نقد الأدلوجة المتطرفة
نقد الأدلوجة المتطرفة
بداية معرفيّة لخطاب الاعتدال
عبد الوهاب العريض
الوقت - قسم الدراسات والتطوير :
الدعوة للاعتدال والتوسط دعوة عمرها بعمر التاريخ الإسلامي ولربما وجدت أصولها في بدايات الخلافات الأولى التي نشبت في أوساط الجماعة الإسلامية، إثر وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فإذ كانت تلك الجماعة تعد نفسها، لمجتمع مثالي بعد أن تبلغت الدعوة، وتبنت الأسس، وآمنت بالعقيدة الجديدة، إذ بها تجد نفسها أمام متطلبات الحياة أمام ضرورات البحث والتجديد واتخاذ القرارات أمام الظروف الجديدة، وأمام متطلبات اللحظة.
كانت أولى المحطات هي مسألة الخلافة، وكانت تلك منطلق الخلافات اللاحقة التي طبعت المجتمع الإسلامي منذ أيامه الأولى. وأمام ضرورة مواجهة الواقع واجتراح الحلول ومعرفة العلاقة بين الديني والإنساني والتجاوب وضرورات الحياة اخترعت فكرة حقيقية مثالية قيل إنها كانت موجودة، وفترة انتقالية لحقتها، وفترة إنسانية لحقتها جل ما تسعى إليه هو محاولة العودة للفترة الأولى. وهكذا تسلسل الفكر الإسلامي والتأريخ الإسلامي حول فترة النبوة وفترة الخلافة الراشدة وما لحقتها. وكان الفترة الأخيرة هي التي ما فتئ المسلمون يعيشون بها وفيها وهي ما انفكت تطول وستستمر إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها. وأمام كل توتر من الجديد، وانزعاج من الطارئ، ومحاولة تفادي الإجابة بالإشارة إلى حداثة السؤال أو بدعته، تبرز المواقف على طرفي الشأن القائم، ويبرز التوسط ومحاولة الوصول إلى أمر مشترك.
وكان بالأمر أحياناً تمثيلاً مخترعا للفترات وللحلول النظرية، ومحاولة لتسويق تلك الحلول للنفس وأحياناً أخرى للآخرين، ومحاولة للهروب من مستلزمات اللحظة. ولكن المجتمع العربي والإسلامي قد استطاع ولقرون عدة أن يتفادى اتخاذ القرارات اللازمة، واستطاع أن يواصل مسيرة دامت لمئات من السنين دون أن يحدد إلى أين يود أن يسير، وما هو الموقف من التراث اليوناني والروماني الذي أوصل الإنسانية لتخوم عديدة، ثم تراجع أمام المسيحية أولاً والإسلام ثانياً، وكأن الإنسانية أرادت أن تستكمل أموراً في مسيرتها وتتسلح بأشياء وتبث الوعي في أوساط بشرية أوسع وأن تدخل ما سمي أحياناً بالدهماء والرعاع إلى مسيرة التاريخ قبل أن تتملك قوتها وتنطلق مجدداً. كان هذا أيضاً من مستلزمات التاريخ. كان ذلك أيضاً عامل يدفع بالوسطية ويمهد لها. كان ما يحدث في عواصم الإسلام يتفق ومرحلة بين بين يمر بها العالم بأجمعه. وكان لا بد للموقف بين الحدين المتطرفين من أن يجد ما يعطيه الأرضية البشرية والتبرير الحضاري، والأفق التاريخي، فكان هو المنتصر لقرون. في النص الذي بين يدينا هناك استنجاد بالوسطية في العصر الحديث لاستدعاء وسطية قديمة اضطرت أمام تغير الظروف، وتراجع في القدرة، أن ترتدي ثياباً واقية من التشدد، مع التساؤل حول كل الكلمات السابقة: حول ارتداء الثياب وكونها واقية وبعدها التشدد، ولكن الأهم هو أن كل ذلك هو ما تراءى كخيار دون أن تتطابق الرؤية بالضرورة مع الواقع المعاش.
