فيليب .. وأنا
فيليب .. وأنا .. والإسلام
د. فاروق المناصير
كنت في غاية الإعجاب به ، وكان هو بدوره في غاية الإعجاب بي ، وكان كل منا يطمح ويطمع في إدخال الآخر في دينه . كنا نلتقي في كل يوم ـ تقريباً ـ ونخرج سوياً إلى المكتبات والمتاحف ، كان هو قادماً من (سويسرا) وكنت انا قادماً من (البحرين) ، وفي مدينة الضباب (لندن) التقينا عام 1989 .
فيليب ، شاب ذكي الفؤاد ، ألمعي الذهن ، محب للحق والحقيقة ، غير متعصب لدين أو لعرق ، واسع الثقافة والاطلاع وخاصة على المذاهب والأديان والفلسفات ، وكان يتقن إلى جانب لغته الأم (الفرنسية) اللغات التالية : (العربية ، والفارسية ، والإنجليزية) .
دعوته يوماً إلى مطعم باكستاني يقدم اللحم الحلال في مدينة لندن ، وهناك دار بيننا هذا الحوار:
فيليب : اسمح لي أن أطرح عليك هذا السؤال : الإسلام الذي أباح لك أن تتزوج من اليهودية والمسيحية ، لماذا لم يسمح لي أن أتزوج من المسلمة ؟ أليس في هذا عدم عدالة وعنصرية ؟
قلت : هذا سؤال وجيه وطيب ، وأرجو ان تستوعب الإجابة وأن تفهمها بشكل جيد وعميق .
أما اماذا لم يسمح الإسلام بالزواج من المسلمة ؟ فلأن المسيحي أو اليهودي إذا اقترن بالمسلمة فهو يعتقد أن ربها ليس ربه ، وأن نبيها ليس نبيه ، وأن كتابها (القرآن الكريم) ليس كتابه ، فإذا أصبحت تحت يده فهو في أمر عسير من أمور دينها ودنياها .
أما إذا عكسنا المسألة فإن المسلم إذا تزوج بالمسيحية أو اليهودية فهو يعتقد أن ربها هو ربه ، وأن رسولها (موسى) أو (عيسى) عليهما السلام هو رسوله ، وأن كتابها في أصوله الأولى هو كتابه ، فإذا أصبحت تحت يده فهي في أمر يسير من أمور دينها ودنياها ، بل يفرض عليه الإسلام أخذها في كل يوم (أحد) إلى كنيستها ، ولهذا سمح لي الإسلام بالزواج من المسيحية أو اليهودية ، ولم يسمح لك كمسيحي بالزواج من المسلمة .
فيليب : هذا كلام طيب .. ومقنع .
قلت : دعني الآن أطرح عليك حزمة من الأسئلة ، وأرجو أن تتقبلها بقبول حسن .
فيليب : تفضل يا أخي ، فكلي آذان صاغية .
قلت : هل يمكن أن تلتقي طبيعتان مختلفتان فتنتجا طبيعة ثالثة مختلفة ، فيها شيء من الطبيعة الأولى ، وشيء من الطبيعة الثانية ؟ كأن يتزوج إنسان بقرة ، فتلد له مخلوقاً نصفه من عالم البشر ونصفه الآخر من عالم البقر؟
فيليب : هذا مستحيل الوقوع ، إلا إذا تلاعبنا بـ (الجينات الوراثية) .
قلت : هذا ما يقوله دينكم .. الذي يقول : إن الله جل جلاله ، قد اتصل بالسيدة العذراء (مريم) عليها السلام فولدت له مخلوقاً نصفه إنسان والنصف الآخر إله ، فماذا تقول في هذه القضية ، وأنت تقول : إن هذا أمر مستحيل الوقوع إلا إذا تلاعبنا بـ (الجينات الوراثية) ؟
فيليب : لا جواب .. ولا تعليق .
قلت : السؤال الثاني : أيهما يحتوي الآخر، الأكبر يحتوي الأصغر أم الأصغر يحتوي الأكبر؟ بمعنى : هل هذا المطعم يحتوينا أم نحن نحتويه في صدورنا وأجسامنا ؟
فيليب : بل المطعم هو الذي يحتوينا .
قلت : إذن كيف تأتى لكم أيها المسيحيون أن تتصوروا أن الله الذي يحتوي هذا الكون ويهيمن عليه ، يحتويه ، لا أقول بطن (مريم) ولكن (رحِمُها) عليها السلام وأنت قلت : إن الأكبر يحتوي الأصغر؟
فيليب : لا جواب .. ولا تعليق .
قلت : أخي ـ فيليب ـ لو أعطيتك هذه الزجاجة من الماء ، فكم يوماً تستطيع أن تمسكها دون أن تنام ؟
قال : على الأغلب ثلاثة أيام ثم يغلبني النعاس والنوم وبعد ذلك تسقط الزجاجة وتنكسر ويسيل منها الماء .
قلت : إذن كيف اعتقدتم ـ أيها المسيحيون ـ أن الله المهيمن على هذا الكون والمدبر له ، والذي يمسك السماوات والأرض قد قتله اليهود .. ومات .. ثم دفن ، وبعد ثلاثة أيام نهض من بين الأموات وصعد إلى السماء ؟..
