الأزمة المالية العالمية

هايل عبد المولى طشطوش

ماجستير اقتصاد سياسي دولي

[email protected]

ينشغل العالم اجمع اليوم بموضوع ساخن يعتبر من أهم موضوعات الساعة إن لم يكن من أهم ما شهده العالم منذ قرن من الزمان تقريبا ، ولكي لنبقى دائما في قلب الحدث وخاصة في هذا الزمن الذي يستحق أن يسمى "زمن المعلومات" حيث لا مكان فيه لمن يبقى خارج دائرة الأحداث فإننا نتطرق إلى بعض جوانب هذا الحدث .

 إنها الأزمة المالية العالمية ،بل انه الإعصار الاقتصادي العالمي الذي أفاق العالم على تداعياته وأثاره المدمرة ،والذي كانت نقطة انطلاقة هي معقل الرأسمالية العالمية وراعيها الولايات المتحدة الأميركية والذي ما لبث وفي زمن قياسي أن اجتاح العالم كله من أقصاه إلى أقصاه لتطال ويلاته وأثاره كل الأنظمة الاقتصادية في كل بقاع الأرض .

 إن العالم الذي يعيش اليوم في ظل العولمة هو عالم زالت منه الحدود الجغرافية وانهارت فيه القيود السياسية وسقطت عنه الحواجز الجمركية فلم يعد حبيس الجغرافيا ولا أسير السياسة فأصبح عالما مفتوحا لا تعترض حركة الأموال او الأفراد او السلع فيه أية قيود او موانع فأصبح من الصعب بل من العسير الفصل بين ما هو سياسي عن ما هو اقتصادي ، فتصريح لزعيم سياسي في شرق العالم قد يقلب موازين الاقتصاد في غربة، وأزمة اقتصادية في غربة قد تغير شكل العلاقات الدولية برمتها .

 لقد استطاع النظام الرأسمالي أن يفرض نفسه كنظام اقتصادي وسياسي ويمتد بأذرعه إلى كافة أرجاء العالم وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكي ، حيث أصبح هو النظام الذي تسير وفقه معظم دول العالم فلم تسلم منه دولة واحدة قط ، حتى الصين التي هي حامية الاشتراكية العالمية الآن أصبح وخلال اقل من 10 أعوام فقط أكثر من 30 % من اقتصادها يسير في فلك اقتصاد السوق ، لدرجة دفعت المنظرين والمفكرين والفلاسفة أن يحكموا على أن سيادة النمط الرأسمالي في العالم يعني نهاية التاريخ .... ، فها هو( فرانسيس فوكوياما ) يرى بان العالم قد وصل إلى القمة بسيادة الرأسمالية وانه لا نظام بعدها فهي قمة ما أبدع الفكر الإنساني وأرقى ما توصل له العقل البشري من إبداعات ، ولكن يبدو أن الآليات التي يسير وفقها النظام الرأسمالي والتي تتمثل بالملكية الفردية المطلقة للأشياء ، والحرية التي لا تضبطها قيود ، والمنافسة الحرة ، والسوق المفتوح الذي ليس للدولة علية سيطرة او تحكم ، وما نتج عن هذه الآليات من الرغبة الجامحة في تعظيم الأرباح الفاحشة وتكديس الأموال الطائلة والمضاربة بكل الوسائل المتاحة كلها قد أدت إلى أن يظهر الإنسان الرأسمالي رغبته المتوحشة وطمعه وجشعه المطلق وحبة الكبير لامتلاك الثروات بغض النظر عن الوسائل ، مما جعل العالم ينقسم إلى قسمين قسم اكبر وهم الجياع الذين يبيتون على بطون خاوية والذين جاوز عددهم بالأمس القريب المليار نسمة أي ما يمثل سدس البشرية ، وقسم قليل العدد مترف مرفه يمتلك من الأموال ما تعجز الأرقام والكلمات عن وصفه .

 أن هذا التناقض العجيب والخلل الكبير في توزيع الدخول وانعدام عدالة التوزيع ساهم ولحد كبير في خلق التناقضات والأزمات داخل النظام الرأسمالي ،مما دفع المفكرين والمحللين إلى صياغة نظريات تتحدث عن ما بعد الرأسمالية ، إلا انه- أي النظام -كان يبرمج نفسه في كل مرة ويعيد معالجة أزماته بطريقة تجعله يعود للحياة من جديد ، ولكن يبدو أن ترك الحبل على الغارب في جمع الأموال وتكديسها قد أصاب العمق من جسد النظام ،فخرج للناس ما سمي بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة لتكون القشة التي تقصم ظهر البعير وتنهك أدواته المالية وأركانه المصرفية فتشح السيولة المالية ويعجز المدينون عن الوفاء بديونهم مما اضطر المصارف والبنوك إلى إعلان إفلاسها وكشف حساباتها مما احدث خللا ماليا كبيرا سرى في جسد النظام المالي الأميركي سريان النار في يابس الحطب وما لبت أن عصف بالنظام العالمي الاقتصادي برمته .