؟ علي آل طالب
''عندما تصبح الكارزما الدينية أكثر قوة من النظام السياسي فإنها تحاول إخضاعه إن لم تستول عليه بالكلية. وبما أن الدولة بدورها تدعي لنفسها كارزما خاصة بها فان ذلك يدفع بالجهة الدينية إلى اعتبار الدولة عملا من عمل الشيطان.'' ماكس فيبر
الحديث عن تعزيز خطاب الاعتدال يعتبر من أوكد الينبغيات في هذه الفترة خاصة نحن أمام موجة الإطلاقية في الأحكام الجازمة ما انفكت طاغيةً على لغة الخطاب الديني، حتى تحول في كثير من الأحيان إلى أشبه ما يكون بالمرافعات المعلنة مع الآخر؛ المتغاير أيدلوجيًا أو فكريًا أو مذهبيًّا، وبالتالي تُطلُّ نُذر الشحن النفسي والمعرفي برأسها بين الفينة والأخرى نظرًا لمآلات سوء الفهم عند قراءة النصوص الدينية والتي تفضي إلى مبتغيات احتكار الحقيقة المطلقة، الأمر الذي قد يساهم في إعاقة مكنزمات التطور المعرفي وتعثر ركوب موجات المعاصرة. ومما لا يدع مجالا للشك بأن الخطاب الديني لا يزال مأزومًا لارتهانه بخزائن مركزية التراث بغثه وسمينه، ومن جهة أخرى تماهي هذا الخطاب مع المكونات السياسية وتصيراتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، دون تغافل للأفق المعرفي والعلمي والتكنولوجي والذي يُستطاع اختزاله في الإنسان الحاضر والمستقبل؛ في زمن لا يعترف بالتساكن أمام التقليد، ولا يقر بطأطأة الرأس استهلاكًا وعبودية وانكفاءً، بيد أن الأزمة لا تقف عند هذا البراديغم الظاهري فحسب؛ بل تتجاوزه إلى ما هو أكثر أهمية، فمن السهل أن نوجه سهام التخلف للموروث القديم بقضه وقضيضه، وليس بمعجز أن تحتشد الأفهام التفاكرية المتعددة لتصور الآخر كله .. متآمرًا ومخاتلاً على الإسلام والمسلمين، خاصة والبعض لم يعد يُفرق ما بين حقيقة المعرفة (=النص الديني) ومعرفة الحقيقة (=الفهم البشري للنص)، إذ يلعب العقل البشري دورًا كبيرًا في هذا مضمار تكوين الفهم، لكن هل كل عقل (=تفكير) يستطيع بلوغ الحقيقة !؟
ومن خلال هذا البحث أراني أسلط الضوء باتجاه تلك الجهة المسؤولة عن إدارة التفكير لدينا وعن اقترابها من الفهم الأخاذ الذي يُولي اهتمامًا بالغًا بإنسان اليوم حسب حاجاته واهتماماته، أي الفهم الذي لا يوارب الواقع ولا يقفز فوق المعارف المعاصرة ولا يتجاوز الزمن المتطور، فهذه إن لم تُناجز حجم النص فهي ولا شك بدونها لن تكتمل صورة الفهم المتحرك، وأظنني أختزله في العقل الحر، العقل العلمي المتحرر الذي لا يستكين أمام طمأنينة النصوص المدججة بالطاقة المختزنة (=الاستاتيكية) لينتقل بها إلى حيز الحركة والنشاط والتفريغ (= الديناميكية)، عقل يقف عند مواقيت الأنثروبولوجيا، وحقائق العلم المعاصرة، وفتوحات التكنولوجيا المتناهية الدقة، عقل يتنصر لنظريات العدل والعدالة والحريات المدنية والمساواة، وكل قيم السمو الكفيلة بأن تستحضر إنسانًا راقيًا ومناجزًا للمحايثات الحضارية، ولا نبالغ إن ورد الحصر لمعظم الأزمات التي تمر بها مجتمعاتنا الإسلامية اليوم؛ في البحث عن المعيار التفاكري الدقيق والواضح الذي يستقر في العقل؛ المستنطق علمًا وحكمًا وتطلعًا. بيد أن الذهنية الإسلامية والعربية ما تزال مرتهنة بعاملين مهمين:-
العامل الأول:
النفس المنجرحة بواقع الهزائم المتوالية والتي تكبدها الإنسان المسلم والعربي وعلى أكثر من صعيد.
العامل الثاني:
المستغلقات الذهنية وخور الإرادة أمام طود التحديث والحداثة، بالتالي نعود بالإنسان العربي القهقري مستهلكًا لا منتجًا.
