أزمة القيادة أزمة عالمية
دراسة
لا يختصّ بها شعب دون آخر، ولا جماعة دون غيرها!
عبد الله عيسى السلامة
إن استعراض أسماء القادة والحكام والزعماء .. الذين يحكمون شعوبهم ودولهم ، اليوم ، والذن حكموا من سنين ، بل من قرون .. إن استعراض أسماءهم ، والاطلاع على أوضاعهم وملكاتهم وإمكاناتهم وقرارتهم .. إن ذلك كله يؤكّد صحّة القول ، بأن أزمة القيادة هي أزمة عالمية ، ليست خاصّة بشعب ، أو بأمّة ، أو بعصر ..!
1) القادة أنواع :
· القادة أنواع : منهم القائد العسكري ، والقائد الإداري ، والقائد السياسي ، والقائد الفكري ، والقائد الذي يجمع صفتين أو أكثر ، والقائد الشامل ، الذي تتحقّق فيه صفات عدّة !
· كما أن منهم القائد الحاكم ، والقائد القبلي ، والقائد الحزبي ، والقائد الشعبي ؛ على مستوى الحيّ أو المدينة !
· قد يكون القائد وراثياً ، وقد تأتيه القيادة عبر تفاعلات معيّنة ، في ظروف خاصّة ، سياسية واجتماعية .. يفرض نفسه من خلالها ، أو يختاره آخرون !
· قد توجد في القائد بعض صفات الزعامة، وقد لا توجد ، وقد تُصنع له ظروف معيّنة، ليكون زعيماً ، يستقطب قلوب الجماهير فتحبّه ، وأيديَهم فتصفّق له ، وحناجرهم فتهتف له !
2) صفات القادة :
* للقادة صفات معيّنة ، ذكر الباحثون كثيراً منها ! بعضهم ذكر عشر صفات من أهمّها . وكلما اجتمع للشخص أكبر عدد منها ، كان أكثر تأهيلاً من غيره ، للقيادة.. منها :
ـ الأخلاق الإنسانية الفاضلة ، المتّفق على سموّها ونبلها ، بين البشر العقلاء ، في سائر الأزمنة والأمكنة .. كالصدق ، والأمانة ، والإخلاص ، والحلم ، والحكمة ، والشجاعة ، والصبر ..
ـ المؤهّلات الخاصّة ، التي يحتاجها عمل القائد ، في مهمّته التي يتولاّها ! ومعلوم أن لكل نوع من القيادة ، مؤهّلات خاصّة به ! فالقائد الإداري ، يحتاج مؤهلات معيّنة للإدارة ، والقائد العسكري ، يحتاج إلى مؤهّلات ، تجعله قائداً جديراً ، ناجحاً في عمله ؛ كالخبرة العسكرية ، وحسن التخطيط ، والقدرة على إدارة الحروب بكفاءة ، وحسن اختيار القادة المعاونين ..! وكذلك القائد السياسي ؛ لا بدّ له من مؤهّلات ، تعينه على أن يكون قائداً سياسياً ناجحاً ، لاسيّما إذا كان حاكماً ! من أهمّها : العدل ، ومشاورة أهل الرأي والخبرة ، والقدرة على اكتساب محبّة الناس وثقتهم ! والحزم في موضعه ، والمرونة في موضعها ، والقدرة على الهيمنة على معاونيه ، وحسن توظيف طاقاتهم بالصورة الأمثل ، وفتح آفاق التفكير، ونوافذ الأمل ، لدى مرؤوسيه!
ـ قد توجد لدى فرد ما ، صفة من الصفات المطلوبة للقائد الناجح ، لكنها لا تكفي وحدها ، لتجعل منه قائداً عادياً ، لا ناجحاً ! كأن تكون لديه ملكة جيّدة ، في الخطابة أو الكتابة ، أو خبرة إدارية جيدة ، أو مؤهّل عسكري جيّد ، أو قدرة تربوية جيّدة ، أو ملكة جيّدة للاتصال بالناس وكسب ودّهم .. أو نحو ذلك ! لكن صفة واحدة من هذه الصفات ، لا تكفي .. كما لا تكفي مجموعة صفات منها ، إذا غابت الصفات الأخرى الأساسية ! فربّما كان من يملك بعض هذه الصفات ، عاجزاً عن جمع رجلين تحت قيادته ! وربّما كان يعاني من بعض الطباع غير الحميدة ، المتأصّلة في نفسه ، ولا يستطيع التخلص منها ، كالجبن الشديد ، أوالشحّ الشديد ، أو النزق ، أو الشرود الذهني ، أو الكِبْر، أو ضعف الثقة بالنفس .. أو نحوذلك ، ممّا يضعف قدرة الفرد على قيادة أتباعه ، بلهَ قيادةَ الناس !
