ما غاية المسلمين في حوارهم مع "الآخر" وحضارته؟!
ما غاية المسلمين في حوارهم مع "الآخر" وحضارته؟!
هشام منور
كاتب وباحث فلسطيني
تتميز الكتابات والمعالجات الإسلامية لموضوع (حوار الحضارات) بكثير من الانفعال والتخبط وعدم وضوح الرؤية الثاوية من خلالها، وقد جاء معظمها على سبيل اتخاذ موقف رد الفعل إزاء الدعوات الغربية "المتضاربة" والمنقسمة بين مؤيد لصمويل هنتنغتون في كتابه نهاية التاريخ، وإعلانه سيادة النموذج الغربي في خاتمة المطاف، أو على الأقل، تنبؤه بذلك، وبين الدعوة إلى رفض هذه المقولة والإيمان بمبدأ الحوار بين الحضارات بين الغربيين أنفسهم.
ورغم تأخر المسلمين في الاستجابة هذه المرة لهذا التحدي الجديد، إلا أن الدعوة إلى حوار "الآخر" وتفحص حضارته، غثها وسمينها، كانت السمة الأبرز لردة فعلنا هذه المرة. فلم يجد المسلمون من مفكرين وفلاسفة وحتى سياسيين صعوبة في ترجمة الرغبة في محاورة الآخر، وبات البحث في ماهية هذا الحوار وشروطه وآلياته وضوابطه ومرتكزاته مطلباً أساسياً من مطالب الفكر الإسلامي المعاصر ومتبنيه.
فغاية المسلمين من الحوار مع الآخر وحضارته يندرج ضمن سعيهم لتنفيذ تعاليم الإسلام النابعة والمستمدة من الفطرة الإنسانية القويمة. قد تختلف أغراض الحوار من جماعة إلى أخرى، لكن تبقى الغاية الكبرى تتمثل في تحقيق أفضل حالة من التعايش الإنساني يكفل إحقاق الحق وضمان حرية الإنسان وكرامته.
ولعل من أبرز المقاصد والأهداف التي ينشدها المسلمون من حوارهم مع الآخر تكمن في تحقيق واجب "التعارف" و"التعاون" المأمور بهما في كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفوُا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (الحجرات: 13). بل إن تحقيق التعارف مع المخالفين لدين الإسلام والتعاون معهم هو مما لم يمنعه القرآن الكريم، بل أجازه لما فيه من تحقيق غاية إنسانية سامية وهو التعارف: ((لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمُ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين)) (الممتحنة: 8). حتى إن المسلمين نهوا عن التعرض لمعتقدات المخالفين لهم أو تسفيهها لمجرد اختلافها مع ما يعتقدون، لما في ذلك من تعكير لجو الهدوء اللازم لإقامة التعارف والتعاون معه الآخر.
أما المرتكز الذي يستند إليه المسلمون في حوارهم مع الآخر، مهما كانت ملته أو عرقه، فهو "الكلمة السواء" التي ينبغي أن يجتمع حولها المسلمون مع غيرهم تحقيقاً لأبسط قواعد التعاون والتكامل فيما بين بني البشر: (( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهُ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ. فَإِنْ تَوَلَّواْ فَقُولُوا اشْهَدوُا بِأَنَّا مُسْلِمُون)) (آل عمران: 64). وسواء اسم مصدر من الاستواء، وهو العدل أو القصد. قال ابن عطية المفسر في تفسيره: "أي ما يستوي فيه جميع الناس" وبلغة عصرنا: ما يشمل جميع الناس ولا يمكن أن يحرم منه أحد مهما كان المبرر أو السبب من المبادئ العامة. ولعل من أهم مقتضيات هذا التعارف والتعاون والتكامل حسن الخطاب وحسن توجيهه: (( اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيِلِهِ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين )) (النحل: 125).
كما يندرج من مقاصد الإسلام وتعاليمه في أمره المسلمين بحوار الآخر إقامة سلم عالمي يكفل إشاعة مفهوم مركزي في الإسلام هو "العدل" في جميع مجالات الحياة، وفي مختلف صنوف العلاقات الإنسانية مهما ضاقت أو اتسعت دوائرها. والآيات الكريمة التي تشير إلى ذلك وفي سياق لغوي عجيب ومبهر أكثر من أن تحصى، منها قول الله تعالى: ((إنَّ اللهَ يأمركم أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِها. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْن النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بالْعَدْل. إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظِكُمْ به. إنَّ اللهَ كَاَن سَميعًا بَصيرًا )) (النساء: 58). وقوله عز وجل: ((يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامين بالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمُ أَوِ الْوَالِدَيْن وَالأَقْرَبينَ ) ((النساء:134 (. ((لا يَجْرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوْم عَلَى أَلاَّ تَعْدلوا. اعْدِلُوا هو أَقْرَبُ للتقْوى )) (المائدة: 9) و"العدل" من أهم وظائف النبوة وأشرفها: (( وَقُلَ آمَنْتُ بِما أنْزَلَ الله من كتاب.وأُمرْتُ لأَعْدلَ بَيْنَكُم. اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُم )) (الشورى:15)، إذ يمثل العدل أحد أهم أسس بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إقامة العدل بين الناس في شتى المجالات. والإسلام في دعوته العامة يدعو لإنشاء سلم عالمي تنخرط فيه الإنسانية كلها من غير تمييز أو تفاوت: ((وَإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْم فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلى الله ((الأنفال: 61).
وتعد حماية حقوق الإنسان من غايات هذا الحوار أيضاً، فتحرير الإنسان من عبودية العباد ورفع الظلم عنهم أسمى غاية جاءت من أجلها رسالة الإسلام. ((وَلَقَدْ كَرمْنا بَني آدَمَ وَحَمَلْنَاهُم في الْبَر والبَحْر وَرَزَقْنَاهُم ِّمنَ الطيبات وَفَضَلْنَاهُم على كَثير مِمَّن خَلَقْنا تَفْضيـلاً )) (الإسراء: 70) وتشمل حماية حقوق الإسلام المتحققة من خلال الاتفاق مع الآخر على ذلك، حماية الحقوق التي باتت متعارفاً عليها من جميع الأمم والشعوب، كحق الإنسان في الحياة والاعتقاد والعمل وضمان حريته الشخصية والدينية والسياسية.
إن عمارة الأرض واستصلاحها، وفق المفهوم القرآني، لا يمكن أن يقوم به شعب أو أمة أو حضارة دون أخرى، كما لا يمكن أن يتم بمعزل عن إنجاز حد أدنى، على الأقل، من التفاهم والتعاون والتكامل الإنساني بين هذه الشعوب والأمم والحضارات، فهذه المهمة على جلالها وأهميتها، لم تكن لينفرد المسلمون بها دون غيرهما مهما كانت نظرة كل فريق إلى الآخر وعلاقته به. ولذا كان من أهم مقدمات هذا الواجب (عمارة الأرض وإصلاحها) تأمين الظروف والمقومات الكفيلة بتسهيل هذه المهمة أو الواجب الشرعي والإنساني، وهو الحوار مع الآخر والتعارف معه والتفاهم بغية تأمين الشروط الموضوعية لنجاح شرط الاستخلاف في الأرض. وهو ما ينسف، بطبيعة الحال، أي دعوة للانغلاق أو التخوين أو الإقصاء أمام دعاتها سواء كانوا من داخل الجسد الإسلامي أو من خارجه.