من هنا يتأسس البحث المعني بتعزيز خطاب الاعتدال؛ محاولين - بقدر الإمكان - ألا يكون مساره يعود بنا للماضي بقدر ما هو السعي لأن يجعل من الحاضر محل مناجزة، ومنافسة، وإبداع، وبدوره يُحرّض إنسان اللحظة بتفكيره ووجدانه ليقرأ الواقع قراءة واضحة بحيث تؤهله لاستشراف المستقبل، إنسانٌ ليس مرهونًا لذاكرات تاريخية، دينية أو مذهبية أو فكرية، وغير منتسب إلى ماضٍ خالدٍ يناوره بالصمت، وإذا ما دعته الحاجة لاستنطاقه يظل يجتره بشكل تسطيحي ومبتسر، عندها لا غرو إن أصبح لسان الحال للخطاب الديني والسياسي في آن معًا معتصمًا بالنرجسية؛ أي النبرة الأيدلوجية المتعالية والتي لا تقترب من الواقع ومحدثاته إلا عبر رؤاه ومقولاته، عندها لا غرابة أن يتماهى الدين مع الدنيا فيصير الفهم مقدسًا، كما هو النص المقدس! تلكم الذهنية التي تختزن الهزائم وتنكفئ أمام الحياة المعاصرة سجالاتها ليس لها إلا أن تتمثل عصر النبوة والخلافة بكل دقائقه وتفاصيله، ومن يستطيع أن يعيب هذا الاحتماء!؟ فلا ضير في ذلك؛ لولا الفهم الملغوم، والتأويل الخاطئ الذي لا سبيل له إلا أن يستعدي الذات والآخر معًا، ويمرر كل ما هو من شأنه انتسابه للغلو والتطرف، في الوقت الذي لا يُستطاع التنكر إلى ما تختزنه النصوص الدينية في هذا المضمار فضلا عن الثقافة الإسلامية من نبذها للغلو والتطرف والإكراه والكراهية، ودعوتها إلى ثقافة التسامح والوسطية والاعتدال.
ولما تتمتع به المجتمعات العربية من قيم متعددة؛ الدين والتاريخ والجغرافيا والبيئة والعادات والتقاليد وغيرها يؤهلها أن تتبوأ الصدارة الاستراتيجية فيما لو أحسنت الأنظمة السياسية العربية اتخاذ تدابير تنموية جادة تبدأ بالإنسان نفسه وتنتهي به، إذ تبقى مؤثرة حين تتمكن من صوغ خزائن طاقتها في مواقف من شأنها أن تحدد ملامح خريطة التفكير بل وتنتج واقعًا قادرا على المناجزة، يتحقق ذلك إذا ما فطنت هذه المجتمعات مع التراث الديني من جهة والمعاصرة من جهة أخرى. ولا مندوحة من الذهنية المُسيجة بالدّين لا سيما أن التربية والنشأة تلعبان دورًا رئيسًا في ذلك، عندها إذا ما ساورنا التفكير الحر، وجلاء الرؤى لدينا فمن الطبيعي جدًا انحياز جانب كبير من حيوات الأدلوجة صوب المنغرسات الدينية في أعماقنا وضمائرنا، عندها يصبح من الصعوبة بمكان الإفلات منها بأي حال من الأحوال. ولئلا يتداعى للأذهان أي لبس من إدراك الفرق ما بين الخطاب الديني والخطاب العام، فنحن ومن خلال هذا البحث لا نضع حدًا فاصلا بينهما بل لا نعدو الصواب إن جاء القول بأن الخطاب الديني في مجتمعنا هو السائد على الخطاب العام إن لم يكن هو ذاته، والماكنة الإعلامية بأدواتها ووسائلها تشهد على خطاب مؤدلج يطغى على سائر الخطابات الأخرى المتعددة والتي تزخر بها المجتمعات العربية والإسلامية، إذن كان المقصد لتحري الفرق في النظرة المعيارية لا الوظيفية لهذا الخطاب، وهنا يتم استحضار تقاطع الحاجة الدينية والمصالح السياسية على الرغم من الضعف الواضح لعامل السياسة في ضبطه لآلية الخطاب الديني.
