في ظاهرة العولمة
بقلم: صبحي درويش
ظهر مصطلح العولمة في أميركا في أواسط الثمانينات، وكان يعني تحرير التبادلات التجارية من كل القيود الجمركية و تحويل العالم إلى سوق واحدة مفتوحة للمنافسة الدولية بين جميع بضائع العالم. وبالتالي فالمعني الأولي للعولمة اقتصادي وتكنولوجي ، ففي التسعينات تسارعت حركة العولمة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتحول الصين إلى اقتصاد السوق الرأسمالي على الرغم من بقائها شيوعية على المستوى السياسي. وبانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية توحدت السوق العالمية فعلا،ولا سيما بعد أن انضمت روسيا وكل دول أوروبا الشرقية والوسطى إلى النموذج الغربي. ثم تحولت العولمة من اقتصادية إلى ثقافية بعد أن أصبحت الأفلام والمسلسلات الأميركية تغزو السوق العالمية وتشاهد على كل فضائيات الكرة الأرضية من العالم العربي، إلى إفريقيا السوداء، إلى آسيا والهند والصين، إلى أوروبا ذاتها، إلى أميركا اللاتينية. وكما سيطرت أميركا على اقتصاد العالم عن طريق الكوكا كولا، والماكدونالدز، والشركات المتعددة الجنسيات، فإنها سيطرت على العالم ثقافيا عن طريق مسلسلات هوليوود وأفلامها.ولهذا السبب يرى بعض المفكرين بأن عولمة العالم تعني بكل بساطة: أمركة العالم! ثم يقولون لنا بأن العولمة ليست ظاهرة حديثة كليا، وإنما كانت لها سوابق في الماضي. ففي القرن التاسع عشر كانت انكليزية، وفرنسية، وألمانية، أي أوروبية، ولكنها أصبحت الآن أميركية. ولذلك فإن العصر الذهبي للعولمة الأولى يمتد حتى منتصف القرن التاسع عشر وحتى بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914. ففي ذلك الوقت أيضا حصلت ثورة تكنولوجية قربت المسافات وقلصت الآفاق. فقد ظهرت السكك الحديدية لأول مرة والقطارات، والتليفون، والسفن التجارية، والتلغراف، والسيارات، وحتى الصحافة.. وحاولت أوروبا أن تهيمن على العالم وتوحده وتفرض عليه نمطها الحضاري عن طريق الاستعمار. ولكن العولمة أصيبت بضربة كبيرة بعد الحربين العالميتين اللتين تلتهما الحرب الباردة (أي من 1914 ـ 1945 ـ إلى 1945 ـ 1990 تاريخ سقوط الشيوعية).
فالعولمة حركة كونية مثل تساقط الورق في الخريف واخضرار الأرض في الربيع والبرد في الشتاء والحر في الصيف. وهي أيضا اختصار للزمن والمسافات بفضل تكنولوجيا المعلوماتية ووسائل الاتصال.
واليوم أصبح كل سكان العالم يشاهدون مباريات كأس العالم مثلا في نفس اللحظة ويتشاركون مع بعضهم البعض في نفس الانفعالات ويتحلقون حول شاشات التلفزيون وكأنهم سكان قرية واحدة، يتشاطرون نفس المتع والأفراح. أما في السابق فكانوا معزولين عن بعضهم البعض ويتخيلون أنهم يعيشون في كواكب مختلفة، بل وما كانوا يعرفون بوجود بعضهم البعض أصلا.. وقد لعبت الفضائيات التلفزيونية دورا كبيرا في التقريب بين سكان العالم أيضا. ولكن هناك تعريفات أخرى للعولمة غير وسائل المعلوماتية ذات التأثير السحري والقادرة على ربط أقصى الأرض بأقصاها في ثانية واحد
وكما يتكامل البشر في المجتمع من خلال تنوع الاختصاصات. فكذلك تتكامل المجتمعات فتنفتح على بعضها البعض. فالعولمة من هذا الطرف هي إضافة نوعية للجهد البشري
و اليوم في ظل العولمة نرى العالم يعيش في تناقض مروع. ففي الوقت الذي تستهلك تجربة صدمة المادة بمضاد المادة خلال ثوان في المسرعات النووية من الكهرباء 9 مليارات إلكترون فولت وهو يعادل ما تحتاجه مدينة شيكاغو مدة سنة، فإن 40% من الجنس البشري لا يستعملون الكهرباء. ولا يستخدم 65 % منهم التلفون. ويعيش 600 مليون إنسان في العراء وهو سقيم. ولا يجد مليار من البشر الماء الصالح للشرب. ويموت عشرة ملايين إنسان سنوياً بفقد الرعاية الصحية. وفي البلاد التي يجبر فيها 250 مليون طفل على العمل هناك 850 مليون إنسان قوي لا يجد العمل. وفي أوربا وشمال أمريكا يوجد 88% ممن يستخدمون الانترنيت في العالم، في الوقت الذي لم يسمع معظم الجنس البشري عن ثورة المعلومات شيئا ويحلون مشاكلهم بالفؤوس في بعض البلاد. ويوجد ثلثا راديوات وتلفزيونات العالم عند سكان العالم المتقدم ويأكلون 86% من خيرات العالم وهم يشكلون 15% من الأنام. وفي الوقت الذي خسفت الأرض بـ 98 دولة معظمها في العالم الإسلامي والعربي بحيث تراجع الدخل أكثر مما كان قبل عشر سنين في صورة مقلوبة، فقد زادت بين عامي 1970 والآن رفاهية دول العالم الصناعي عن الدول المنكوبة من 15 ضعفاً إلى 170 ضعفاً. ويملك 1% من سكان الأرض ما يملكه 57% من فقراء الأرض.