 لقد تنادى العالم الغربي عموما وأميركا خصوصا وبسرعة البرق إلى إنقاذ نظامه المالي لأن انهياره قد يعلن عن تحطم الرأسمالية وانهيارها وبالتالي تغير المفاهيم والايدولوجيا وما قد ينتج عن ذلك من تغير لشكل النظام العالمي برمته فقد رقص الغرب طربا عندما انهارت الاشتراكية وسقط الاتحاد السوفيتي حينها تربعت أميركا على عرش العالم وساد نظام القطب الأوحد وبدأت أميركا تمد اذرعها الاقتصادية والسياسية والعسكرية لتطال العالم كله منفقة المليارات من الدولارات في سبيل تحقيق غايتها وهي نشر نظامها ومبادئها وقيمها على العالم ، ولعل النتيجة التي حصدها النظام الرأسمالي من تعنته وتسرعه في فرض أنموذجه بالقوة على العالم هي ما نشاهده من أزمة مالية قد تودي به !!!.

 أما قد يكون بديلا لهذه الأزمة العنيفة فهو النظام الاقتصادي الإسلامي الذي بدأت بعض الدول تدرك أهميته ونجاعته وقدرته على الصمود والمقاومة حيث يبدو الاقتصاد الإسلامي اليوم وفي ظل هذه الأزمة الاقتصادية العالمية التي تعاني منها البشرية كمخلص للعالم من وطأة الكساد والركود ومن العواقب الوخيمة التي قد يتركها هذا الزلزال المالي الرهيب الذي يعصف باركان النظام الاقتصادي الرأسمالي ، وخاصة بعد أن ثبت نجاحه في كثير من الدول ومنها بعض الدول الغربية كبريطانيا التي بدأت تتعامل بأسلوب الصرف الإسلامي في بعض مصارفها والتي أثبتت نجاحها وقدرتها على المقاومة والصمود وتحقيق الأرباح النظيفة الحلال ،فالنظام الاقتصادي الإسلامي هو نظام أخلاقي بالدرجة الأولى قبل أن يكون مالي ،لأنه يعتمد على القواعد الأخلاقية في المعاملة كالصدق والأمانة ، والشفافية ، والتقابض .... الخ ويعتمد أساليب التعامل الحلال كالمضاربة التي تساهم في جعل العميل شريكا فاعلا في العمل الاقتصادي يتحمل المسؤولية مثله مثل البنك يكون شريكا في الربح والخسارة ، ويبتعد عن الغش والخداع والتدليس والربا والغبن والغرر والفائدة .... الخ من الأخلاقيات الفاسدة التي تطيح بالعمل المالي وتدمر كيانه .

 وفي خضم هذه الأزمة المالية أبدت بعض الدول الغربية رغبتها في العودة إلى التعامل بالنظام الاقتصادي الإسلامي كفرنسا مثلا ، التي صدر عن برلمانها عشية الأزمة المالية بيان يطالب بتطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في البلاد " لأنه مريح للجميع " .

 ويزدهر العمل المصرفي الإسلامي في بعض بلدان شرق آسيا كماليزيا واندونيسيا .. وقد بدأت تتعامل به اليابان أيضا ، وقد حقق العمل المصرفي الإسلامي أرباحا هائلة في سنوات قصيرة وبأساليب نظيفة وحلال ومرغوبة من قبل الزبائن .

 لذا فالمطلوب من الدول العربية والإسلامية هو عودتها عن نظام اقتصاد السوق المفتوح إلى نظام الاقتصاد الإسلامي الذي يوازن ما بين حرية الفرد في التملك ويراعي رغبته وحبة لجمع المال ويراعي أيضا الملكية الجماعية وسيطرة الدولة وتوجيهها للاقتصاد بطريقة تضمن بقاء السوق في حالة من التوازن والانتظام حماية للفرد والجماعة في ذات الوقت ، وذلك لكي تبقى البلاد العربية والإسلامية بمنأى عن مثل هذه الأعاصير المالية التي قد تدمر اقتصادياتها وخاصة أن معظمها يصنف _ إذا ما استثنينا دول الخليج - على انه من الاقتصاديات الهشة .