ولا يعني ذلك أن تتحكم السياسة في الدين أو أسبقيّة أحدهما للآخر بقدر ما هو القصد أن المبادرة للامتهان السياسي عادة ما يكون سريع البروز، كل ذلك من أجل توفير مناخ إيجابي يرفل بالتوافق والوفاق؛ ويضع الموازين القسط لأجل سبيل العيش المشترك والتعايش السلمي، والجنوح إلى إرساء مبادئ الحرية واحترام الإنسان لأخيه الإنسان، وبعبارة أخرى أن القرار السياسي باستطاعته أن يصيّر الأمور إلى ما يجعله أن يؤسس لمآلات ومواقف إعتدالية؛ يزيد من حالة الانسجام، ويقلل من حجم التشاحن والتشرذم بين أبناء المجتمع الواحد.
كيف نعزز خطاب الاعتدال في المجتمعات العربية!؟
وللإجابة لا بد من النظر العميق في آلية التفكير المعرفية ولزوميات الأبعاد الوجدانية التي تظل أشبه ما يكون بتراكم مهزوم تعيشه معظم الكيانات المؤثرة في هذا المجتمع، فإذا ما أردنا بلوغ ناصية الاعتدال في خطابنا العام بالضرورة القصوى أن يتم التأسيس لصياغة جادة يتبلور من خلال آليات التفكير المتوالدة عن حراك يشمل كافة مؤسسات صناعة الرأي العام المهمة والمؤثرة.
التراث ومعرفيّة تجلي الواقع المعاصر
الدخول في الحياة ورهاناتها يتطلب من إنسانها الراهن تفكير موازٍ سواء حين قراءته للتراث أو أثناء إصغائه للواقع؛ فالإنسان إذا ما أراد تنفس الحياة بكل معانيها الحيوية والحضارية بالضرورة أن يعود للتعامل مع التراث وهذا ما لا يختلف عليه العقلاء والمنصفون، لكن إلى أي تراث يعود هذا الإنسان!؟ وكيف يكون التعاطي معه!؟ وما قيمة إنسان اليوم إن كان همه التراث وحسب!؟ ولماذا نحن نعيش في هذه الحياة!؟ تساؤلات عديدة أشبعها المهتمون تتبعا وتحليلا، ولم تتوانَ معظم مراكز الدراسات والأبحاث في العالم من إخضاع التراث الإسلامي للمساءلة والنقد بل والتحليل في كيفية تعامل البعض معه. والاحتماء بالتراث أو الارتهان به لم يعد محل حصر واهتمام في الفضاء الإسلامي فحسب إنما أصبحت كهاجس عالمي خصوصاً بعد أن احتمى البعض خلف التراث ليمرر ثقافة الاستعداء للآخر أو يصدر ثقافة الكراهية والموت وغلواء المؤدلجات، من منطلق الاستفراد بقراءة - مقدسة - للتراث، يتم من خلالها تبرير العديد من رسائل الشحن السلبي بين أبناء المجتمع الواحد بكافة مكوناته الأيدلوجية والفكرية والثقافية، وكأنّ التراث حكرٌ فهمه وتفسيره على جهة ما بعينها، فلا اعتبار لتعدد الأفهام ولا اكتراث للضديات - هيغل ونظرية الضد- المعرفية، ثمة فرق ما بين النص وفهمنا إياه حسب هرمينوطيقا هيدغر وانطولوجيا غادامير ونسقيّة بحث القبض والبسط لدى سروش، مآلات تحول من أن يصبح الفهم البشري نصًا مقدسًا أو أن يُغلق الفهم فيكون واحدًا أو وحيدًا.