2) حظوظ الشعوب والأمم ، من القيادات ، عبر التاريخ :
* أثبت تاريخ الأمم والشعوب والدول ، عبر التاريخ المكتوب ، وعبر المشاهدات الحيّة ، التي يراها البشر ، اليوم ، أن :
ـ القادة الأفذاذ ، في كل أمّة أو شعب ، وفي كل تخصّص .. هم نوادر !
ـ وأن القادة الممتازين ، والجيّدين جداً ، هم قلائل جداً !
ـ وأن القادة الجيّدين ، هم قلائل !
ـ أما القادة المتوسّطون ، فهم كثيرون !
ـ وأما القادة الضعاف ، فهم كثيرون جداً !
3) نماذج :
* نماذج من القادة العسكريين الأفذاذ ، على مستوى التاريخ الإنساني :
ـ خالد بن الوليد في التاريخ الإسلامي .
ـ نابليون بونابرت في التاريخ الفرنسي .
ـ رومل في التاريخ الألماني الحديث ، في الحرب العالمية الثانية .
ـ مونتغمري في التاريخ البريطاني الحديث ، في الحرب العالمية الثانية .
ـ جياب في التاريخ الفيتنامي الحديث ، في الحرب الفيتنامية ضدّ أمريكا .
ـ موشي دايان في التاريخ الصهيوني الحديث .
* نماذج من القيادة الشاملة ، على مستوى قيادات الدول والشعوب :
ـ عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي ، ومحمد الفاتح.. في التاريخ الإسلامي .
ـ كسرى أنوشروان في التاريخ الفارسي القديم ، والخميني في التاريخ الفارسي الحديث .
ـ اسكندر المقدوني في التاريخ اليوناني القديم .
ـ جوستنيان في التاريخ الروماني القديم .
ـ لينين في التاريخ الروسي الحديث .
ـ ماوتسي تونغ في التاريخ الصيني الحديث .
ـ المهاتماغاندي في التاريخ الهندي الحديث .
ـ تشرشل في التاريخ البريطاني الحديث .
ـ ديغول في التاريخ الفرنسي الحديث .
ـ ين غورون في التاريخ الصهيوني الحديث .
ـ الملك عبد العزيز آل سعود في التاريخ العربي الحديث .
* نماذج من القيادات الحزبية ، وقيادة حركات التحرّر من الاستعمار والطغيان :
ـ لينين في التاريخ الروسي الحديث ، قبل الاستيلاء على الحكم في روسيا .
ـ ماوتسي تونغ في التاريخ الصيني الحديث ، قبل الاستيلاء على الحكم في الصين !
ـ كاسترو في التاريخ الكوبي الحديث ، قبل الاستيلاء على الحكم في كوبا .
ـ عزالدين القسام في التاريخ السوري الحديث .
ـ عمر المختار في التاريخ الليبي الحديث .
ـ عبد الحميد بن باديس في التاريخ الجزائري الحديث .
ـ حسن البنا في التاريخ العربي الحديث ، في مصر.
* مهمّات القائد السياسي ( والقيادة السياسية هي أمّ القيادات ) :
للقائد مهمّات عدّة ، من أهمّها أن يقود الجماهير نحو أهدافها ..
وبناء على ذلك ، تبرز نقاط عدّة ، من أهمّها :
ـ أن يحسن القائد تحديد الأهداف : الكبيرة والصغيرة ، الصعبة والسهلة ، القريبة والبعيدة ، الخطيرة والعادية .. ويحسن ترتيبها ، وتقديمها في الاهتمام ، حسب قائمة أولويّات دقيقة ، وإحساس عظيم بالمسؤولية عن هذا الترتيب ، الذي يؤثّر في حياة الأمّة تأثيراً كبيراً ، في حال الخطأ والصواب ! وذلك ، بالتعاون مع عقلاء الجماعة التي يقودها ، وأصحاب الرأي والاختصاص والخبرة فيها ، وحسب نظام الشورى ، الذي اختارته لنفسها ..!
