تعريف العصيان المدني
وأثره في إنقاذ المجتمعات
المهندس سعد الله جبري
أولاً: ما هو العصيان المدني؟
العصيان المدني، هو ببساطة، أن تعصي القانون وتطيعه في آن واحد، فهو أرقى صور التمرد والمقاومة والرفض والاحتجاج... ولكن بالشكل السلمي المتحضر. وهو يتمثل بصور متعددة:
• مثل أن يخرج المعارضون بشكل جماعي، وفي أوقات محددة، لإجبار السلطات الحاكمة على الانصياع لمطالب المحتجين الهادئين، وهذا هو التظاهر ليوم أو التظاهر المستمر حتى تحقيق غرض العصيان.
• ومثل رفض الموظفين للذهاب إلى دوائر الدولة، وأفراد الشعب إلى المدارس والجامعات والمصانع والمعاهد، مع إغلاق كل الأسواق والمحلات التجارية. (هذا ما نفذه الشعب السوري في عصيان 1936).
• ومثل أن يخرج "العاصون" رجالا ونساءا ولكن بهدوء، لا شعارات، لا صراخ، ولا نداءات معادية، ولكن عصيان بهدوء. للجلوس في الشوارع الكبرى، وعلى أرصفتها، وفي وسطها، ولكن بصمت.
ثانيا: لماذا تلجأ بعض المجتمعات إلى العصيان المدني؟
ذلك عندما يشعر الشعب كلّه أو مجموعات منه، أن أمرا يتطلب تدخله بعد فشل السلطة الحكومية ومجلس الشعب في تلبية احتياجات الشعب، ومثاله فشل الحكومة في مهامها وتسببها بمعاناة الشعب لدرجة رفض الشعب لها، لأسباب كالغلاء، وانخفاض الرواتب والأجور وتفشّي البطالة. ووصول الشعب لليأس من اتخاذ السلطات المختصة ما يلزم لمعالجة مواضيع معاناة وشكوى الشعب، فهنا لا يجد الشعب مناصا من التدخل اللاحق لفشل الحوار وتبادل الرأي، ويحدث هذا خاصة عندما تلجأ الحكومة والأجهزة الأمنية لممارسة حالات من الحجب والرقابة المؤدية لمنع الحوار أو تحديده ومسخه، وبما يمنع من إيصال مطالب الشعب إلى السلطات العليا. أو نتيجة عدم استجابة السلطات لمطالب الشعب واستهتارها بها. وهذه تحصل خاصة عند تبعية الحكومة لذوي مصالح فساد خاصة، أو تسلط بعض مراكز القوى كالأمن والعسكر على السلطة.
ثالثا: هل العصيان المدني قانوني؟
إن هناك أمران متعاكسان تحكمان علاقة كل شعب مع حكومته، فطالما تقوم الحكومة بواجباتها بنزاهة وأمانة وتعمل لتحقيق مصلحة الوطن والمواطنين وفقاً للدستور والقانون، وطالما هناك مجلس شعب منفصل فعليا عن السلطة التنفيذية وفقا للدستور، قائما بواجباته الدستورية في التواصل مع الشعب، وقائم على مراقبة الحكومة ومساءلتها وتقويمها أو سحب الثقة منها عند الضرورة، فهنا تكون السلطة والحكومة والشعب في صف واحد، وتنتفي الحاجة للعصيان المدني من حيث المبدأ.
• أما إذا كان سلوك الحكومة وجهدها وتوجهاتها لغير قناعات وأهداف الشعب، ولغير مصلحته، وكانت منصرفة لخدمة مصالح أفرادها ومصالح أعداء الشعب من رموز الفساد والتسلط دون مصالح الشعب، وخلافا للدستور.
• وكان مجلس الشعب مجلساً شكليا كرتونياً عاجزا عن القيام بواجباته الدستورية، لا دور له ولا تأثير ولا يملك إلآّ البصم على ما تقرره الحكومة أو بعض الجهات النافذة.
• وعندما تفشل السلطة في الإستجابة لجهود الكتّاب والمثقفين وأولي الرأي في رسائلهم ودراساتهم المُخلصة، إلى الحكومة والسلطات الأعلى منها بضرورة المعالجة، فلا يُستجاب لهم بتأثير رموز الفساد والتسلط.
