الإسلام حضارة ورقيّ وإعمار
د. فوّاز القاسم / سوريا
إن توحيد العبادة والدينونة لله وحده , ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه , ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة . كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض , وترقيتها , وترقية الحياة فيها .
فكلما قام عبد من عبيد الله , ليقيم من نفسه طاغوتا يعبّد الناس لشخصه من دون الله . . احتاج هذا الطاغوت كي يُعبد [ أي يطاع ويتبع ] إلى أن يسخر كل القوى والطاقات ; أولا لحماية شخصه . وثانيا لتأليه ذاته .
واحتاج إلى حواش وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده , وترتل ذكره , وتنفخ في صورته "العبدية " الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان "الألوهية " العظيمة !
وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة ! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها . وحشد الجموع - بشتى الوسائل - للتسبيح باسمها , وإقامة طقوس العبادة لها . . . !
وهو جهد ناصب لا يفرغ أبدا . لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل . وما تني تحتاج كرّة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد !
أنظروا مثلاً إلى مومياء ( بوتفليقة ) ...!!!
وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال ، وأرواح أحيانا وأعراض !
لو أنفق معشارها في عمارة الأرض والوطن , والإنتاج المثمر , لترقية الحياة البشرية وإغنائها , لعاد على البشرية بالخير الوفير . .
ولكن هذه الطاقات والأموال - والأرواح أحيانا والأعراض - لا تنفق في هذا السبيل الخيّر المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده ; وإنما يدينون للطواغيت من دونه .
ومن هذه الحقيقة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده ; وعبادة غيره من دونه . .
وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض , والقيم والأخلاق .
وفوق الذل والقهر والدنس والعار !
وليس هذا في نظام أرضي دون نظام , وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات .
ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده , فأتاحوا لنفر منهم أن يحكمهوهم بغير شريعته , قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره .
العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم , مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم , والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة .
لقد هربت أوربا من الله - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف - وثارت على الله - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة ! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية [ الديمقراطية ] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية , والأوضاع النيابية البرلمانية , والحريات الصحفية , والضمانات القضائية والتشريعية , وحكم الأغلبية المنتخبة . . . إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة . . ثم ماذا كانت العاقبة ? كانت العاقبة هي طغيان "الرأسمالية " ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات , وكل تلك التشكيلات , إلى مجرد لافتات , أو إلى مجرد خيالات ! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال ، وتملك معه الأغلبية البرلمانية ! والدساتير الوضعية ! والحريات الصحفية ! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم , في معزل عن الله سبحانه !!!
ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغي فيها "رأس المال" و "الطبقة " إلى الأنظمة الجماعية ! فماذا فعلوا ? لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة "الرأسماليين" الدينونة لطبقة "الصعاليك" ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات ، الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان ! فتصبح أخطر بألف مرّة من طبقة الرأسماليين ، حيث اجتمع فيها مع الظلم والعبودية ، الفقر ، والجهل ، والتخلّف أيضاً ...!
وفي كل حالة , وفي كل وضع , وفي كل نظام , دان البشر فيه للبشر من دون الله , دفعوا من أموالهم ، وأعراضهم ، وأرواحهم الضريبة الفادحة...