محمود نجمتنا الأخيرة
الشاعر محمود درويش
برحيله تنهد عمارة شامخة في المشهد الشعري بل الثقافي العربي, هرب محمود درويش وتركنا لعصر ضاق بنا وضقنا به, عصر فقد كل شيء ماخلا بعض ثقافة كان الراحل عملاقها الأخير.
يمكن أن نقسم حياة محمود درويش إلى مرحلتين. الأولى قبل خروجه من الأرض المحتلة و الثانية بعد خروجه منها.
سوف أعرض في هذه المقالة بعض ملامح مرحلة محمود تحت الاحتلال. أما مرحلة خروجه من الأرض المحتلة فهي بحاجة إلى مقالة أخرى:
في مستهل السبعينات من القرن المنصرم كنا في المرحلة الثانوية وكانت بداية تذوقنا للشعر الحديث الذي كان في حينه إشكاليا, و قد انقسم متذوقو الشعر إلى معسكرين متعاكسين معه و ضده.
و كان لنا موعد مع شعر المقاومة و تعرفنا على قامات بدأت تسكننا رويدا رويدا : محمود درويش,سميح القاسم,توفيق زياد,و سالم جبران, كان محمود درويش يتميز عنهم بغنائية أكثر و مباشرة أقل.
لقد رأينا في البندقية الفلسطينية شعاع أمل,بعد سيل الهزائم,وكان المقاوم الفلسطيني المتلثم بالكوفية,قائدا جديدا يفتح لنا أبواب التاريخ بعد أن أغلقه علينا القادة المهزومون. كانت المقاومة موحدة خلف بندقيتها,فلم تكن ملتبسة كما هي الآن, حيث لا حدود لانفلات البندقية على أي هدف يمرّ أمامها عدوا كان أم صديقا.
*"عصافير بلا أجنحة 1960"
كان ديوانه الأول, لم أر فيه محمود درويش الذي أصبح نجما, في حياتنا فأعدت الديوان إلى المكتبة معتذرا عن اقتنائه, قال محمود عن ديوانه هذا:
" أول ديوان مطبوع لي لا يستحق الوقوف عنده كنت في سني دراستي الأخيرة (18) سنة, و كان تعبيرا عن محاولات غير متبلورة.
*" أوراق الزّيتون 1964"
البصمة الأولى لما يمكن أن نسميه بالدرويشيّة, تلمّس الشاعر فيه أسلوبه و طريقته و بصمته المميّزة, لنتركه يتحدّث عن ديوانه هذا:
"أما ديواني الثاني فإنني أعتبره البداية الجادّة في الطريق الذي أواصل السير عليه الآن".
كان للقصيدة الأولى في الديوان "سجل أنا عربي" دويا عاليا جعل الشعر الحديث تتغنّى به الشفاه على كافة المستويات و الأعمار.
ويسترسل محمود في الحديث عن ديوانه هذا:
"الطابع المميز لقصائد هذا الديوان هو التعبير الجديد بالنسبة لشعرنا, من الانتقال من مرحلة الحزن و الشكوى إلى مرحلة الغضب و التحدّي و التحام القضية الذاتية بالقضية العامة منتقلا من سمة الثوري الحالم إلى الثوري الأكثر وعيا,و تشيع في جو الديوان رائحة الريف وآلام الناس و التغني بالأرض و الوطن و الكفاح و الإصرار على رفض الأمر الواقع وحنين المشرّدين إلى بلادهم,و محاولة العثور على مبرر لصمود الإنسان أمام مثل هذا العذاب,كما ترون في هذه الأغنية مثلا:
وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخرة الموتى
وقالوا: أنت قاتل
***
أخذوا طعامه و الملابس و البيارق
ورموه في زنزانة الموتى
وقالوا: انت سارق
طردوه من كل المرافئ
أخذو حبيبته الصغيرة
ثم قالوا أنت لاجئ
***
يا دامي العينين و الكفين
ان الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات و لم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل
وقد استقبل الديوان برضا بالغ من القرّاء و النقاد و الشعراء الذين اعتبروه مفاجئا وقفزة في الشعر العربي في بلادنا".
