أدب الحريّة
أدب الحريّة
محمد علي شاهين*
أدب قديم، يضرب في أعماق التاريخ، مذكور في ديوان العرب، مقرون بالاعتذار تارة، وبالظلم والشكوى تارة أخرى، وأسلوب متحضّر للترافع عن قضايا المقهورين في عالم القهر والنسيان، وشحن ذاكرة التاريخ.
تطالعنا نصوصه في دوحة الشعر العربي، فنختار قصيدة الشاعر المخضرم الحطيئة وهو سجين في مطمورة الفاروق بسبب هجائه الزبرقان بن بدر أحد سادات تميم في الجاهليّة وعظماء الإسلام، وتماديه بقوله:
دع المكام لا ترحل لبغيتها واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
فشكا الزبرقان هذا الشاعر السليط اللسان الذي لم يتحرّر من عاداته الجاهليّة فهجا أمّه وأباه، وأطلق لسانه في أعراض المسلمين، فسجنه ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد بأن لا يهجو أحداً، وقد أخذت منه قصيدة الاستعطاف كلّ مأخذ.
ماذا تقول لافراخ بذي مرخٍ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
القيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ولمّا وفد أبو العتاهية على حاضرة العلم والأدب بغداد في أوّل خلافة المهدي مدحه، ثم امتنع عن قول الشعر فأرغمه الرشيد عليه، وأمر بحبسه في سجن الجرائم.
ولمّا دعي إمام المحدّثين في عصره أحمد بن حنبل إلى القول بخلق القرآن لم يجب، فضرب وحبس وهو مصرّ على الامتناع.
وأسر أبو فراس الحمداني وهو جريح فسجنوه بخرشنة ثم نقلوه إلى القسطنطينيّة، وتعذّرت المفاداة فلبث في الأسر أربع سنين، ظهرت فيها أشعاره الروميّات ملأى بعواطف الحب والحنين، واشتهرت قصيدته اللاميّة، فلا تجد مثقفاً عربيّاً إلا ويحفظها ويتغنى بها وينوح.
اقـول وقد ناحت بقربي معاذ الهوى ماذقت طارقة النوى أتـحـمل محزون الفؤاد قوادم أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا أيضحك مأسور وتبكي طليقة !؟ لـقد كنت أولى منك بالدمع مقلة | حمامةأيا جارتا هل تشعرين بحالي ولا خـطرت منك الهموم ببالي على غصن نائي المسافة عالي؟ تـعـالي أقاسمك الهموم تعالي ويسكت محزون ويندب سالي !؟ ولـكن دمعي في الحوادث غالي | ؟؟
وفي عهد الاستعمار الفرنسي لسوريّة نظم الشاعر نجيب الريّس قصيدته في سجن قلعة أرواد ومطلعها: يا ظلام السجن خيّم، فاشتهرت وشاعت وتردّدت على كل شفة ولسان وفيها يقول:
يا ظلامَ السّجنِ ليسَ بعدَ السّجنِ إلا أيّـها الحُرّاسُ رِفقاً مـتّـعُـونا بِهَواء إيـهِ يا دارَ الفخارِ قـدْ هبطْناكِ شَبَاباً و تَـعَـاهدنا جَميعاًًً لنْ نخونَ العهدَ يوماً يا رنينَ القيدِ زدني إنَّ في صَوتِكَ مَعنى لـسـتُ والله نَسيّاً فاشْهَدَنْ يا نَجمُ إنّي | خَيِّمْإنّـنا نَهْوَى فـجرُ مجدٍ يتَسَامى و اسمَعوا مِنّا الكَلاما مـنـعُهُ كَانَ حَرَاما يـا مقرَّ المُخلِصينا لا يـهابونَ المنونا يـومَ أقسَمْنا اليَمِينا واتخذنا الصدقَ دِينَا نغمةً تُشجي فُؤادي للأسى والاضطهادِ مـا تـقاسِيه بِلادِي ذو وفـاءٍ وَوِدادِ | الظلامَا
ولا يعني هذا أنّ أمّتنا كانت رائدة في هذا الفن أو مبتكرة له، فهو موجود في كل الآداب العالميّة، وهذه رواية الأديب الروسي ديستوفسكي (ذكريات في منزل الأموات) مثال حي يحتذى في هذا الفن الروائي.
لكن الباحث في عناوين الكتب وفهارس المكتبات ودور النشر في الآونة الأخيرة تأخذه الدهشة وهو يكتشف حجم المؤلّفات النثريّة والدواوين الشعريّة، التي تناولت أدب السجون بجرأة وصراحة، وغزارة مشاركات كتاب وشعراء الأقطار العربيّة في التعبير عن هذه الظاهرة المخيفة.
