الخلافة الإسلامية ..
الخلافة الإسلامية ..
والخلافة الأوربية
أ.د. حلمي محمد القاعود
يترك كتّاب لاظوغلى واليسار المتأمرك ومثقفو الحظيرة ، قضايا الأمة المهمة ، ويُسوّدون صفحات طوالا عن قضايا لا تعنى الناس فى زمننا ، ولا يطرحها الواقع ، ولا تفرض نفسها على متطلبات الحياة اليومية لجموع الشعب المقهور !
يطرحون قضية الخلافة والدولة الدينية وفتاوى الفضائيات التى لا تعنى أحداً ، ولا تُمثل معضلة حيويّة تقف فى طريق تقدم الأمة .. ويبتعدون فى الوقت نفسه عن قضية تمزيق الأوطان على أسس عرقية وطائفية ومذهبية وفئوية وطبقية ، ولا يُشيرون بكلمة إلى الدولة البوليسية الفاشية التى تضع فى حسبانها اعتقال الشرفاء والأطهار ، وتترك الفاسدين المفسدين والقتلة اللصوص ، وتُودّع بعضهم من صالة كبار الزوار . ولا يتكلمون عن فتاوى علماء السلطة وفقهاء الشرطة الذين يُحللون الربا ويُكفّرون من يُقاطع الاستفتاءات المزوّرة والانتخابات الصورية ، ويُدافعون عن الطغاة بحجة الطاعة لولى الأمر حتى لو داس على الإسلام واستأصله من مناهج التعليم ووسائل الإعلام ووسائط الثقافة ، وجعل دخول المساجد ببطاقات ممغنطة ، ومنع المذيعات من ارتداء الحجاب !
والمفارقة أن هؤلاء المنافقين الأفاقين الذين تزايدت أرصدتهم المالية الحرام من خلال أكاذيبهم بالقول والكتابة فى مؤسسات الأنظمة البوليسية الفاشية ، لا ينظرون حولهم ، ولا يعتبرون بالتاريخ ولا الجغرافيا !
خذ قضية الخلافة مثلاً . إنهم لا يكفّون عن إدانتها ، بل إدانة بعض الخلفاء الراشدين الصالحين ! ويرون أن الزمان لم يعد صالحاً لشىء اسمه " الخلافة " ، ويتخذون منها مرتكزاً للهجوم على الإسلام وتشريعاته وقيمه ومفاهيمه ، وما أكثر ما يُردّد هؤلاء الكذبة ، أن التاريخ الإسلامى فى ظل الخلافة كان قتلاً ودماراً وحروباً وتخريباً .. ولا يرون إلا الحوادث الفاجعة ، والبقع السوداء ، ونسو أن الخلفاء بشر ، يُصيبون ويخطئون ، وكانت الأمة تملك عافية التصويب والتصحيح من خلال علماء الإسلام الذين تصدّوا لانحرافات من يُخطئ وأخطاء من ينحرف .. كانت الأمة فى ذاتها تسير وفق قيم عامة ، وتستهدى بما يُعرف بعصر الخلفاء الراشدين ، أى الخلفاء النموذج الأرقى الذى يقتدى به الغير ، وكانت الدولة فى ظل الخلافة أيام قوتها ، وقبل أن تنهار عوامل المناعة بفعل البعد عن الإسلام والقرآن الكريم والمنهج الرّبانى ، تتصدى لهمجية الوحوش الصليبية والتترية ، وكانت كرامة المواطن فى دولة الخلافة القوية – أيا كان دينه – مصونة ومحفوظة ، فى أى مكان فوق الأرض ، كان المسلمون لا يخشون الخلفاء الطغاة وأشباههم ، فقد كانت تربيتهم الإسلامية تُقاوم وتستعصى على الضلال والإضلال ، وكانت قاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجباً ينهض به كل قادر عليه بدرجاته الثلاث .. وظلت الحال كذلك ، حتى فى عهد السلطان سليم العثمانى الذى قتل بعض أخوته ، فقد تصدى له علماء الدين وأوقفوا طغيانه ( على فكرة : هذا السلطان لم يدخل مصر إلا بعد أن استدعاه علماؤها ووجهاؤها ليتخلصوا من محنة المماليك ! ) .