فعندها تعلم الشعوب أن الحكومة والسلطة تُخالف الدستور والقوانين التي تفرض عليها العمل لخدمة الشعب لا لقهره، وأنها تعمل منصرفة ومتفرغة لخدمة مصالح الفاسدين فحسب دون الشعب، وأن السلطة تُمارس لعبة الزمن في رفع الشعارات وإطلاق الوعود والتأجيل والتسويف الفارغ. وعندها تجد الشعوب أن مصلحتها وحقها الدستوري والقانوني هو أهمُّ وأكثر ضرورة حيوية وأقدس من مجرّد طاعة تعليمات رجال الأمن الحكومي، فتتجه عندئذ إلى العصيان المدني لإرغام الحكومة على الإستقالة، أو إلى تغيير القرارات المُخالفة لمصلحة الشعب. ومن هذه الزاوية فإن الإعتصام يكون قانونيا بنسبة 100% لسبب أن الضرورات تبيح المحظورات من جهة، وأن الشعب الذي هو صاحب السلطة الحقيقية الأولى في البلاد، قد تعرّض لخيانة السلطة في تمثيله لتحقيق مصالحه فاستعملتها لخيانته وخيانة مصالحه من جهة ثانية، وأن الحكومة بالتالي هي التي سبقت بمخالفة الدستور بعملها لغير مصلحة أكثرية الشعب من جهة ثالثة، وبالتالي تحتّم على الشعب بالضرورة والمصلحة الحيوية، اللجوء للعمل على إعادة الأمور إلى نصابها الدستوري والقانوني، في إرغام الحكومة لخدمة الشعب جميعا وليس لخدمة الفساد والفاسدين. أو للعمل لاستبدال الحكومة بمن هم أصلح منها.
والعصيان المدني في هذه الحالة هو خطوة أولى في طريق الإصلاح، فإن استجابت السلطة لحق الشعب وواجباتها الدستورية، فبِها ونَعِمت. أما إذا فشلت السلطة في التعامل مع حركة الشعب السلمية، وذلك بممارسة أعمال القهر والعنف والإعتقال ضد أفراد الشعب، والتعنت في رفض مطالب الشعب، والإستمرار في ادعاءات وذرائع ممجوجة ومتكررة منذ عقود طويلة في كون البلاد مُعرضة للأخطار الخارجية والتآمرية، وهو بذاته ماكان يجب أن يكون دافعا وواجبا ومسؤولية على الحكومة والسلطة قبل الشعب لمنع الإنزلاق والسماح بتسلط الفساد والفشل في الإدارة الحكومية. فسيكون العصيان المدني السلمي عندئذٍ مُرشّحا للتطور إلى وسائل أخرى عديدة تقوم الشعوب عادةً بممارستها لإزاحة السلطة الباغية الفاسدة، واستبدالها بسلطة تقوم على تحقيق مصالحها وأهدافها.
رابعا: هل هناك تجارب تاريخية للعصيان المدني؟
هي كثيرة جدا ودائما ناجحة لأنها تعتمد السلمية في المطالبة الحقّة:
1. من التاريخ السوري، شكّلَ الإضراب الستيني في عام 1936 والذي امتد ستين يوما متواصلة نوعا متقدما وحضاريا من العصيان المدني، وكان من مفاخر مقاومة الإحتلال. وقد ركعت فرنسا المحتلة الأجنبية بنتيجتها، واستجابت لمطالب العصيان الشعبي الشامل المذكور، والذي تميّز بحالة نادرة من التعاون الأخلاقي والوطني بين المواطنين من حيث التزامهم الجماعي وتأمين احتياجاتهم الغذائية والضرورية والطبية خلال فترة العصيان الطويلة، بشكل مثالي يدعو للفخر.
2. ومن التاريخ العالمي: كان لدعوة غاندي للعصيان المدني واستجابة الشعب له الأثر الأكبر في انتهاء الإحتلال البريطاني واستقلال الهند.
3. وفي أمريكا: نجحت نجاحا كاملاً دعوة المواطن الأمريكي الأسود مارتن لوثر كينغ، للقيام بالإعتصام المدني السلمي في سبيل الحقوق المدنية للمساواة بين المواطنين البيض والسود، ونرى اليوم آثاره بوصول بعض المواطنين السود لمناصب عُليا، بل وإلى جرأة أوباما للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية ونجاحه شعبيا، رغم أنه من الأقلية السوداء إذا أخذنا نسب التصنيف العرقي، وهو ما أنهى درجة حدّية من الظلم والتفرقة في الحقوق.
ولا زال هناك الكثير من الأمثلة التي يضيق المجال بذكرها ومنها دولة جنوبي أفريقيا التي نالت سلطتها الشعبية الشرعية بواسطة العصيان المدني السلمي. وعديد آخر من دول أوربا، وحتى قيام الشعب السويدي باللجوء إلى العصيان المدني لفرض أمور نراها نحن العرب حالياً مترفة، وذلك في مطلب حضاري يُلزم الحكومة بمنع تصدير السلاح، كونه أداة للقتل. وقد نجح الشعب السويدي في ذلك وصدرت قوانين مُلزمة للحكومة تُحرّم تصدير السلاح. وهناك أمثلة عربية متعددة مُعاصرة دون ذلك، كانت تنحصر مطاليبها في منع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والأولية، وقد نجحت جميعا في إرغام الحكومات للوقوف إلى جانب الشعب ومصالحه.