وليس في ذلك غرابة بعد تفشي دائرة القهر والاستبداد، وتنامي ظاهرة التعذيب، وتوسّع حكام الجور في استخدام طرق التعذيب، واستيراد آلات التعذيب، واستقدام خبراء التعذيب من حثالة الفاشيين القدامى والنازيين والمرضى الساديين، ليصبّوا جام حقدهم الدفين داخل السجون العربيّة على الإنسان، وخاصّة في الدول التي تدّعي التقدميّة، وترفع شعار الحريّة.
وضاق صدر الحكام فأخذوا الناس بالشبهات حتّى ضاقت السجون بالنزلاء، وافتتحت سجون جديدة من مال دافعي الضرائب، على حساب المدارس، والمستشفيات، والخدمات الأساسيّة.
وتفوّقت بعض الأنظمة في ميدان التعذيب، واشتهرت بهذا الفنّ، فمارست التعذيب بالوكالة، فكان المتهم ينقل من غوانتانامو لتجرى له طقوس التعذيب على أيدي زبانية السجون وخبراؤه، على سبيل التعاون الأمني، فيعترف بالدور الذي لقنه المعذّب له، ليس باستخدام السوط وأعقاب السجائر، والحقن بالماء، والنفخ بالهواء فحسب، ولكن بطرق شيطانيّة أخرى نروي أحدى هذه القصص الواقعيّة على لسان من ذاق طعمها، قبل أن يعاد إلى الجهة الأصليّة محمولاً على النقّالة بملف كامل.
تحدّث أحد من مورس التعذيب عليه في غرفة المحقّق عن ذكرياته والعهدة على الراوي:
قال المعذب إمّا أن تلقى حتفك أو أن تعترف بما عندك.
وجلبوا كرسياً متيناً حفرت قاعدة الجلوس فيه بدائرة قطرها يتجاوز الثلاثين سنتيمتراً.
نزعوا عني الملابس الداخلية وأجلسوني على الكرسي وشدوا وثاقي بإحكام، وبعد فترة قصيرة دخل شخص آخر وهو يحمل ما نسميه ب (بابور الكاز) ويسميه الإيرانيون (جراغ زنبوري)، إنه طباخ نفطي صغير كان يستعمل في بلاد المشرق العربي، ويترك صوتاً مدوياً عند إشتعاله لأنه يعمل على أساس ضغط النفط إلى فوهة الجهاز، وضعوا (البابور) تحت الكرسي، وبدأ (البابور) منذ الوهلة الأولى يفعل فعله حيث شعرت بإحتراق شعر بدني وتصاعدت رائحة إحتراقه، وبدأت أتصبب عرقاً وأنا أحس أيضاً برائحة شواء وإحتراق الجلد والشعر أيضاً، هذا النمط من التعذيب البشع لم يمهلني طويلاً حيث تحركت لا شعورياً بعد حين وإنقلب الكرسي وفقدت الوعي كلياً.
واللافت للنظر أنّ سجناء الاستقلال خرجوا من السجن إلى كرسي الحكم، ولم يخرجوا من كرسي (البابور) ومعهم مذكّراتهم وقصائدهم القليلة لتنشر على الملأ، لكن سجناء الحكومات القمعيّة خرجوا إلى القبر ومعهم أسرارهم محرومين من القلم والورق سوى ما رسموه في زنازينهم من جداريّات، أو ما كتبوه بالدم، فمكث الرئيس نور الدين الأتاسي في السجن عشرين سنة بعد اعتقاله وقد هدّه المرض، ومات بعد مدّة وجيزة، ومات اللواء صلاح جديد في سجن المزّة بعد ثلاثة وعشرين عاماً من القمع داخل السجن، ونقل إلى قريته جثّة هامدة، وكذلك فعل بمحمد رباح الطويل.... الخ.
أمّا سجناء الاستقلال في سوريّة ولبنان فقد سجنوا أشهراً قليلة في جزيرة أرواد، ومنهم الرئيس شكري القوتلي، والزعيم عبد الرحمن الشهبندر، وأمضى الرئيس بشارة الخوري وأعضاء حكومته في لبنان عشرة أيام في قلعة راشيّا معتقلين، وفي اليوم الحادي عشر في 22 تشرين الثاني 1943 تم الافراج عنهم وأعلن استقلال لبنان.
