بعد فراق 40 عام ...

فلسطيني يحبو من بغداد إلى غزة عبر الأنفاق

ريما عبد القادر /غزة

[email protected]

مثل الطفل الذي يولد من أحشاء والدته ولد الفلسطيني أبو طارق عبيد "72 عاماً"من النفق الذي قطعه حبواً على ركبتيه لأمتار طويلة امتدت من الأراضي المصرية إلى منطقة رفح جنوب قطاع غزة ، وهو يبكي ويطلق صرخات الولادة قائلاً :" غزة..غزة"، ذراعيه تعانق ابنته ألاء التي تركها طفلة واستقبلها أماً لحفيدته ..هذه اللحظات مسحت أوجاع أكثر من 40 عام من الفراق عن الأهل في غزة قضى الكثير منها أسير في سجون إيران بعد الحرب العراقية الإيرانية حينما تواجد على الأراضي العراقية ولم يعرف عنه أحد هل كان ميت أو حي ..

من غزة إلى العراق

رغم معاناة السفر عبر الأنفاق وخطوط ملامح أبو طارق التي تجاوزت السبعين إلا أنه كان يتمتع  بصحة صاحبتها إرادة قوية استمدها من تجاوز الكثير من المحن التي أحاطت به.

قال بكلمات مزجها بالتعب من رحلة شاقة من العاصمة العراقية بغداد إلى قطاع غزة :"كنت أخشى أن أموت بعيداً عن فلسطين إلا أن إرادة الله عزوجل كانت أكبر من كل شيء".

وبسبب حبوه لمسافات طويلة عبر النفق أدى ذلك إلى تمزق الجلد المحيط بركبتيه وأكواعه الأمر الذي قاطع حديثه بين فترة وأخرى إلا أن لقائه بابنته وزوجته وعائلته الكبيرة جعلته يستمر بالحديث بنظرات يبادلها بالشوق إليهم جميعاً.

وأوضح بأنه حينما استقبله أشقائه وأنجالهم جهل معرفة الكثير منهم خاصة أنه بالأساس لا يعرف أبناء أشقائه إلا أنه كان سعيدا بمعرفتهم وهم يقبلونه ويحيطون به.

وفي منزل شقيقه الأكبر كان البيت مزدحم بالناس الذين تركوا أعمالهم بمجرد أن سمعوا بأن أبو طارق سيصل إلى قطاع غزة سواء كانوا من أقاربه الذين يعرفونه أو حتى الذين سمعوا عنه.

وعاد بالذاكرة بعد أن أخذ نفس عميق  إلى سنوات طويلة قد مضت وبالتحديد في عمر الشباب عام 1958بعد أن هجره الاحتلال الإسرائيلي مع أفراد عائلته من مدينة المجدل إلى قطاع غزة، وحصل على الثانوية العامة ثم قرر السفر للخارج بحثا ًعن فرصة عمل لتكوين نفسه خاصة أنه عاش يتيم وهو في عامه الثالث من العمر، فسافر عبر قوارب تجارية من غزة إلى لبنان ثم إلى سوريا.

وتابع:" حينما كنت في سوريا سمعت أن العراق بحاجة إلى مدرسين فسافرت للعراق وبالتحديد منطقة بعقوبة، وسرعان ما درست الحقوق إضافة إلى الدراسة بالكلية العسكرية وتعلم اللغة الفرنسية في زمن عبد الكريم قاسم".

وأضاف في سرد خطوات مسيرته من غزة الغربة إلى غزة اللقاء من جديد:"عام 1962 عدت إلى قطاع غزة للزواج فتزوجت بنت عمي ثم عدت للعراق برفقة زوجتي التي رزقني الله تعالى منها 6 أبناء ومنذ ذلك الوقت لم أعد إلى غزة".

ذهب وعاد

وبعد استراحة أخذت منه بعض الدقائق لمشقة السفر الطويلة أصر أن يتناول كل من حضر لاستقباله قطع من الحلوى لسلامته، وعودته إلى أحضان غزة.

واستكمل حديثه بعد أن أغمض جفن عيناه وهز رأسه بعض الشيء :"في الثمانينات بدأت الحرب العراقية الإيرانية وتم أسري ولم يعلم أحد عني شيء هل أن ميت أو حي حيث تم أسري 23عام لا أعرف بها عن أفراد عائلتي شيء".

بهذه اللحظات شارك رائد حديث عمه حيث قال:" كنت كثير ما اسمع بأني لي عم في العراق لكن لا أعلم عنه شيء إلا صورة تحمل ملامح شبابه خاصة أنه كان رياضي قد أحرز العديد من البطولات المختلفة وكان له الكثير من الأوسمة التي حصل عليها".

وتابع وهو يبادل عمه الكثير من ابتسامات المحبة والشوق :"علمت أن عمي تم أسره وبعد ذلك لم نعلم عنه شيء فقد سمعنا بأنه قد مات وقال البعض أنه لا زال على قيد الحياة إلا أنه الحمدلله تعالى اليوم يشاركنا جلستنا وإنني سعيد جدا بأن أرى عمي الذي طالما سمعت عنه"، مشيرا إلى أن بنت عمه أبو طارق جاءت إلى غزة وهي صغيرة عام 1996 وبعدها بأعوام طويلة استطاعت أن تلتحق بها زوجة عمي أم طارق.

وكانت ألاء أكثر الجالسين حرصا على أن لا تغيب عيونها عن والدها خاصة أنها أخر مرة رأته فيها وهي طفلة في الخامسة من عمرها فكانت كثير ما تحمل طفلتها وتقول لوالدها :"  هذه حفيدتك يا باه ..هذه حفيدتك ".

وبابتسامة العودة إلى قطاع غزة استكمل أبو طارق كلماته :"تم اطلاق سراحي عام 2003 وكان فارق يوم واحد فقط بعد انتم اطلاق سراحي وحرب أمريكا على العراق".

وأشار إلى أنه ابلغ عائلته في قطاع غزة بأنه على قيد الحياة وإنه بالعراق مما جعل عائلته تدعوه للقدوم إلى غزة خاصة أنه كان يعاني من وعكة صحية في تلك الفترة إلا أنه لم يستطع القدوم إلى غزة في ذلك الوقت".

وذكر أنه بعد سنوات استطاع السفر من العراق وصولا إلى مصر ثم إلى قطاع غزة عبر النفق.

وقال بضحكات ممزوجة بالتعب :"لم يكن أمامي خيار الوصول لغزة إلا عبر النفق كنت أحبو على ركبتي وكان من يدلني على الطريق يقول لي قد وصلنا انظر إلى ذلك النور إنه من غزة وكلما نقطع مسافة يقول لي نفس العبارة إلى أن وصلت إلى قطاع غزة حيث تمخضت نفق غزة في ولادتي من جديد"، متمنياً أن يجمعه الله تعالى بأفراد أسرته حيث لا زال لديه أبناء في دول مختلفة لم يراهم منذ أكثر من 25 عام.

"رحم الله قارئا دعا لنفسه ولي بالمغفرة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"