قصتي مع تراث باكثير (10)

د.محمد أبو بكر حميد

قصتي مع تراث باكثير (10)

علي أحمد باكثير

الدكتور محمد أبو بكر حميد

جمعية أصدقاء باكثير

· خلال إقامتي بالقاهرة كنت قد بدأت أتصل بمحبي باكثير وعشاق أدبه من أصدقائه وأدباء عصره، غير أني أدركت أن وصولي القاهرة كان متأخراً جداً.. فقد رحل معظم رفاق درب باكثير ولم يبق إلا قلة قليلة بعضهم قد نسيه وبعضهم لا يريد أن يتذكره، وقد وجدت أنه لم يبق في صف باكثير إلا أصحاب الوجوه الإسلامية الصريحة، وكان الأستاذ أنور الجندي من أكثر من لقيت من معاصري باكثير حماساً لخدمة تراثه وأدبه.

وبدأت أدرس مع من التقيت بهم فكرة إنشاء جمعية تسمى "جمعية أصدقاء باكثير" وتخصيص شقة لهذا الغرض توضع فيها كتبه ويقام له بها متحف وتتحول إلى منتدى أدبي، وكنت أتمنى لو استطعنا استرجاع شقته بالبناية "بشارع الملك عبد العزيز آل سعود بالمنيل" التي أبدع فيها معظم إنتاجه وعاش بها أجمل سنوات حياته، وقد تحولت الآن إلى شقة مفروشة !!

وقد تبادلت الرأي مع تلميذه الأستاذ عمر العمودي وصديقه الشيخ سالم عبيد باحبيش، فأبدى الأستاذ العمودي حماساً لذلك، وتحدث بمرارة عما حدث لشقة باكثير والصورة التي أخرجوا بها أسرته منها، وقال إنه إذا تم توفير المبلغ الذي يمكن به شراء تلك الشقة فإن قطعة من علي أحمد باكثير ستعود إلى الحياة، وستعود إلينا الجدران التي أمضى بينها أغلى ذكريات حياته وكتب روائع أعماله، فلطالما سهر في مكتبه إلى الصباح لإنهاء مسرحية، ولطالما وقف على الشرفة المطلة على النيل وسهر يفكر ويتأمل والناس نيام حتى وقت السحر، ولقد وقف هناك كثيراً يصلي ويدعو الله حين تكالبت عليه قوى الشر والظلم والظلام، وما رأيته يصلي ويدعو الله إلا وانقلب إلينا ووجهه يطفح بالبشر وعلى وجهه لآلئ من غسل همومه كلها بطهارة الوقوف بين يدي الله.

وزاد هذا الحديث من حماسنا للفكرة ولكنها بدت بعيدة بعد أن ناقشنا الجوانب المالية بواقعية، فهناك شك أن يوافق المالك على بيعها، وإذا كانت هناك موافقة فإن معرفته بالمشروع وعودة باكثير إليها مرة أخرى سيقوده إلى الطمع بمبلغ كبير ربما يزيد عن 150 ألف جنيه أو حواليه.

  وبدأنا نصرف النظر عن العودة لشقة الذكريات، وبدا لنا أن استئجار أو شراء شقة أخرى في مصر الجديدة أو مدينة نصر سيكون أقرب إلى المعقول لأنها ستكون أرخص من شقق وسط المدينة إضافة إلى أن شقق وسط المدينة ستجعل الرواد يواجهون صعوبة في إيجاد مواقف لسيارتهما في قلب المدينة المزدحم.

وأيد الشيخ سالم باحبيش هذه الفكرة وحشد لها مجموعة من المتحمسين واجتمعنا في منزله على الغداء لمناقشتها، فكان هناك الأستاذ عمر العمودي والأستاذ محمد عباد والدكتور عبد القادر الطويل والأستاذ أبو بكر عبد الرزاق، والدكتور صلاح عبد الحميد السحار عن مكتبة مصر، وتم الاتفاق على العمل على إشهار جمعية أدبية خيرية تحمل اسم "جمعية أصدقاء باكثير و السحار الأدبية "وقد تمت إضافة المرحوم عبد الحميد السحار لها لتوسعة دائرة خدمتها للأدباء الإسلاميين فالأستاذ السحار ـرحمه الله ـ قد خدم الأدب العربي ووسع دائرة التصور الإسلامي في كثير من أعماله، خاصة عمله الضخم "محمد رسول الله والذين معه" الذي صدر في عشرين جزءاً، ولقد أهمله النقد كما أهمل باكثير لأن سماسرة الكلمة في مصر شموا فيه عطر الإسلام الفواح كلما مر بينهم أو أصدر كتاباً.

وبدأت اللجنة تسعى لاستخراج ترخيص لها من وزارة الشئون الاجتماعية على اعتبار أن الجانب الخيري فيها هو الغالب، واجتمعت اللجنة أكثر من مرة، وكان أول لقاء لنا في "مقهى غرناطة" بروكسي ثم تكرر الاجتماع ووقفت عقبات في الطريق وحان موعد سفري وبدأت أخشى أن لا يتم في الأمر شيء... وقد كان!

أمنية الشاعر عبده بدوي

وقد تذكرت أستاذي الجليل الشاعر د. عبده بدوي ونحن نسعى لإبراز جمعية أصدقاء باكثير إلى الوجود، كان وقتها في الكويت يعاني مع من يعانون هناك من الأبرياء الذين أدركتهم نار المأساة، ذلك لأن الشاعر عبده بدوي كان أول من اقترح هذه الفكرة، وحدثني عنها منذ سنوات طويلة.

  فقد كتب إلي في رسالة بتاريخ 17 يناير 1982م وكنت وقتها في جدة أتأهب للسفر لأمريكا لإكمال دراستي العليا. كتب يقول بعد أن استطرد في الحديث عن صديقه العظيم عدة سطور، وهو يحدثني عن متابعة خدمة تراث باكثير حتى بعد سفري:

"عفواً يا محمد ـ فقد أخذني باكثير منك، ولعل وراء ذلك أني لا أفرق بينكما، فأنت شبابه الذي أراه فيك، وعلى كل لا تتحول عيناك عن ماستين كبيرتين هما "الإسلام" و "العروبة" ولعلك في مسيرتك القادمة تتذكر أنك أحلام باكثير، وأنك يجب أن تحفظ في قلبك دائماً ذكراه، وما لم تفعل ذلك سيموت باكثير موتاً حقيقياً، لأنه حتى الآن لم يمت، فهو أكثر حياة وإشراقاً من الآخرين!"

وقد أبرزت لي هذه الكلمات أهم معالم الطريق، وأعطتني جرعة قوية من الشجاعة والصبر والثبات في وقت كنت في أشد الحاجة إليها، وقد كان ذلك حب الأستاذ لتلميذه واضحاً تجليه الكلمات والسطور. ثم قال في آخر رسالته:

"ولا أدري لماذا تلح علي فكرة إنشاء جمعية اسمها (جمعية أصدقاء باكثير) وعلى كلٍ فأنا أسلمك الفكرة، ولك أن تحشد حولها من الآن الأستاذ حسن محمد كتبي والأستاذ عبد الله بلخير وكثيراً من عباد الله الصالحين ـ وما أقلهم ـ في هذا الزمان الشرس الوغد.. وكأني أرى لها في غدٍ دوراً تحت الراية الباكثيرية " !!.