إن العالم اليوم تحول إلى كازينو رأسمالي وصالة قمار عالمية يتداول فيها أكثر من مليون مليون دولار يوميا في الأسواق المالية ولا يوجد من قيمتها الحقيقية أكثر من 2.5% وتقفز البورصات حسب المزاج أكثر من مؤشرات الاقتصاد الحقيقية. ويتحول
الإنسان إلى بدوي جديد في اصطياد فرص العمل وتتحول علاقات العائلة والجيران والصداقة والوطن وكل ما هو
ثابت ودائم إلى عناصر إعاقة أمام إنسان العولمة الجديد.
ولكن الفرق بين فقير العصور الغابرة وفقير العولمة هو أن الثاني يستطيع أن يرى على شاشات التلفزيون مدى البطر أو الغنى الفاحش الذي تنعم به شعوب الغرب، هذا في حين أن الأول لم يكن ير شيئا، وبالتالي فلم يكن يشعر بالحرمان أو بالإحباط كما يشعر فقراء اليوم. في عصرنا الراهن أصبح الفقر فضيحة لا تحتمل، وإذا كان هناك من عار على الحضارة الحديثة فإنه يكمن هنا بالضبط. العولمة لا تستغل الجائعين في العالم الثالث، وإنما تتجاهلهم، تدير ظهرها لهم. فالبشرية في خطر محدق، واعتبر (جاك أتالييه) في كتابه (آفاق المستقبل) أن الجنس البشري مهدد بخمسة أخطار من التلوث البيئي والتلاعب بالجينات والمخدرات والسلاح النووي ولكن أشدها خطرا فارق الشمال الغني عن الجنوب الفقير. وما تفكر به الشريحة الجديدة في العولمة أنها تخطط لاستيطان المجرة فالكرة الأرضية قد تصدم بمذنب قطره كيلومتر فيختفي الجنس البشري كما اختفت الديناصورات قبل 65 مليون سنة! ويمضي التفكير اليوم إلى بناء سفينة نوح للرحيل إلى شاطئ السلامة في كواكب أخرى تصلح للعيش، سواء في نظامنا الشمسي أو عالم المجرة التي تضم مائة مليار نظام شمسي. وأول البدائل المطروحة هو المريخ ولكن لا بد من تعديل مناخه بجراحة كونية من التسخين ونقل النباتات ليبدأ مناخ لطيف في التشكل يسمح خلال 500 سنة بتوافد البشر للعيش. ومع نهاية الألفية الثالثة يصبح الكوكب جاهزاً للسكن من 100 مليون من البشر.
العولمة هي اتجاه القرآن ونداء الأنبياء، ومصير الإنسانية، ونهاية الرحلة البشرية، وهي حركة الكون. وكل خطاب القرآن كان معنونا للناس أو المؤمنين: يا بني آدم. يا أيها الناس. يا أيها الذين آمنوا. ولم يكن الخطاب قوميا أو عنصريا أو حتى للذكور. وفي القرآن أن الله خلق الإنسان من ذكر وأنثى وجعله شعوباً وقبائل ليتعارفوا..
نحن ندخل زماناً مختلفاً والثقافة العالمية شكلت الإنسان الجديد، وإذا كان بعض الناس يفضلون البقاء على نور القنديل أو اللجوء للعد بأصابع اليدين، فإن العصر الذي نعيش فيه هو الانترنيت والكمبيوتر والنور الكهربي.
