اليمن

هجرة الماء والنار

قراءة في أحداث المستقبل

أحمد الجدع

القراءة في أحداث المستقبل لا تكون بما يقال له التنجيم أو الضرب بالرمل والحصى أو اللجوء إلى العرافين الذين يحترفون الدجل ويستغلون الرغبة الفطرية في الناس لمعرفة ما يخبئه لهم مستقبل الأيام .. ولو كانت القراءة في أحداث المستقبل قائمة على ما تقدم فإنها تكون باطلاً في باطل ..

ومن المعروف لدى علماء الأمم أن الأنبياء - سلام الله عليهم - قد أخبروا أممهم بالأحداث الهامة  التي سوف يأتي بها المستقبل ، ولم يزعم أيّ منهم أن ذلك من عنده ، بل كلهم قال بأن ذلك وحي من الله ، وأن هذا الوحي بالمستقبل إنما هو لحكمة أراد الله بها الرحمة والهداية ولفت الأنظار إلى تطور الأحداث على الأرض كما رسم لها خالقها لا كما يرسم لها مـخلوقاتها ..

وقد أخبرنا رسولنا الكريم r بكثير من أحداث المستقبل فيما عرف في كتب الحديث الشريف بأشراط الساعة وعلاماتها الصغرى والكبرى ، وهي بالمعنى المفهوم منها محطات لا بد أن يمر بها العالم وهو متجه إلىنهايته .

وقد  غلب على تنبؤات الأنبياء قبل رسولنا الكريم صياغة هذه الأحداث المستقبلية بالرمز والإيحاء ، وترك أمر التفسير لاجتهادات علماء هذه الأديان ، أما الأنباء التي حدث بها رسولنا الكريم أنها واقعة لا محالة قبل قيام الساعة فقد كانت من الصراحة والوضوح بحيث يفهمها العلماء والخاصة ويعلمها الناس من العامة ، ويرونها واضحة جلية لا لبس فيها .

وقد مضت كثير من هذه العلامات وأدركها الناس ورأوها بالعيون .. ونحن اليوم نعيش منها ما هو واضح لكل عاقل فاهم مدرك .. يريد أن يسمع ويرى .. وليس بأقلها وضوحاً ما أخبر به الصادق المصدوق بأن الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ...

ولقد كان سكان الجزيرة العربية قبل خمسين عاماً حفاة عراة .. رعاء شاة - وهذا لا يعيـبهم في شيء - وهم اليوم أغنياء أثرياء يتطاولون في البنيان - وهذا لا يعيبهم أيضاً - وإنما الذي يعيبهم أن لا يؤدوا حق الشكر لهذه النعمة بالعمل الصالح والإنفاق في سبيل الله !

أقول : مضت آيات مما أخبر به الرسول r وبقيت آيات سوف تأتي كما حدث بها r .. لأنه لا ينطق عن الهوى ، إنما ينطق بكلمات الله ووحيه .. إن هو إلا وحي يوحى .

ومن الواجب علينا ونحن نعيش عصر " الحكم الجبري " الذي أخبرنا به رسول الله r كما أخبرنا بأن هذا العصر " الجبري " مرحلة انتقال إلى المخاض العظيم " الخلافة الراشدة الثانية " أن نقرأ أحداث هذا المستقبل القادم من خلال الأحاديث النبوية الشريفة ..

وقد أحببت أن أقرأ من هذه الأحداث حدثاً قادماً لا محالة .. هجرة من اليمن إلى بلاد الشام سببها براكين عظيمة سوف تتفجر في " عدن " تدفع الناس إلى الهجرة من هناك إلى بلاد الشام ..

وقبل أن أتحدث عن هذه الهجرة أحب أن أُذَكِّرَ من يقرأ هذا المقال أن الهجرة القادمة لأهل اليمن لم تكن الأولى.. فقد سبقتها هجرة كانت بسبب ما عُرف بسيل العرم الذي هدم سدّ مأرب وأحال اليمن إلى صحاري بعد أن كانت جنات .

كانت الهجرة الأولى بسبب فيضانات مدمرة .. فهي هجرة الماء .. والهجرة القادمة بسبب براكين مدمرة .. فهي هجرة النار ..