الخلافة نظام يحفظ المجتمع الإسلامى ، وارتضاه المسلمون بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأجمع عليه العلماء لإقامة العدل والأمن وتسيير شئون الناس ، وسواء كان اسمه الخلافة أو الولاية أو السلطنة أو المملكة أو الجمهورية ، ففيه مسئول أو مسئولون عن بقية الخلق أو المواطنين وإدارة شئون حياتهم ومعاشهم .. وإذا كان الاستعماريون الصليبيون المتوحشون قد نجحوا فى إنهاء الرابطة التى تربط المسلمين ، برمز يُسمى " الخليفة " – ولو كان ضعيفا – عن طريق إشعال نار القوميات والعصبيات بين الفرس والعرب والترك والأفغان والهنود وغيرهم ، ثم نجحوا فى تفتيت هذه القوميات والعصبيات إلى طوائف ومذاهب وأعراق ودويلات وكانتونات .. وجعلوا المسلمين " قصعة الأمم " فليس هذا ذنب الإسلام الذى يأمرهم أن يعتصموا بحبل الله ولا يتفرقوا ، ولا يضيره أن يقوم بعض المغامرين والطامعين فى السلطة والجاه إلى تفتيت المسلمين بذريعة أو أخرى ..
ويبقى ضمير الأمة يحمل شعوراً بالتوحد ، والإحساس والتعاطف مع أخيه المسلم فى كل مكان ولو كان على سطح القمر ! ومع أننا كنا نتعلم ونعلّم فى المدارس قبل نصف قرن أو يزيد ، أن الاتحاد قوة ، وأن التفرق ضعف ، فإن المارينز العرب يصرون على أن الاتحاد ضعف والتفرق قوة !
لقد قامت الجامعة العربية قبل الاتحاد الأوربى بعشرين عاماً على الأقل ، وربما استفاد الأوربيون من فكرة الجامعة العربية ، فعملوا من أجل تحويل الفكرة إلى حقيقة واقعة على الأرض ، وظل العرب يراوحون مكانهم ، وظلت الجامعة مجرد منتدى موسمى لتبادل العناق والقبلات وشرب القهوة وعقد المؤتمرات الصحفية التى تسفر فى النهاية عن كلام فى كلام ..
الاتحاد الأوروبى ، لأن اصحابه يملكون الحرية والهدف الواضح المحدد ، فقد تحركوا خطوة خطوة فى شتى المجالات الثقافية والزراعية والصناعية والتجارية والإدارية والاقتصادية والسياسية ، حتى صار لهم برلمان أوروبى موحد حقيقى ، وله رئيس أوربى حقيقى ، وله حكومة حقيقية ، ولم ينزعج أحد أن يكون مفوض الاتحاد الأوروبى من إيطاليا أو النرويج أو إسبانيا ، ولم يسخر أحد من رئيس البرلمان الأوروبى أو جنسيته ، كما فعل المارينز العرب ، حينما سخروا ممن قال أنه لا مانع لديه أن يحكم مصر ماليزى !
لقد قلب المنافقون العبارة ، ودخلوا فى متاهة تفضيل المسلم على غير المسلم ، والوطنية وعدم الوطنية ، ونسوا أن الخليفة الأوروبى لن يلقى ممانعة ولو كان من سلوفينيا أو إمارة موناكو ، لأن القوم هناك أقاموا خلافة حقيقية بمعنى سياسة الملك أو تدبير شئون الناس ، أو تدبير المنزل ، كما يُسميها ابن سينا فى كتابه الشفاء . وصار الاقتصاد الأوروبى قوياً جداً ، وصارت عملته موّحدة ، كما كانت العملة موحدة فى عهد الخلافة الإسلامية ، وللاتحاد الأوروبى سياسة موحدة ، ودستور موحد سيتم إقراره ويُشار فيه إلى " المسيحية " مرجعية ثقافية أوروبية ، كما صرحت بذلك السيدة " أنجيلا ميركل " مستشار ألمانيا ، وصرح آخرون فى فرنسا والنمسا وإيطاليا والفاتيكان !
الخلافة الأوروبية أمر واقع ، وغير مخجل للأوربيين . أما الخلافة الإسلامية – مع أنها كانت أقرب إلى النظام الفيدرالى – فهى تخجل " المارينز العرب ، وتجعلهم ينفخون فى قضيتها وهم يعلمون أن معظم الفراعنة الذين يحكمون العالم الإسلامى ، لا يُفكرون فى الخلافة ولا إقامتها ، بل إن منظمة المؤتمر الإسلامى التى تعدّ رابطاً شكلياً من روابط الشعوب أو الحكومات الإسلامية ، صارت لا تعنى أحداً غير أمينها العام .
فى قصيدته العصماء " الخلافة " التى نشرت السياسة فى 7 يونيو 1926م ، حلّل أمير الشعراء " أحمد شوقى " أحوال المسلمين وضعفهم وهوانهم لدرجة أن قيمتهم صارت أرخص قيمة فى العالم ، وافتتحها ببيتين يُلخصان كل شئ :
بعثوا الخلافة سيرة فى النادى أين المبايع بالإمام يُنادى ؟
من بات يلتمس الخلافة فى الكرى لم يلق غير خلافة الصيادِ
ومن أبياتها المعبرة عن الهوان :
اليوم لا سمر الرماح بعدة تُغنى ، ولا بيض الظبا بعتادِ