لكن سجناء الزمان العربي أمضوا حياتهم في السجون الرهيبة (المزّة، وتدمر، وأبو زعبل، وليمان طرّة، وأبو غريب .. الخ) والمنافي البعيدة، ثمّ انقطعت أخبارهم، ولم يجرؤ أحد على التلفّظ بأسمائهم.
وسنّ الطورانيّون الأتراك سنّة إعدام سجناء الرأى فساقوا رجالات العرب من الأسر إلى الساحات العامّة في دمشق وبيروت وعلّقوهم على أرجوحة الشرف، وشهود الزور من حولهم ينظرون إليهم ببلاهة.
وتجرأ من جاء بعدهم من الحكام على أهل الرأي والعلم فأعدموا الشيخ عبد القادر عودة مؤلّف (التشريع الجنائي في الإسلام) والشيخ محمد فرغلي الذي عرفته ساحات فلسطين مناضلاً، وشهدت له ضفاف القناة مجاهداً، وعلّقوا على حبل المشنقة مفسّر كتاب ربنا الشهيد سيّد قطب صاحب (في ظلال القرآن) ومعهم رجال أبرار، والأمّة في أشدّ الحاجة إلى علمهم وأصالة منهجهم.
وسكن ظلمات السجون العربيّة رجال كرام منهم: الشيخ يوسف القرضاوي، والداعية أحمد العسّال، والمستشار حسن الهضيبي، والأديب الروائي نجيب الكيلاني، والشيخ سعيد حوّى والأستاذ علي صدر الدين البيانوني، والأديب الإنسان عبد الله الطنطاوي، ومعهم الآلاف من نجوم الدين والدعوة والقانون والأدب.
واشترك المثقّفون الإسلاميّون واليساريّون لأوّل مرّة في جبهة واحدة على ما بينهما من تناقض، ضدّ الأنظمة الشموليّة والديكتاتوريّة، في معركة كانت الكلمة فيها هي السلاح الأمضى، وكان النثر والشعر عنوان انتصارهم، لأنّهم تفوّقوا في لغة التعبير عن مأساة الإنسان المقهور في عهد أنظمة القمع، واستطاعوا استخراج مفردات التعبير عن خلجات النفوس المتعبة من خزّونة القاموس العربي الذي لا تنفذ مفرداته، ربّما لأن قضيّة الحريّة في عالمنا العربي متفاقمة منذ حكم العبيد والخصيان.
ويشترك في هذه الظاهرة الرجال والنساء، ففي زمن الكوته النسائيّة ظهر أدب سجون نسائي جريء، حيث يتساوى الرجال والنساء في القهر، وتهدر كرامة المرأة العربيّة الماجدة وتعرّى، وتلد في السجن وتقطع حبلها السري بأسنانها كالقطّة، أو بمساعدة زميلاتها.
فدوّنت الحاجّة زينب الغزالي ذكرياتها المروّعة ووصفت النخب الحاكمة التي تتلذّذ على مشهد تعذيبها في (أيّام من حياتي)، وكذلك السيّدة هبة الدباغ في كتابها: (خمس دقائق فحسب: تسع سنوات في سجون سوريا)، وكتبت حسيبة عبد الرحمن رواية (الشرنقة)، وروت عائشة عودة في كتابها (أحلام الحريّة) معاناتها في سجون الاحتلال الصهيوني البغيض، حيث يرضع الأطفال لبن الأمهات في ظلمات الزنازين وسراديب القتلة.
ومن نكد الدنيا علينا أنّ تتولّى المجنّدات في العراق المحتل ممارسة التعذيب على الرجال في سجون الاحتلال وهذه فضيحة الاحتلال ماثلة أمامنا في سجن أبي غريب وأن يتفوقن على السجّانين الرجال في الساديّة وممارسة العنف بأبشع أشكاله.
وليس من الضروري أن يكون الكاتب قد دخل السجن ليكتب يوميّاته عن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان بين جدران السجن، لأنّ للأديب حاسّة عجيبة على تسجيل الروايات الشفهيّة التي يعجز أصحابها عن تدوينها، فقد كتب مالك الداغستاني رواية (دوّار الحريّة) عام 2002 حوادثها وأبطالها مفترضين، يرويها عن سجناء ذاقوا طعم العصا والسياط، وكذلك دوّن لؤي حسين في كتابه (الفقد) 2006 هذه المشاهد والمعاني، وليس غريباً أن يلجأ الكاتب إلى استخدام الأسماء المستعارة خشية أن يتعرّض هو وأبطال رواياته القابعين وراء القضبان للقتل.