 دعونا نبدأ بهجرة الماء ..

أجمعت كتب التواريخ على أن اليمن كانت في خصب وغنى ، بل كانت مضرب المثل في ذلك حتى دعيت باليمن السعيدة ، وكانت فيها دول وممالك على أحدث ما تكون الدول والممالك ، ورووا بأن أحد التبابعة ( والتبابعة ملوك اليمن ) جاب الأرض فاتحاً حتى وصل الصين، ففتوحاته شبيهة بما يروى عن الاسكندر ...

وقد وصلت اليمن قمة ازدهارها في دولة سبأ حيث بني سدّ مأرب فأمّن الماء الوفير للزراعة ، فانتشرت المزارع وعمت الخيرات وعاش الناس في رغد واسع وأمن مستقر ، ويبدو أن علاقات اليمن الدولية قد اتسعت ، وكان ذروة هذا الاتساع في انعقاد التحالف بين سبأ في عهد الملكة بلقيس وبين النبي سليمان في فلسطين ببيت المقدس ، ثم زادت البركة والخيرات في اليمن بدخولها في دين الله على يد سليمان عليه السلام ..

قال الله تعالى في كتابه العزيز واصفاً نعيم اليمن : { لقد كان لسبأ في مسكنهم آية ، جنتان عن يمين وشمال ، كلوا من رزق ربكم واشكروا له ، بلدة طيبة ورب غفور } 15/ سبأ .

كان الخير الذي عم اليمن آية !

والآية موضع الإعجاب العميق ..

كانت هذه الآية في جنات مترامية عن يمين السدّ وعن شماله

كانت بركات من الله جزاء ما آمنوا واتقوا

وقد جعل الإيمان بلدتهم طيبة .. شمل الطيب كل شيء فيها ،

وقد وصلت هذه البلاد من السعادة غايتها فقد شملها الله بالرضا .. وعمها بالمغفرة ..

إن السعادة والاستقرار والنعيم مقرون دائماً بالإيمان .. ويقتضي دائماً شكر المنعم ؛ وتدوم هذه النعم ما دام الإيمان والشكران .

أما إذا بطر الإنسان ، وأدار ظهره للإيمان ، وجف في لسانه الشكران .. فقد حلت عليه النقمة ، وأخذه الله بالعذاب .

وهذا ما كان من سبأ فقد بطرت وكفرت ، وأدارت أمورها عقول متخلفة ، أهملت العمران وأشاعت الظلم والطغيان .. وحلت بهم الكارثة فانهار السدّ وفاضت المياه إلى العدم ، فانقلبت الأرض غير الأرض ، فبعد النعيم المقيم والبساتين الوارفة حل الاضطراب ونزلت الكوارث وانقلبت الأرض إلى صحراء ليس فيها سوى الخمط والأثل وشيء من سدر قليل !

قال تعالى : { فأعرضوا ، فأرسلنا عليهم سيل العرم ، وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أُكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ، ذلك جزيناهم بما كفروا ، وهل نجازي إلا الكفور }  16،17 / سبأ .

ولم تعد اليمن دار قرار ، إذ لم تعد تتسع لمن فيها وقد جف ماؤها وقلت أرزاقها ، فتدفقت الهجرات منها إلى جزيرة العرب وبلاد الشام !

هاجر قسم من أهل اليمن إلى عُمان .

وهاجر قسم آخر إلى أجزاء متفرقة من جزيرة العرب من أهمها الأوس والخزرج الذين نزلوا " يثرب " .

وهاجر قسم آخر إلى الشام وأقاموا هناك دولة عرفت فيما بعد بالغساسنة .

ومن حكمة الله أن جعل من هذه الهجرة عقاباً لمن كفر .. ثم أخرج من أصلاب هؤلاء المهاجرين من آمن ونصر ..

حكمة لله ، وإرادة له نافذة ...

كانت اليمن عربية .. هم أبناء قحطان .. وكان سائر من في الجزيرة عرباً هم أبناء عدنان ، هؤلاء اليمنيون هم العرب العاربة .. العرب الـخُـلَّص ، أما بنو  عدنان فقد كانوا مستعربين جاءوا من نسل إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام .. وهذه ميزة لهم أن كانوا من نسل الأنبياء .

