حرب في غزة... انتفاضة في الضفة
معين الطاهر
غزة.. لا تقاتل دفاعا عن نفسها فحسب. ولا عن أمتها العربية والاسلامية وشعبها الفلسطيني في الداخل والشتات فقط.. غزة.. بصدور ابنائها العارية، بشهدائها الأبرار، بأنين جرحاها، بصواريخها، بحجارة بيوتها، ببحرها وشجرها ونسمات هوائها المشبع برائحة البارود، بكل نفس حي فيها، تقاتل وتخوض حربا ضروسا من أجل الدفاع عن الضفة الغربية، من أجل منع استفراد العدو فيها لابتلاعها وتهويدها.
في صيف سنة 2005 اقترح ارييل شارون خطة أحادية الجانب للانسحاب من غزة، تم إجلاء 8600 مستوطن صهيوني يقيمون في 21 مستوطنة أُقيمت على أرض القطاع، إضافة إلى 4 معسكرات للجيش. انسحب الإسرائيليون من غزة وسط دعوات قادتها وتمنياتهم بأن يبتلع البحر غزة. شارون رائد الاستيطان ونصيره هو الذي اقترح هذه الخطة وهو الذي طبقها. كان يريد الخلاص من غزة، من مقاومتها، من زخمها البشري، وإبعاد تأثيرها عن مقاومة الشعب الفلسطيني محاولات تهويد الضفة.
لم يجرؤ العدو في ظل المقاومة والانتفاضة الأولى على هذه الهجمة الاستيطانية الشرسة. لكن في ظل اتفاقات السلام والمفاوضات العبثية، تقطعت أوصال الضفة الغربية، وعزلت مدنها، وأُقيم فيها الجدار العازل، تم عزل القدس عن سائر أرجائها، واستفحل غول الاستيطان فيها. ناهز عدد المستوطنين في الضفة نصف المليون، وأصبحوا قوة مؤثرة في السياسة الإسرائيلية، ورقما صعبا فيها. نسبتهم إلى السكان العرب في الضفة الغربية تزيد عن نسبة اليهود إلى العرب في فلسطين غداة إعلان دولة الكيان الصهيوني سنة 1948. وهذا مؤشر في غاية الأهمية والخطورة. حيث دعا غلاة المستوطنين للتفكير بإنشاء حكومة خاصة بهم في الضفة. تكرس الاستيطان جزءا أساسيا من المنظومة الصهيونية التي تستعد في هذه الأجواء لمعركتها الفاصلة في ابتلاع ما تبقى من الضفة الغربية. وإعلان يهودية الدولة وإجبارنا على الاعتراف بها.حيث نفقد بذلك مكانتنا في الجغرافيا والتاريخ معا.
العدو له شرط واحد في وقف الحرب في غزة، موافق هو على رفع أو تخفيف الحصار، وموافق على وقف إطلاق النار، لكنه يريد تجريد غزة من قدرتها على دعم الضفة، يريدها أن تقف صامتة أمام نسفه لبيوتها، واعتقاله لمناضليها، ومصادرته لأراضيها، واستباحة مستوطنيه لزيتونها وترابها، يريد غزة خارج الوطن الفلسطييني، وخارج الهم الفلسطيني. لكن أهل غزة وشهداء غزة وأطفال غزة وأحلام غزة تأبى إلا أن تكون جزءا لا يتجزأ من الأمل والحلم الفلسطيني بكل تراب وهواء وسماء فلسطين. لهذا تقاتل غزة.
وحتى تتحقق معادلة النصر الأكيد، صاروخ ومواجهة مسلحة في غزة وحجر في الضفة، وهبّة في فلسطين الداخل، ودعم وتضامن من الشتات وأحرار العالم، فإن على الضفة التي هللت وامتلأت قلوب أبنائها فرحا لسقوط صواريخ غزة في أرجاء الوطن المحتل، أن تستمر في انتفاضتها التى باتت حقيقة واقعة، وفعلا يومياً، وأن تصعّدها باتجاه استمرار المواجهة مع حواجز العدو ونقاطه ومستوطنيه.
من الملاحظ والغريب أن فعاليات المواجهة تكون أكثر حدة في المناطق التي لا تخضع للسيطرة الأمنية من قبل أجهزة السلطة، فهي تلتهب أكثر في المناطق المصنفة (ب) مثل القرى، وتقل وتيرتها في المناطق المصنفة (ألف) مثل المدن الكبرى، حيث تقف قوات الأمن الفلسطينية حاجزاً بين الشبان ونقاط العدو. بوضوح لم يعد مقبولا أن يقف أبناؤنا واخوتنا أفراد الأجهزة الأمنية حاجزا بين المتظاهرين ونقاط العدو، ولم يعد مقبولا تلك الذريعة الممجوجة التي يتشدّق بها البعض عن أن منع الأجهزة الأمنية للمتظاهرين وأحيانا قمعهم، هو لحمايتهم من بطش العدو. ففي ظل أجواء المواجهة الكاملة، والحرب الضروس لن يحسب هذا إلا حماية للعدو ودفاعا عنه وتنسيقا معه. لم يعد مقبولا لقطاعات كبيرة استمرار هذه السياسات، وبما فيها التنسيق الأمني الذي يجب أن يتوقف فورا، وتتوقف معه كل الاتصالات والعلاقات المرتبطة به. في ذات الوقت الذي لم يعد مقبولا تلك السياسات المترددة والتصريحات المرتجفة وأنصاف الحلول، التي يمكن أن تصدر عن وسيط محايد وليس عن شركاء المعركة الواحدة. كما يجب التوقف عن إلهاء شعبنا بأنصاف قرارات لا تستكمل، وهدفها الأساسي كسب الوقت وإيهام الناس بأن ثمة قرارات ستتخذ آجلا. كيف يستقيم أن نطلب من الأمين العام للأمم المتحدة (أن يدرس إمكانية تقديم) حماية دولية باعتبارنا دولة تحت الاحتلال، ونحن ننسق مع هذا الاحتلال. ولماذا كل هذا التباطؤ في الانضمام إلى المعاهدات والمنظمات الدولية. اسئلة كثيرة تتردد بلا إجابه واضحة، سوى أنه لم توضع بعد كل الجهود والامكانات والوسائل في خدمة المعركة، بل أن هذه السياسات تتسبب في وضع العراقيل أمام اتساع الانتفاضة وامتدادها وفي دعم المقاومة في غزة.
في قتال غزة ومعركتها تلوح تلك اللحظة التاريخية التي قد لا تتكرر، والتي ينبغي اقتناصها فورا وبدون تردد. وهي لحظة نصوغ فيها معادلة النصر، حرب في غزة وانتفاضة في الضفة، في وقت واحد ومعركة واحده. يردف كل منهما الآخر ويشد أزره. في هذه المعركة كم نفتقدك يا ياسر عرفات، نفتقد فيه روح المبادرة الغائبة والقرارات الجريئة واستثمار اللحظة التاريخية. لكننا نستمد التفاؤل والأمل من المقاومين في غزة، والشباب في أرجاء الضفة وفلسطين الداخل ونستعيد قصيدة الراحل علي فوده ونغني أبياتها، ونردّد معها: يا نبض الضفة لا تهدأ.. أشعلها ثورة.