مخزون ثقافي عميق، وتجارب إنسانيّة راقية الأداء، وأدب سياسي جريء ليس له علاقة بشعر الحطيئة الذي يستحق السجن بجدارة، تتعاطف فيه مع أبطال القصّة والرواية التي تقرؤها، وتنفعل بقراءة النظم الجاد، وتتصوّر الشخصيّات الغريبة الأطوار تتحرّك خلف الجدران العالية، وتربط بين ما يجري من حوار بينها، وبين ما يجري خارج السجن، وتعيش معها مأساتها، وتسمع من بعيد صدى المنلوج الداخلي للقلوب الواجفة خلف القضبان.
هكذا تتعزّز الروح الوطنيّة عند قارئ النصّ، وتسري روح جديدة في عروق أجيال دجّنتها الأنظمة، وجفّفت دماءها، ودرّبتها على الانحناء والتقيّة.
فإذا ارتوى القارئ النهم من نظم محمود سامي البارودي في (السرنديبيات) في منفاه بسيلان، ونظم محمد بهجة الأثري في (وراء حسك الحديد) في سجن الفاو زمن الاحتلال البريطاني للعراق، ونهل من معين ذكريات الشيخ أحمد الشرباصي في (مذكرات واعظ أسير) وما خطّه قلم محمود عبّاس العقاد في (عالم السدود والقيود) والمستشار علي جريشة في (في الزنزانة) شعر بالألم العبقري يجتاح عواطف هؤلاء، وأشفق على حال سجانيهم ومعذبيهم.
ولا يملك القارئ سوى الدموع والبكاء، وهو يتساءل بين مصدّق ومكذّب عن حقيقة ما يجري في عالم السجون، وقد اتضحت أمامه صورة البؤس التي يعيشها سجناء الرأي في هذا العالم العربي المتخلف سياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً، من خلال رواية: صنع الله إبراهيم (تلك الرائحة) حيث وضعنا الكاتب أمام سجين أطلق سراحه حديثاً زمن الفترة الناصريّة، ونحى في روايته منحى جديداً مختلفاً عن كلّ ما كتب في هذا الباب، ونشعر بانتماء السجين للوطن وصدق مشاعره في رواية (خطوات في الليل) التي كتبها المرحوم محمد الحسناوي بعد خروجه من السجن إلى المنفى، وما كتبه محمد علي شاهين في مجموعتيه القصصيّتين (عبيد الله والهر على ذمّة التحقيق) و(شهود الليلة القمريّة) في المنفى الاختياري.
وتتوالى الإصدارات فيكتب الحسناوي مجموعته القصصيّة (بين السجن والقلعة) وينظم ديوانه (في غيابة السجن)، وينظم يحي الحاج يحي ديوانه (تراتيل على أسوار تدمر) ويكتب سليم عبد القادر (ما لاترونه) و(نقطة انتهى التحقيق) ويتجرأ محمد سليم حمّاد، وقد تحرّر من القيد على البوح بعواطفه وهو شاب أردني سجن في سوريا على نشر كتابه (تدمر... شاهد مشهود) عام 1998، ويستعدّ المهندس محمد عادل فارس لنشر صفحات من عالم القهر على الملأ، ويكتب حسين الشهرستاني مذكراته عن التعذيب (الهروب نحو الحريّة) ويدوّن سعد سرور كامل خواطره في (خواطر مسجون) ويروي محمد عيد العريمي تجربته الواقعيّة في كتابه (حزّ القيد).
أمّا المحاكمات سيّئة السمعة في عالمنا العربي فتحتاج إلى إعادة تمثيل على خشبة المسرح من جديد، لتشحن ذاكرة الأجيال بما جرى في نهاية القرن الماضي من انتهاكات خطيرة لأبسط قواعد المحاكمات، قبل أن ينسى الناس شخصيّات هيئة محكمة دنشواي، ومحكمة المهداوي، ومحكمة جمال سالم، ومحكمة الدجوي، ومحكمة فايز النوري، ويعاد الاعتبار لضحايا تلك المسرحيّات البائسة.
روايات ومسلسلات وبرامج تندرج تحت مسمّى أدب السجون تنطبق على قصيدة الحطيئة، لكنّ الكتّاب والشعراء العاكفون على هذه الظاهرة الإنسانيّة لا ينسحب عليهم هذا المسمّى لأنّهم أدباء حريّة أو أدباء أسرى، لا أدباء سجون، ليتهم سموه أدب الحريّة ليكتمل المعنى.
* أديب سوري يعيش في المنفى