ـ بعض القادة الضعاف ، أو الفاسدين .. يرتّبون أولويات تبنّي الأهداف ، والسعي إلى تحقيقها ، بطرق خاطئة ، أو مرتجلة ! فيقدّمون المهمّ على الأهمّ ، وغير الخطير على الخطير ، وغير المستعجل على المستعجل ..!
ـ وبعض القادة يجعلون من طموحاتهم الفردية الخاصّة ، أهدافاً للجماهير، فيقودونها نحو مغامرات مهلكة ، لتحقيق بعض رغباتهم ، أو نزواتهم ..أو للتنفيس عن أحقادهم، تجاه هذه الدولة أو تلك ، وضدّ هذا الحاكم أو ذاك !
ـ بعض القادة يجعلون أهمّ عمل لهم ، هو المحافظة على كراسي حكمهم .. ويسخّرون إمكانات الدولة ، كلها ، لتحقيق هذا الهدف !
ـ الحديث عن الأهداف ، يقود إلى الحديث عن المرجعيّات ، التي تحكم تحديد الأهداف ! فبعض القادة المستبدّين ، يَعدّون أنفسهم مرجعيات كاملة ، مستقلة .. لاتحتاج إلى مشاورة أحد من الأمّة ! وبعضهم يرجع إلى المؤسّسات التي تضبط حياة الدولة ، وسلوكات حكّامها وأفرادها ! وبعضهم لهم أيديولوجيات معيّنة ، يتحرّكون على ضوئها ، ويحرّكون الجماهير معهم ، لتحقيق الأهداف التي تمليها هذه الأيديولوجيات !
ـ كثيرون هم القادة ، الذين دمّروا شعوبهم ودولهم ، بنروات حمقاء ، داخلية أو خارجية ، في التاريخ القديم والحديث ! ومانحسب نيرون ، الذي أحرق روما ، وجلس يستمتع بمنظر اللهب المتصاعد منها ، غائباً عن أذهان من عرفوا شيئاً من تاريخ الأمم والشعوب !
خلاصات :
ـ القيادات الفذّة ، لا تصنع صناعة ، بل هي استعدادات ومؤهّلات شخصية ، لأفراد معيّنين .. تجد مناخاً يصقلها ، و يحرّضها ، ويدفعها إلى البروز والارتقاء !
وقد ورد في الحديث النبوي : الناس معادن ؛ خياركم في الجاهلية ، خياركم في الإسلام .. إذا فقهوا !
والشاعر يقول :
لا يَصلح الناسُ فوضى ، لا سَراةَ لهمْ ولا سَراة ، إذا جهّـالهمْ سادوا
ـ لو كانت الشعوب والمجتمعات ، والحضارات والثقافات ، هي التي تصنع الزعامات ، كما تنتج مصانع السيارات ، مئات الآلف منها كل عام .. لصنعت زعامات فذّه بالملايين !
فلو كانت فرنسا ، هي التي صنعت ديغول ، لصنعت مئات الآلاف من أمثاله !
ولو كانت الهند ، هي التي صنعت المهاتما غاندي ، لصنعت الملايين من أمثاله !
ولو كانت الصين ، هي التي صنعت ماوتسي تونغ ، لصنعت الملايين من أمثاله !
ولو كانت جماعة الإخوان المسلمين ، هي التي صنعت حسن البنّا ، لصنعت المئات ، أو العشرات من أمثاله !
ـ أسباب العجز البشري ، عن صناعة الزعامات ، متنوّعة .. من أهمّها :
*) ماذكِر آنفاً ، من أن الملكات الخاصّة ، والاستعدادات الفطرية ، والظروف الاجتماعية والسياسية ، وغيرها .. تسهم ، متضافرة ، في تشكيل ملامح القائد ، وإبرازه في الساحة ! وقد تتشكّل ملامحه ، ولا تتاح ظروف مناسبة لإبرازه ! فيظلّ في الزوايا المعتمة ، حتى يموت !
*) المناخات السياسية ، الدكتاتورية منها والديموقراطية ..عاجزة عن صناعة القادة ، لأسباب تتعلق بكل منها .. كما تتعلق بطبائع البشر؛ من حيث كونهم أفراداً ، ومن حيث كونهم أعضاء في تجمعات بشرية..