"عاشق من فلسطين1966"
قال الراحل الكبير عن ديوانه هذا:
"إن طريقتي في التناول تختلف في النبرة, صوتي هنا أكثر انخفاضا و همسا و شفافية, تخلّصت من شرح تفاصيل الصورة و اكتفيت بالإشارة الموحية وحين أنظر إلى الأشياء لا أتصل بها فقط بل أتوغل فيها و تتوغل في. ولعل التزامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة و أنما صار نبضا في الدّم. و أعتقد أن التجربة التي خلقت عاشق من فلسطين فضلا على ما أدعيه القسم الأكبر من الديوان كتب في السجن أو عن السجن".
في هذا الديوان القصيدة الشهيرة المغنّاة أحن إلى خبز أمي, يقول في قصيدة عاشق من فلسطين
عيونك, شوكة في القلب
توجعني و أعبدها
و أحميها من الريح
و أغمدها وراء الليل و الأوجاع .. أغمدها
فيشعل جرحها ضوء المصابيح
و يجعل حاضري غدها
أعز علي من روحي
و أنسى بعد حين في لقاء العين بالعين
بأنا مرة كنا, وراء الباب اثنين
* "آخر الليل"
" لقد انتشر في العالم العربي على نطاق واسع لكن المسافة بينه وبين عاشق من فلسطين أوسع من المسافة الممتدة بين عاشق من فلسطين و أوراق الزيتون".
ويواصل الشاعر متحدّثا عن ديوانه:
"أشعر أن آخر الليل أكثر ظلالا و إيحاء و صار الرمز أغنى بالكثافة واستطعت أن أحقق الصداقة بين الحلم و الواقع بين سبب الرمز و مدلوله و تلقائية العلاقة بين الفكر و الوجدان و في الحوار القاسي أو الصراع بين الموت والحياة, انتصرت على الموت دون أن أجعل أيديولوجيتي تتدخّل ظاهريا.
لكن آخر الليل استقبل بفتور علني من أغلبية القراء في بلادنا ( ربما يقصد فلسطين) و قال لي عشرات المثقفين عد يا محمود إلى الوراء إذا كان هذا هو التقدم الفني فليتك لم تتقدم وقيل لي بشفقة ليتك لم ترحل عن القرية".
تعبّر قصيدة جندي يحلم بالزّنابق البيضاء عن هذا الاتجاه لديه في حوار مع جندي إسرائيلي لم تعتده الذهنية العربية أراد محمود أن نصادق هذا الجندي لكي ينفث لنا عن مكنوناته و عن تشظيه النفسي و أزماته الداخلية عن حالة الفصام ما بين انتماءاته المختلفة.
يحلم بالزنابق البيضاء
بغصن زيتون
بصدرها المورق في الماء
يحلم قال لي ـ بطائر
بزهر ليمون
ولم يفلسف حلمه
لم يفهم الأشياء
إلا كما يحسّها يشمّها
يفهم ـ قال لي ـ أن الوطن
أن أحتسي قهوة أمي
أن أعود في المساء
***
سألته: و الأرض؟
قال لا أعرفها
ولا أحس أنها جلدي ونبضي
مثلما يقال في القصائد
و فجأة رأيتها
كما أرى الحانوت و الشارع و الجرائد
سألته: تحبّها؟
أجاب: حبي نزهة قصيرة
أو كأس خمر أو مغامرة
ـ من أجلها تموت؟
ـ كلا
وكل ما يربطني بالارض من أواصر
مقالة ناريّة.. محاضرة
ويواصل الشاعر تطوير أدواته الشعرية في دواوينه التالية العصافير تموت في الجليل و حبيبتي تنهض من نومها وغيرهما.
كان الجمهور يتبرم من الرمزية التي يكثّفها الشاعر فينفضّ قليلا عنه لكنه سرعان ما يعود و يلتحم بشاعره, فكان الحب يرافقه حيثما ألقى شعره, فيحتشد الآلاف لسماعه, كان هذا الحب ثقيلا عليه, وهو الذي صرخ مرة قائلا أنقذونا من هذا الحب القاسي, حب ألقى عليه مهمات جسام, أقلها أنه لا يستطيع أن يعيش حياته الخاصة, لقد أصبح أسيرا لمشاعر الود التي تحفّه في حلّه و ترحاله, لقد أصبح رمزا لقضيته .
قال مرة:
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلا شهيدا أو شريدا
فكان شريدا وصار شهيدا, وقضى قبل أن يتحقق حلمه, حلم الأرض و الدولة, الدولة التي كتب إعلان تأسيسها.
فوداعا محمود درويش