في هذه الأيام الثلاثة من الذي كان يدبر الكون كله وقد مات الإله المدبر ؟!
نحن المسلمين يا أخي ـ فيليب ـ لا نفكر بهذه الطريقة . الإله عندنا دائم (الصيرورة) لا يتغير ولا يتبدل ولا يموت ولا ينام ، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم . وهوالقائل في كتابه العزيز : { إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً } [فاطر: 41]
فيليب : ليس عندي جواب على هذه المسألة .
قلت : أخي ـ فيليب ـ على من وقع (الصّلب) .. هل على الجانب الإلهي من المسيح أم على الجانب البشري ؟
فيليب : وقد أدرك أن في هذا السؤال فخاً ، فقال : بل على الجانب البشري وليس الإلهي .
قلت : إذن الجانب الإلهي مجرم وخائن وعميل لأنه عرف أن الجانب البشري سوف يصلبه اليهود والرومان ومع ذلك سكت وأخفى الحقيقة . فهو إذن خائن وعميل لليهود وللرومان .
فيليب : لقد خدعتني بسؤالك هذا .. ولم أكن أتوقعه .
قلت : لو ان هناك رجلاً له خمسة من الأبناء الأشرار والسادس ابن طيب وحبيب وصالح ، فقام الخمسة الأشرار بجريمة قتل ، فقال الأب : سوف أكفر عن ذنبهم بقتل ابني الحبيب والصالح ، فماذا تقول في تصرف هذا الأب ؟
قال : هذا الأب مجنون قطعاً .. إذ كيف يقتل ابنه الحبيب والصالح من أجل خمسة من الأشرار؟.. هذا أب مجنون .. مجنون حتماً .
قلت : هذا الأب الذي قلت عنه أنه مجنون هو إلهكم الذي تعبدونه .. أليست المسيحية تقول : إن آدم قد ارتكب ذنباً وهو في الجنة ، واستمر هذا الذنب أو هذه الخطيئة سائرة في ذريته ، تحملها أجيال بعد أجيال ، إلى أن أنزل الله (ابنه) الوحيد والحبيب ليُقتل على الصليب ، فيكون بذلك قد كفر ذنوب البشر وخطاياهم ؟
ـ لم ينطق بكلمة وقد أصابته الدهشة والذهول والحيرة .
قلت : أخي ـ فيليب ـ ما أهمية الصليب في نفوسكم وعقائدكم ؟
فقال : الصليب من أهم رموزنا الدينية ومن أكثرها قداسة لأنه يمثل الخلاص من الخطيئة ، وبسببه شننّا عليكم حروباً صليبية لمدة مائتي سنة واحتللنا (القدس) لمدة ثمان وثمانين سنة ، حتى جاء (صلاح الدين الأيوبي) فطردنا منها .
قلت : إذن الصلب والصليب من عقائد المسيحية الكبرى والأساسية ، فهل تدري ـ يا أخي فيليب ـ ما هو شكل الصليب الذي تزعمون أن السيد المسيح عليه السلام قد عُلّق عليه ؟
فيليب : لا أدري بالضبط ما هو شكله ، ولكن قد يكون على شكل (+) على ما أعتقد .
قلت : اسمع يا أخي .. لقد ظل المسيحيون قروناً عديدة لا يعرفون شكل الصليب ، فمنهم من يقول : إنه على شكل (+) ومنهم من يقول : إنه على شكل (×) ، ومنهم من يقول : إنه على شكل ((t ، إلى أن جاء الفنان (مايكل أنجلو) الذي كلفه (بابا روما) برسم قصة الإنسانية على سقف وجدران كنيسة القديس بطرس ، فلما وصل في رسومه إلى قضية الصلب رسم الصليب على شكل (t) ، ومن يومها والمسيحيون يعتقدون أنه هو الشكل الذي عُلق عليه السيد المسيح عليه السلام فأنتم يا أخي تأخذون دينكم وعقائدكم من الرسامين والفنانين ، وليس من العلماء والحقيقين .
عند هذه النقطة انتهى الحوار، وافترقنا عن بعضنا البعض . وبعد عشرة أيام التقيت به عند المسجد ، وأدهشني وجوده فسألته : ما الذي جاء بك إلى مسجدنا هذا يا أخي فيليب ؟
قال : جئت لأسلم وأشهد بالشهادتين . لقد غبت عنك لمدة عشرة أيام كنت خلالها أسأل (القساوسة) في الكنائس وأراجع الكتب المسيحية ، فلم أجد جواباً مقنعاً لأسئلتك ، فأدركتُ حينها أن الإسلام هو الدين الحق ، وأن القرآن هو الكتاب المنزل من قبل السماء على الرسول الحق صلى الله عليه وسلم ، وقد شرح الله صدري للإسلام ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
فتعانقنا وتصافحنا ثم دخلنا المسجد لصلاة المغرب بعدما علمتّه طريقة الاغتسال وطريقة الصلاة .
واستطاع فيليب بعد ذلك أن يقنع أسرته باعتناق الإسلام ، ثم افتتح له مركزاً إسلامياً لنشر الإسلام في ربوع سويسرا .
وصدق الله العظين حينما قال : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يُضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء } [الأنعام : 12]