة والطاقة من خالق الكون العظيم الذي خلق الإنسان خليفة له في أرضه
وأختم مقالتي بقول الإمام حسن البنا رحمة الله عليه
يا قومنا: إننا نناديكم والقرآن في يميننا و السنة في شمالنا، و عمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، و ندعوكم إلى الإسلام و تعاليم الإسلام و أحكام الإسلام ، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، و إن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيا فنحن أعرق الناس و الحمد لله في السياسة، و إن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات و انكشفت الغايات.
يا قومنا: لا تحجبكم الألفاظ عن الحقائق و الأسماء عن الغايات، و لا الأعراض عن الجوهر، و إن للإسلام لسياسة في طيها سعادة الدنيا و صلاح الآخرة، و تلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلا فسوسوا بها أنفسكم، و احملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الأخروية، و لتعلمن نبأه بعد حين.