ولكن رحلة البشر تشبه مخططات السكر في الدم، أو البورصات في أسواق المال، وحركة
الموج في وجه السفن، ولكنْ هناك قانون نوعي ثابت يمسك برقبة مجموع المخططات، فالسكر
يستقر عند 100 ملغ في ليتر الدم، وحركة الأسهم المالية لها قرار، كما أن موج البحر
يخضع لقوانين فيزيائية. في البيولوجيا يقوم بقاء الأنواع على التنافس،و ما ينفع
الناس يمكث في الأرض والزبد يذهب جفاء. وهذا يعني في دنيا العولمة أن وقت اجتياح
العالم بالفتوحات والسيف انتهى، وان من عنده فكر صالح يكتب لنفسه الديمومة
والانتشار.
هذا التطور لم نفهمه نحن، فلا حرب بعد اليوم، وأن الحرب وضعت أوزارها، وأن الحروب
اليوم هي شريعة المتخلفين . ولكن بيننا وبين فهم هذه الحقيقة سنة ضوئية.
والفيلسوف كانط اصدر في أواخر القرن الثامن عشر، كتاباً بعنوان : مشروع من أجل السلام الدائم بين الأمم .عندما كان يفكر في السلام بين الأمم، كان يفكر في الواقع في كيفية تخليص الأمم الأوروبية من الحروب المذهبية أو القومية الشوفينية التي أنهكتها. كان يفكر في الحروب التي دارت بين الدول البروتستانتية والدول الكاثوليكية ويتمنى لو يستطيع إيجاد حل لها لكي تنعم الشعوب الأوروبية بالسلام والأمان، ثم الرفاهية والازدهار. ولكن كانط لم يكتف بذلك في الواقع. فمن خلال الحالة الأوروبية أو فيما وراءها كان يفكر بحالة العالم ككل. وهنا تكمن عظمته واتساع أفقه. فقد استطاع أن يستبق على القرون القادمة بحدسه الفلسفي البعيد المدى. فقد راح يحلم بتشكيل دولة كونية، تشمل جميع شعوب الأرض! وهذا الحلم الطوباوي الذي كان يبدو لمعاصريه شيئاً جنونياً يكاد يتحقق في عصر العولمة الشمولية الذي ندخله الآن. وبالتالي فالعولمة السياسية أصبحت على الأبواب. إن العولمة الفلسفية على طريقة كانط وهابرماس سوف تفرض نفسها في نهاية المطاف. والقانون الدولي المنبثق عن هذه الفلسفة سوف يعمّم على جميع شعوب الأرض.
إن هابرماس يجدّد الفكرة الكانطية ويوسعها ويجعلها أكثر محسوسية على ضوء التطورات
العالمية الراهنة. وهذا أمر طبيعي، فكل فيلسوف هو ابن عصره، ولكنه ينطلق منها
مبدئياً ويبني عليها. انه يحلم كسلفه الكبير بتحقيق نظام عالمي جديد تسوده العدالة
والمساواة، وكذلك السلام والأمان. وقد يبدو هذا الحلم طوباوياً أكثر من اللزوم إذا
ما نظرنا إلى حالة الصراعات التي تمزق العالم اليوم. ولكن هابرماس لا يكتفي بالحلم،
وإنما يبلور لنا المشروع العملي لتحقيقه، انه يخطط لحكومة دولية تنفيذية وتشريعية
وقضائية تنطبق قوانينها على جميع شعوب الأرض. وهذه الحكومة الكوسموبوليتية أو
الكونية لن تنجح إلا إذا كانت وفية للمبدأ الأساسي الذي طالما ركزت عليه فلسفة كانط
وروسو: مصالحة السياسة مع الأخلاق وتجسيد حكم العدالة على وجه الأرض.
نحن في طل العولمة أمام ثقافة فهم الآخر ويجب توقع قدر من معاناة لا مفر منها من
أجل تشكيل الإنسان العالمي القادم. ولكن كما يدخل الإنسان بلداً مختلفاً بلغة جديدة
فيتهيأ لهذا بدورة لغة، كذلك فنحن مقدمون على مرحلة تحتاج إلى دورة برمجة للتكيف.
كان الإنسان قبل عشرة آلاف سنة يطارد الوحوش والوحوش تطارده .. ولكن ما مصير
الإنسان بعد عشرة آلاف سنة؟