ويشاء الله أن يمزج جناحي العروبة .. فجعل في نقمة الفيضان خيراً ، ومع الخير خير آخر .

كيف كان ذلك ؟

نعم صهر الله هذين الأصلين في بوتقة واحدة ، وأصفى لغتهم حتى غدت أعظم اللغات وأبلغها وأكثرها مرونة واشتقاقاً وطواعية ، فبعد أن كانت عربية اليمن بعيدة عن عربية  الحجاز ونجد ، فقد تقاربتا وامتزجتا حتى غدتا لغة واحدة ...

ثم جاء الإعداد الإلهي العظيم ، فأرسل الله رسوله في مكة ، في قبيلة هي سيدة القبائل العدنانية .. وجعل هجرة الرسول إلى قبيلة من أعرق القبائل اليمنية .

كانت بعثته في قريش أبناء عدنان .. بن إسماعيل بن إبراهيم وهجرته إلى الأوس والخزرج .. الأوس والخزرج الذين جاءوا إلى الحجاز من اليمن إثر انهيار سدّ مأرب !

وكان الإسلام الذي حمله فرعا العروبة بنو عدنان .. وبنو قحطان ، ونشروه في الأرض في سيرة مشرقة وضيئة لم يأت الزمان بمثلها .

ومضى الإسلام في تاريخه الطويل .. جاء بعد النبوة خلافة راشدة وبعد الخلافة الراشدة جاء ملك عضوض .. ثم جاء هذا الحكم الجبري الذي نعيش أيامه النكدة ..

وتمضي اليمن في سيرة حديثة عجيبة .. يحتلها الانجليز ثم يحكمها قوم ملاحدة حاربوا كل خير فيها وأعلنوا الكفر بواحاً دون تورية .

قد يقول قائل .. كان هذا في جنوب اليمن دون شماله .

وأقول : إن حديثنا في هجرة النار يبدأ من جنوب اليمن حيث تربض عاصمته عدن على خليج باب المندب !

 هجرة النار :

يقول الرسول الكريم في الحديث الشريف : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات " وعدَّ منها نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس ... انظر الحديث رقم 2109 الترمذي . وفي مسند أحمد " ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس .. " الحديث رقم 15558 وفي حديث آخر في مسند الإمام أحمد : " ستخرج نار قبل يوم القيامة من بحر حضرموت تحشر الناس، قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : عليكم بالشام " . الحديث رقم 5121 ورقم 4899 .

والحديث بهذه المعاني أيضاً في الترمذي رقم 2143 . وقال عنه الترمذي : حديث حسن غريب صحيح من حديث ابن عمر .

 ما هو الحدث القادم من عدن ؟

إنها نار عظيمة تخرج من " قعر عدن " أي أنها براكين سوف تنفجر هناك يهرب منها الناس فيرتحلون من عدن .. وحضرموت ( وحضرموت لمن لا يعرفها امتداد لعدن وهي إحدى محافظات اليمن ) .

وإلى أين يرتحل هؤلاء والبحر المحيط من ورائهم ، إن رحلتهم الطبيعية نحوالشمال إلى الجزيرة العربية ثم إلى الشام .

والحديث يقول بأنها " تحشر " الناس .. أي أنها تسوقهم إلى أرض المحشر ، وأين هي أرض المحشر؟

قالت ميمونة مولاة رسول الله r : يا رسول الله : أفتنا في بيت المقدس ، قال : أرض المحشر والمنشر . " ابن ماجة 1397 .

وفي مسند أحمد " إن الشام أرض الهجرة وأرض المحشر وأرض الأنبياء " رقم 26306 وما دامت الشام ( والشام هي المعروفة اليوم بسورية وفلسطين ولبنان والأردن ) أرض المحشر وأن النار سوف " تحشر " أهل اليمن ، وليس لهم من طريق للحشر إلا الشمال ، فإن طريقهم إلى الشام .

هذه أحاديث الرسول الذي لا ينطق عن الهوى ، يؤمن بها كل مسلم موحّد ، فما دام الرسول قد قال هذا فإنه سوف يقع .

وهناك من لا يؤمن إلا بالعلم الحديث ، إنه يريد بينات على أن عدن مؤهلة لهذا البركان العظيم...

