رمضان بين الذاكرة والواقع

رمضان بين الذاكرة والواقع

م. حسن الحسن

[email protected]

كيف تحول الشهر الكريم على يد الامة المنحدرة، من شهر بدر وفتح مكة وعين جالوتوالجد والعمل الى شهر الفوازير والمسلسلات وخيام الترفيه والعطلة والكسل.

ميدلايست اونلاين

عقودٌ كثيرةٌ مضت، أدبر فيها رمضانُ يتيماً حزيناً متحسراًمنكسراً كما أقبل. بات رمضان يزورنا ويغادرنا سريعاً، ربما لأنه مشفقٌ علينا،مذهولٌ لمصابنا وما حلّ بنا، مؤثراً أن لا يُسجل علينا في صفحاته البيضاء مآسيناوانحدارنا، محافظاً على ذاكرته عطرة، ومعانيه العظيمة والمقدسة طي سجلٍ ناصعٍ، فيأوراقٍ يباهي التاريخ بها، لا يمكن بحالٍ أن تتلفها ذاكرة فاسدة تتعمد نسيانها.

كيف لا ينصرف رمضان عنَّا مسرعاً، بينما نغرق في مشهدٍ هزيل مخجلٍ متكررٍ كلعام، تُلصَقُ فيه برمضانَ كلُّ آفة، من "فوازيرَ" ماجنةٍ، وترفيهٍ تافهٍ، وخيامٍيشجو فيها أهلُ الأهواء، تُقترَفُ فيها الفواحش والآثام من كل نوع ولون، أمام مرأىومسمع الجميع منقولة بواسطة وسائل الإعلام، وكلُّ ذلك احتفاء بشهر رمضان الفضيل! كما يزعمون، مما يندى له جبينُ المؤمنين، ويُسخطُ الله ربَّ العالمين .

إنه رمضان يا خلق، شهر القرآن، المعجزة الخالدة للأنام، أنزله الله فرقاناً بينالحق والباطل، وجعله حكماً على الناس، وشرعة لهم في الحياة، هبط من السماء للتدبروللتلاوة ولتبيان أحكام الولاية، رابطاً الأرض بالسماء، راسماً للبشر طريق الخيروالهدى والرشاد. بينما نجده الآن مقصىً عن الحياة، محاربٌ من قبل السلطان، غايةُشأنِ تعظيمهِ تقبيلُه بالشفاه وركنُه على الرفوف والدقُّ له بالدفوف.

ورمضان شهر الانتصارات والفتوحات، فها هي بدرٌ الكبرى شاهدة، وفتح مكة لا يمحىمن الذاكرة، فيه خرَّت عموريَّة صريعة خائرة بعد استغاثة الأسيرة بالخليفة صارخةًوامعتصماه، تلاها ملحمة عين جالوت التي ولت فيها فلول جيش التتار الجرار لا تلويعلى شيئ سوى النجاة، والسلطان قطز يلاحقها ويصرخ في جيشه واإسلاماه، يرفع يديه إلى السماء مناجياً ربه، يا الله انصر عبدك قطز. أمَّا الآن، فالأقصى بين براثن يهود،أسيرٌ يئن ويستغيث وما من مغيث. وبغداد آه مما أصابها وويلٌ لمن خانها بغداد،مستنقعٌ فاضت فيه الدماء، وعلت فيها رايات الشرك والرجس والإلحاد. وأما أرض الشيشانفتشتكي إلى الله مصابها، وكل من تخلى عنها وباعها. ناهيك عما طال عباد الله فيالسجون والمعتقلات لأنهم يقولون "ربنا الله"، وفوق كل هذا ومع بزوغ كلِّ فجرٍ جديدٍتنفجر مآسي مروعة تطوي سابقاتها، مما يوجع القلب ويدمي الكبد ويسيل العبرات.

ورمضانُ ذو الهيبة والجلال، جامعُ الأمة ومجيشُ الهمة، كان فيه المسلمون رهبانليلٍ فرسان نهار، محرزين فيه أعظم الإنجازات وأبهاها. أما الآن فقد بات لكلِّ حاكمٍعميلٍ هلال، ليمعن تمزيقاً بالمسلمين وصرفاً لهم عن وحدة جماعتهم. وبدلاً من الجدِّوالعطاء، حُوِّلَ رمضانُ إلى عطلة سنوية، أدمن الناس فيه الكسل والنهم وانتابهم فيهالخمول وكأنه شهر النوم في النهار والخدر والسهر في توافه الأمور إلى جوف الليل.