في هذا الصدد لا غرو إن جاء الإقرار بتعدد الاجتهادات الفهوم وذلك منوط بحركة العقل (=التفكير) والتي تتبدى في أشكال ومواقف متغايرة، من شأنها أن تُتَرجم فلسفة الاختلاف في الحياة؛ إذ ينظمها الإنسان بدوره على إيقاع الحيوية حيث الفضاء الرحب الناضح بالحرية؛ وكل ذلك يتم وفق بُنى العقيدة الراسخة، هذا الاستدعاء يسهم بلا شك في إعادة صياغة الأولويات في حياتنا الاجتماعية، خاصة والمجتمعات العربية تمتاز بأُطر فكرية ومذهبيّة متعددة، جدير بها أن يندغم في منظومة من القيم الاجتماعية المشتركة، وقد لا يتأتى الأمر إلا بالاستعداد للدخول في حزمة من الفهم العصري للدين والتراث والحياة، واتساق كل ذلك مع تطلعات الإنسان - الفرد والمجتمع - الراهنة من خلال تمشخص حقيقي للمعوقات الجاثمة على صدره. هذا يتطلب الوقوف على كأداء الأزمة والمتجلية في فوبيا إطلاقية الأحكام الجاهزة والتي تستحضر الكراهية والإحن؛ عندها وبعد أن يصاب المجتمع بالترهل في نظامه الداخلي يكون عرضة لأن يغرق في بحر من العداوات والانقسامات والتشذر بواقع ضجيج الفوضى؛ حتى يصل المجتمع إلى حالة أشبه ما يستحق وصفها بالتوحش الناعم!
ليس ثمة أدنى شك من أن استنطاق التراث بات من المسلمات الملازمة لأي شحذ فلسفي أو فقهي أو فكري، لا سيّما والعقلاء يتسالمون على مديات العلاقة الوثيقة بين كل ذلك ونظم الحياة الاجتماعية، لكن الأهم من ذلك هو نسق التفكير الذي ينبغي أن يقود هذه العملية، فبقدر ما يكون العقل متحررًا من المؤثرات بالضرورة يصل إلى قراءة مقاربة للواقع، قراءة يشعر فيها إنسان الوطن بأن الدين الإسلامي ليس محورًا للتلاقي فحسب، بل هو المؤسس والمحفز لخطاب معتدل يتدافع الناس إليه ومن خلاله. ومن هنا يُرسّخ الدين في الأعماق بدلا من أن يظل حبيسًا في الماضي أو مرتهنًا لأفهام طوباوية تحتكر مفاتيح تلغيز النص إلى جانبها، متغافلين بأن الدين الإسلامي لم يأتِ ليوقف حراك التأريخ أو أن يحصره في تابوات الذهنية المتحجرة، الدين الإسلامي هو الأفق المجنح الذي إذا ما حط على أرض التأريخ أرشد العقل المتحرر للأفضل والمتناغم مع الواقع، ولا مندوحة أن يرنو إلى وضع اشتراطات مُثلى مع كل افتراض تاريخي تكون بمثابة الرافعة لقراءة تقترب من الواقع، وتلازم تطلعات الإنسان، وإشاعة ثقافة الحياة، فمن الأيسر أن يسود تكييف الوعي مع مباني معطيات الحياة المتجددة والتي تقف مع الدين جنبا إلى جنب لئلا يكون الإنسان رهين الهامش من واقع يمتلئ ضجيجًا حضاريًّا.
ليست الدعوة أن تنزع المؤسسة الدينية إلى خطاب الاعتدال؛ كمعادل تعويضي حسب ما تقتضيه الحياة أو الواقع؛ بقدر ما هي من ناحية أن تتساوق واستجابة العقل المتحرر لقراءات متعددة للتراث، وإدراك فلسفة الحياة للإنسان من ناحية أخرى، ولو أمعنا النظر قليلا في مفهوم الاعتدال خاصة عندما يتماهى ومفاهيم الوسطية المتعددة، إذ أن المتتبع لمعاني الوسطية لا يستطيع إلا أن يعود إلى الآية الكريمة:- ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[ ويستحضر مدلولاتها والتي وإن تجاذب الباحثون أطرافها إلى معانٍ عدة، غير أنها لا تخرج عن وحي (الاعتدال في الاعتقاد والموقف والسلوك والنظام والمعاملة والأخلاق، وهذا يعني أن الإسلام بالذات دين معتدل غير جانح ولا مفرط في شيء من الحقائق، فليس فيه مغالاة في الدين، ولا تطرف أو شذوذ في الاعتقاد، ولا تهاون ولا تقصير، ولا استكبار ولا خنوع أو ذل أو استسلام وخضوع وعبودية لغير الله تعالى، ولا تشدد أو إحراج، ولا تساهل أو تفريط في حق من حقوق الله تعالى ولا حقوق الناس) حسب تعريف د. وهبة الزحيلي أو أنها (الوسط المعتدل بين طرفي الإفراط والتفريط) كما يراها الإمام الغزالي.
- عضو مركز آفاق للأبحاث والدراسات بالمملكة العربية السعودية .