خامساً: هل للعصيان المدني دور في البلاد العربية؟
بالتأكيد، وأظنه بقي الملجأ قبل الأخير أمام الشعوب العربية في تجاوز التسلط الحكومي والأمني، والإنفراد بالسلطة، أمراً معكوسا لكينونة الشعب هو صاحب السلطة الأولى في جميع دول العالم، وأن الحكومة ما هي إلاّ خادمة للشعب لتنفيذ وتحقيق مصالحه. وإذا نظرنا لأغلب استعمال الحكومات العربية للسلطة في بلاد كل منها، نجدها مُتجاوزة لدساتير بلادها، وتعمل أغلب قياداتها وحكوماتها في غير مصلحة الشعب، وطنياً وقوميا واقتصاديا، وكثير منها جعل نفسه وسلطاته في خدمة أعداء وطنه من الدول الأجنبية، والأمثلة على ذلك كثير في مصر والسعودية والأردن والكويت والعراق .... وهناك لا زال السياسيون الصالحون والكتاب والمثقفين يُحاولون التأثير على الحكومات دون جدوى، ذلك أن السلطة المتسلطة غير المنبثقة عن الشعب، يأخذها العمى والغرور وانعدام التبصر بنتائج انفرادها في السلطة، وتعتبر الشعب مجرّد رعاع ورعيّه عليهم الطاعة مهما قامت السلطة من تصرفات في مصلحته أو في غير مصلحته. لمذا قلت الملجأ قبل الأخير، ذلك لأن العصيان المدني ينقلب ثورة شاملة تستعمل مختلف الأدوات، في حال تصدي الحكومة للعصيان المدني السلمي بالسلاح، أو فشله في تحقيق أغراضه سلميا.
سادساً: هل مقالتي هذه دعوة لتبني ذات الأسلوب في سورية؟
لا بالطبع، ولكنها تذكير لأُولي الأمر أنه يبقى دائما بيد الشعب أوراق إن لم يكن قد استعملها حفاظا على سلامة الوطن وأمنه وسمعته، فإنه قادرٌ عليها عند استمرار إهمال الشعب والإستهزاء بمطالبه، وتجاوزَ في ذلك خطوطا شعبية حمراء، ذلك أنَّ لكل شيءٍ حدٌّ بالضرورة الإنسانية، وعلى السلطات العليا إدراك ذلك، والأخذ بعين الإعتبار أن مزيداً من الإهمال وعدم المبالاة وتجاهل حقوق الشعب، والسماح باستمرار قيام الفاسدين المُتسلطين بنهب ثروات البلاد بعكس مصلحة الشعب والوطن، وعدم اعتقالهم وتنفيذ القوانين بحقّهم، وإبقاء السلطة بيد حكومة صبغت نتائج عملها بأنها أفشل وأسوأ وأعجز وأغبى حكومة عرفتها سورية فضلا عن ارتكابها التواطىء والعمالة لمراكز قوى التسلط والفساد. مضافا إلى ذلك استمرار المشاركة التسلطية في الحكم من بعض الجهات الأمنية التي يفتقر أكثرها لبعد النظر والمنظار الوطني البحت والحس السياسي السليم والإنضباط بالقانون. واستمرار سيطرة رموز الفساد والتسلط على الحكم. وغياب سلطة القانون. لا بدَّ أن يوصل هذا كلّه، الشعب في يوم ما إلى القيام بما لا يُحِبُ. وهذه من الحقائق التاريخية الثابتة عند جميع الشعوب، بل هي من الحقائق الفطرية حتى عند الحيوانات، فنجد أنه حتى الحمار يضطر لأن يرفس صاحبه، والكلب قد يعض أو ينهش صاحبه ...إلى آخره، إذا تجرأ وتمادى في مخالفة مصالحه الطبيعية المشروعة.
ونعود إلى إلإنسان المواطن فأذكر بقول السيد الرئيس بشّار الأسد إلى مندوبة ABC الأمريكية في العام الماضي، حين قال لها: إذا وصلت الشعوب إلى اليأس، فسيكون الإنفجار. ونحن الآن يا سيادة الرئيس على حافة اليأس. (البعض يقول أنه يعيشه منذ سنوات).
اللهم ثبتنا على ما خلقتنا فيه من الإنسانية وأخلاقياتها، ولا تضطرنا لغيرها، واهدِ قيادتنا لما يريده الشعب.
بكل احترام