هكذا نلتفت لنجد رمضان شعيرةً مفرغة من أحكامها ومن تاريخها ومن ذاكرتها المضيئةبالعز والمجد والجاه. وهذا الإفراغ مقصودٌ منه تحويل الإسلام إلى دين كهنوتي لا أثرله في الحياة المراد للأمة عيشها. وهو ما يفسر انتقال عدوى تفريغ الإسلام من أحكامهوقدسية دلالاته إلى سائر أركان الإسلام وفروضه المتعلقة بالجماعة والمجتمع والدولةوالأمة. حيث بات الجهاد مختصاً بالنفس، وأما قتال العدو الكافر الصائل فهو إرهابٌمشجوب. وأما وجوب تغيير المنكر وإزالة الطغاة إنما هو إلقاء للنفس في التهلكة. وأماإقامة الإسلام في دولة الخلافة لحماية الأمة وإقامة الدين وعمارة الدنيا، فإنما هوضربٌ من الخيال، بينما الإذعان للغرب والاستسلام للواقع الذي تشمئز منه قلوب وعقولالأسوياء فهو غاية الكياسة ومنتهى الفراسة وهكذا.

أولم يئن بعد كل ذلك التاريخ المجيد الناصع لرمضان أن يعود إلى سابق عهده؟مضيئاً الجوانب المظلمة في حاضر الأمة القاتم، ومنيراً لها مستقبلها. ألم يئن الوقتأن يتحول رمضان إلى شهر توبة واستغفار لا شهر جرعة مكثفة من السفه الإعلاميوالسياسي والضغط الاقتصادي الخانق لإشغال الناس عما يصلح لهم أمر دينهم ودنياهم،شهر وحدة وعزة لا فرقة وذلة، شهر نصرٍ وظفرٍ لا شهر نكباتٍ وحسرات.

وبرغم كل ما نراه من صدّ عن استعادة رمضان العز والمجد والنصر والظفر والشعيرةالتي تجسد الشريعة بأمثل معانيها فإنه سيعود لا محالة، وعندها ستذرف العبرات، بلستسيل الدموع على الخدود طويلاً طويلاً، وسيكبَّرُ اللهُ حقا، وستضج المآذنبالتكبير والتهليل والتسبيح والدعاء، وستعود المساجد رياضاً للجنة ومراكزاً للعلموجامعاتٍ للعلماء، وسيمتطي الضباط والفرسان ركوبهم من جديد لمحاربة الأعداء لالاعتقال الدعاة، وستكون وسائل الاتصال والدعاية والإعلام مسخرة لتوعية الأمة وبثروح الإيمان فيها التي تنعكس طمأنينة ورضى وانكباباً على تسخير الدنيا لصالحالبشرية اكتشافاً واختراعاً وتيسيراً لعباد الله.

نعم سيعود رمضان ليكون منارةً جامعة مجسدة لمعاني الوحدة دافعة لوصل الخلق بالخالق في أسمى أشكال الوصال وأمتنها، وستخفق راية التوحيد وحدها في كافة ربوع دار الإسلام، لأنَّ موكب الدعوة إلى الله سائرٌ في طريقه رغم كل العراقيل والمعوقات والصعاب، ورغم كل القسوة والمعاناة والحرب الشعواء، فقد سكن الإيمان نفوس شباب مؤمنحقاً مسلمٍ حقاً باذلاً ما بين جنبيه ابتغاء مرضاة الله، كما رسخت مفاهيم النهضة في عقولهم واستقرت في قلوبهم، ليقوم هؤلاء بالمهمة المسماة بالمستحيلة فيجعلوها ممكنةبل حتمية التحقيق مع وعدٍ خالصٍ من الله في نصر من نَصَره وبَذَلَ المهج والأرواحفي سبيله، فحملوا الرسالة واضعين نصب أعينهم إقامة دولة الإسلام، خلافة راشدة على منهاج النبوة، لتجسد حياة تسر ساكن الأرض ويتباهى بها ملائكة السماء.

إنها لحظة نتشوق لرؤياك فيها يا رمضان، وتتشوق أنت يقيناً للقيانا فيها، فتمكثمعنا طويلاً آنذاك، حيث يتواصل الليل بالنهار، بالعمل والدعاء والعلم والجهادوالاجتهاد، في خير ما ينفع الخلق ويرضي الخالق، فنتعانق سويةً ونعيد لحظات التاريخالساحرة لتفخر بنا من جديد وتعيد فتح سجلك لتدون فيه قبسات من نور الإسلام وعظم أنجازات المسلمين.