إلى هؤلاء نسوق الحديث التالي عن النار التي تربض في " قعر " عدن !

وأين قعر عدن إلا هذا البحر الذي تسترخي فوقه عند مضيق باب المندب .

تعالوا بنا قبل أن نستقرئ العلم الحديث نقرأ هذه الآيات من كتاب الله .

يقول عز من قائل { والطور ، وكتاب مسطور ، في رَقٍّ منشور ، والبيت المعمور ، والسقف المرفوع ، والبحر المسجور } الآيات 1-6 / الطور .

إن الله يقسم بأشياء عظيمة ؛ منها البحر المسجور .. وما البحر المسجور ؟

إنه البحر الذي يشتعل ناراً .

بحر يشتعل ناراً ؟

نعم ، بحر يشتعل ناراً .. علماؤنا يقولون إن الله لا يُقسم إلا بموجود ، وما دام قد أقسم بالبحر المسجور فإنه موجود .. ولكن أين ؟

كانوا يسألون البحارة الذين تجوب سفنهم البحار .. هل رأيتم بحراً يشتعل ناراً ؟

وكانا الجواب دائماً : لا .. فيقول لهم العلماء : إنه موجود فابحثوا عنه !

تعالوا بنا الآن نستقرئ العلم الحديث .

في الحرب العالمية الثانية اخترع الإنسان الغواصة .. التي تغوص إلى قعر البحار .

كانت غواصة ألمانية تعبر البحر الأحمر فلاحظت أمامها في قعر البحر أخاديد تخرج منها النار.. رأت اشتعال النار في البحر .

وتابعت الغواصة طريقها وهي ترصد هذا الأخدود المشتعل ولاحظت أنه يزداد اشتعالاً كلما اقتربت من باب المندب .. وإنه أشد اشتعالاً عند هذه المنطقة من البحر الأحمر !

وبعد الحرب العالمية الثانية تقدمت العلوم تقدماً هائلاً ، وأصبح رصد البحار أكثر دقة وأبعد إحاطة بواسطة الغواصات الأحدث ، والأقمار الصناعية الدقيقة ، وآلات التصوير تحت الماء وغير ذلك من أدوات العلم الباهرة .

وعرف الإنسان بهذا العلم الواسع أن في أعماق المحيطات ناراً تشتعل ، فأخضع هذه الظاهرة للدراسات المستفيضة ووضع لها النظريات العلمية المتعلقة بجيولوجيا البحار ...

وقال العلماء إن ظاهرة المياه المشتعلة موجودة في جميع البحار ، ولكنها تختلف من بحر إلى آخر ، فهي تضعف هنا وتشتد هناك ، وقالوا إن أشد البحار اشتعالاً هو البحر الأحمر وأن أكثر مناطق البحر الأحمر اشتعالاً عند باب المندب حيث تربض مدينة عدن .

إذن فإن مدينة  عدن تربض فوق بركان هائل من النيران لا يدري أحد متى ينفجر هذا البركان ..

وينصح علماء الجيولوجيا سكان عدن بهجرها حتى لا يدهمهم البركان العظيم ! ([1])

البركان قادم .. وسوف ينطلق من أعماق البحر عند باب المندب ( قعر عدن ) وسوف يكون بركاناً هائلاً يدفع الناس إلى الرحيل من عدن .. وحضرموت ..

إلى أين يا أهل اليمن .. إلى المحيط من خلفكم ؟ ليس لكم إلا الرحيل إلى الشمال .. إلى الشام أرض الحشر .. حشر الطاقات العربية إلى أرض الرباط حيث تكون الملاحم بين الحق والباطل وحيث ينتصر فيها جند الحق .. ولعل من أبنائكم أو أحفادكم من يكونون من هؤلاء الأجناد ونسأل الذي نصر الدعوة الإسلامية في عهدها الأول بأسلافكم من الأوس والخزرج الذين هاجروا هجرة الماء أن ينصرها في عهدها القادم بأحفادكم الذين يهاجرون هجرة النار ..

([1]) انظر البحث القيم عن البحر المسجور في كتاب " آيات الله في البحار " من تأليف ماهر أحمد الصوفي .