العين فيها حُوار وعُوار
عبد الكريم بن علي النقيدان
يتسابق أصحابُ الأقلام ببري أقلامهم على ظهور عُوار الكتاب المخالفين لأفكارهم، والمتصادمين مع توجهاتهم، لتكون أنظارهم مسلطة على عُوار ناتئ أو شِبه عُوار، أو ليس كذلك، لكن عمق الخلاق جذّر أزمة بينهم وبين كل نظرة سامية لمخالفيهم، فصارت نظرة عوراء، ضلت طريقًا هم عنه راغبون.
إن العين السامية تنظر لكل ألوان الحياة، فتنظر للجمال بمقاييسه وأفنانه، وصوره وروائعه، وتنظر للقبيح بمعايير القبح العقائدية والعرفية والاجتماعية، فما جاوز هذه المعايير إلاّ وأسودّ ظلامه، وعتُمَت نظراته.
فإذا كانت المآرب تقصد الإساءة دون ذلك، ويتجادل المختلفون، ثم لا ينظرون إلاّ إلى عُوار بعضهما بعضًا، فإن احتناق النفوس وارد وزناده مهيأ للقدح في كل لحظة. وتبدأ جولات من الازدراء في كل رِيع، وتنبس الشفاه وتسيل الأقلام بالمثالب، دون تقدير واحترام للرأي المخالف.
والذي يسوق الكاتب إلى النظر في العُوار دون الـحُوار، هو إما ماضٍ غير ناضر مع من يختلف معهم، أو تداعيات اجتماعية وتقلبات نفسية، أو إطلاع على كتابات مَنْ كان لهم جذوة صراع معهم في السابق، فآمن بأفكارهم، وحَمِدَ لهم مشاكساتهم، فأبردت كبده، وروت عطشه.
* * *
لا يسلم الكاتب من الزلل، ولا حتى من البياض يكتمل، فكلٌ بعينه بياض وسواد، ولا يتحقق الجمال الحقيقي إلاّ بهذا الاختلاف اللوني، والكاتب كالعين؛ فمن الناس من يرى السواد يغشاه، ومنهم من يراه جميلاً برؤية عميقة لا يؤثر فيها الاختلاف الفكري أي تأثير، فينصف الحكم، ويسوغه بقلم رصين.. فيرى السواد فيه فيعرّفه سواداً، ويرى البياض فيعرّفه بياضًا.
لنختلف كثيرًا ولا ضير في ذلك، وليأتي كل منا بما عنده من دلائل وشواهد، وليقارع هذا حجة ذاك، حتى تتماشج الأفكار مع الأفكار، وحتى تتضح للقارئ المُثل العليا من السفلى، وحتى لا يُملِئ على العقول من بيده بضاعة ثقيلة عتيقة، على من لا يملك إلاّ بضاعة مزجاة، ثمنها عنده أغلى من بضاعة مكرورة سمجة قديمة، لا تهدف إلا للنبذ والإقصاء، بشعار ( اسمع واسكت).. !
* * *
صراع الأفكار متجدد في كل العصور، ونبشها حسب متغيرات الأحوال في الأفواه والصدور، فنحن قبل بضع سنين، لم يكن عندنا من هذا الحراك الفكري نصفه، لأسباب عديدة، واسعة الذكر عميقة البحث ـ ليس لذكرها الآن حاجة ـ فهو بقدر ما انبعث وثار هذا الحراك، وتشعبت جداوله، وسالت أحباره، إلا أن فيه خيراً كثيراً ومنافع للناس، ولا يخلو من الإثم لمن خرج عن جادة الفضائل في الحِوار والفكر، وسدد نظراته إلى عُوار الآخرين دون بياضهم.