- فالمناخ الديكتاتوري يقمع الكفاءات المميّزة ، ويحجبها عن النور، كيلا تنافس الحكّام المستبدّين ، الذين يحرصون على التفرّد والتميّز! والرجال الذين يصطنعهم الحاكم المستبدّ ، إنّما يصطنعهم لنفسه ، ليدوروا في فلكه ، ويخدموا سياساته ! فهو يدني منهم من يشاء ، ويقصي من يشاء .. وفقاً لمصلحته ، لا لمصلحة الوطن والشعب !
- والمناخ الديموقراطي تتنافس فيه كتل بشرية ، قلما يميّز أكثرها ، بين الكفاءة الحقيقية والكفاءة الزائفة ! وتقودها نخب تتنافس على كسب تأييدها .. وربّما كان أكثر هذه النخب ، من الأنواع الزائفة ، التي تجيد المكر والخداع والنفاق ، وحسن التملق للجماهير، لترفعها إلى مواقع القيادة ! وهي ليست حريصة على أن تصنع قيادات حقيقية ، تنافسها في ساحة العمل السياسي ، وتصادر منها المناصب ، بطوعها واختيارها ! أمّا الحالات النادرة ، التي يحرص فيها حاكم فرد ، على صناعة زعامات مؤهّلة ، في بلاده .. فلا يقاس عليها ! وهي ، فيما نعلم ، شديدة الندرة ، في حياة المجتمعات البشرية ! وهاهي ذي تجارب الأحزاب ، الديكتاتورية والديموقراطية على حدّ سواء ، ماثلة أمامنا .. نراها صباح مساء ، في أرقى دول العالم ، وأكثرها تمدناً وتحضراً .. ماكان منها ديموقراطياً ، وماكان دكتاتورياً ، وما كان بينَ بينَ !
*) فلسفة أفلاطون النظرية ، في صناعة الزعامات ، في كتابه المشهور الجمهورية.. عبر عزل الأطفال ، وإخضاعهم لامتحانات متعدّدة ، يصل في نهايتها الفلاسفة ، إلى قيادة الدولة ..هذه الفلسفة ظلت فلسفة (أفلاطونية!) ، غير قابلة للحياة ! والتجارب العملية ، التي قامت بها بعض الأحزاب المعاصرة ، كالحزب النازي في ألمانيا ، والحزب الشيوعي في روسيا .. لم تفلح في صناعة زعامات ؛ بل في صناعة كوادر بشرية حزبية ، هنا وهناك.. تخدم الحزب ، وتسبّح بحمد قائده الأعلى، الذي قد يصل إلى موقعه ، بالمكر والخديعة ، والتسلق على أكتاف رفاقه ، والوشاية بهم ، والغدر بمن ينافسه منهم! ومن باب أولى ، ألاّ يسمح نظام الحزب الديكتاتوري، ببروز زعامات منافسة للقادة الحاكمين .. حتى لو حرص الحزب ، على إنشاء كوادر لها أهليات معيّنة !
*) الشروط التي وضعها بعض علماء المسلمين ، للحاكم المسلم ، ومنها : الذكورة ، والبلوغ ، والحرية ، وسلامة الحواس ، والعقل ، والعدالة ، والعلم الشرعي ، وغيرها.. ليست هي صفات القائد المؤهّل ، بالضرورة ! بل هي الحدّ الضروري ، الذي لايصحّ أن يكون المرء حاكماً ، دون توافره ! أمّا الصفات الأخرى ، التي يحتاجها القائد المؤهّل المميّز.. فالحديث فيها مختلف ! وأمّا صناعة القادة ، فلا نعلم أن أحدا من علماء المسلمين القدماء ، تعرّض لذكرها ! وأمّا الصفات التي وردت في سير بعض القادة العظام ، من حكّام المسلمين ، الذين أنجزوا للأمّة أموراً عظيمة.. فإنّما هي مؤشّرات ، يمكن الاستئناس يها ، ووضعها في حقول الدراسات النظرية.. ليفيد منها الباحثون في أمور القيادة والقادة .. بصفتها نماذج مميّزة ، ضمن ظروفها وسياقاتها التاريخية .. يمكن الإفادة من تجاربها ، ضمن ظروف مشابهة !