الطريق إلى القدس الشريف
د. فوّاز القاسم / سوريا
حلقة (1)
فلسطين هي أرض عربية مباركة ، شرّفها الله فجعلها مهبطاً لوحيه ، وموئلاً لأنبيائه ورسله ، وذلك قبل أن يظهر اليهود على وجه المعمورة بآلاف السنين ، فقد سكنها أبو الأنبياء ، إبراهيم الخليل ، وابن أخيه لوط عليهما السلام ، يوم هاجرا إليها من العراق ، وذلك في القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، وكانت تُعرف آنذاك ببلاد كنعان ، نسبة إلى أحد أجداد العرب القدماء .قال تعالى في كتابه المبين ، وهو يتكلّم عن إبراهيم ( ع ) : بسم الله الرحمن الرحيم (( ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ، ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلةً وكلاً جعلنا صالحين )) الأنبياء ( 71 ) .
وهو الذي أنشأ فيها مع أبنائه وأحفاده ، المسجد الأقصى المبارك ، الذي هو ثاني رمز من رموز التوحيد ، يضعه في الأرض بعد أن أنشأ مع ولده إسماعيل ( ع ) ، الكعبة المشرّفة ، في مكّة المكرّمة ، وبينهما أربعون عاماً .
ومنذ ذلك التاريخ السحيق ، ظلّت فلسطين عربية مسلمة ، ترفرف عليها رايات التوحيد الحنيفية السمحة ، والتي هي بالطبع رايات الإسلام الخالد ، الذي هو دين كل الأنبياء والمرسلين ، من لدن آدم ، إلى محمّد ، بمن فيهم أبو الأنبياء ، وخليل الرحمن ، إبراهيم وأولاده وأحفاده ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . قال تعالى مخاطباً الرسل جميعاً : بسم الله الرحمن الرحيم : (( يا أيها الرسل ، كلوا من الطيبات ، واعملوا صالحاً ، إني بما تعملون عليم وإنَّ هذه أمّتكم أمّة واحدة ، وأنا ربكم فاتقون )) المؤمنون ( 52 ) .
فإبراهيم ( ع ) كان حنيفيّاً موحّداً ، ودينه هو الإسلام ، قال تعالى موضّحاً هذه الحقيقة : بسم الله الرحمن الرحيم (( ما كان إبراهيم يهودياً ، ولا نصرانياً ، ولكن كان حنيفاً مسلماً )) آل عمران ( 65 ) .
ولما طلب منه ربه أن يُسلم ، استجاب لأمر الله ، وأعلن إسلامه من فوره ، فقال تعالى مسجلاً له هذه المبادرة الكريمة : بسم الله الرحمن الرحيم (( إذ قال له ربه أسلم ، قال : أسلمت لربّ العالمين )) . البقرة ( 130 ) .
ولذلك فقد اعتبر القرآن ، أن أحسن الناس ديناً ، هو المتّبع لملّة إبراهيم خليل الرحمن ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم (( ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله ، وهو محسن ، واتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً )) النساء(125).
ومن الجدير ذكره أن إبراهيم ( ع ) نفسه هو الذي سمَّانا المسلمين .
قال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( ملّة أبيكم إبراهيم ، هو سمّاكم المسلمين )) الحج (78) .
وكذلك ولده إسماعيل (ع) ، كان مسلماً أيضاً ، ولقد مدحه الله تعالى ، وهو يساعد أباه الخليل ( ع ) في بناء الكعبة المشرّفة ، أول بيت وُضع في الأرض لتوحيد الله ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم (( وإذ يرفع إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ ، وإسماعيلُ ، ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السميع العليم ، ربّنا واجعلنا مسلِمَيْنِ لك ، ومن ذرِّيتنا أمّة مسلمة لك )) البقرة (127) .
وكذلك كان ابنه اسحاق ، وحفيده يعقوب ( الذي هو نفسه إسرائيل ) عليهما السلام ، مسلِمَيْنِ أيضاً ، ولقد أوصاهما إبراهيم (ع) ، بالإسلام ، فقال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( ووصّى بها إبراهيمُ بنيهِ ، ويعقوبُ ، يا بَنِيَّ ، إنَّ اللهَ اصطفى لكم الدينَ ، فلا تموتُنَّ ، إلا وأنتم مسلمون )) البقرة (132) .
وكذلك كان أولاد يعقوب الاثني عشر ، الذين هم بنو إسرائيل ، بمن فيهم يوسف عليه السلام ، مسلمين أيضاً، ولقد سجل القرآن العظيم هذه الحقيقة الراسخة ، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم (( أم كنتم شهداءَ ، إذْ حضرَ يعقوبَ الموتُ ، إذْ قال لبنيهِ ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا : نعبدُ إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ، ونحن له مسلمون )) البقرة ( 133) .
وكذلك كان الأخَوان الكريمان ، موسى وهارون ، عليهما السلام _ اللذَيْنِ جاءا من نسل بني إسرائيل _ مسلِمَيْنِ أيضاً ، ودعوتهما دعوة التوحيد الخالص ، وهو الإسلام ، قال تعالى في قرآنه العزيز :
بسم الله الرحمن الرحيم (( وقال موسى : يا قومِ ، إن كنتم آمنتم بالله ، فعلى الله توكّلوا ، إن كنتم مسلمين )) يونس (84) .
ولقد كان داوود عليه السلام ، الذي هو من أعظم رسل وملوك بني إسرائيل ، مسلماً موحِّداً ، ولقد بدأ حياته الكريمة جنديّاً مجاهداً في سبيل الإسلام ، قال تعالى في كتابه المبين : بسم الله الرحمن الرحيم
(( ولمّا برزوا لجالوتَ وجنوده ، قالوا ربّنا أفرغ علينا صبراً ، وثبِّت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين، فهزموهم بإذن الله ، وقتل داوودُ جالوتَ ، وآتاه اللهُ الملكَ والحكمةَ ، وعلَّمه مما يشاء )) البقرة(250) .
ولقد أنشأ داوود (ع) في فلسطين الحبيبة ، حكماً إسلامياً ، وليس يهوديّاً ، وأوجد فيها دولة إسلامية ربّانية هادية ، وهو أول من تبرّأ من الكفار والمنحرفين _ وإن كانوا من بني إسرائيل _ ولعنهم بنصِّ القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم (( لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل ، على لسانِ داوودَ وعيسى بنِ مريمَ ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهَون عن منكرٍ فعلوه ، لبئس ما كانوا يفعلون ))المائدة (78).
ولقد كان سليمان بن داوود عليهما السلام ، مسلماً كذلك ، ولقد ورث دين أبيه وملكه وسلطانه ، وبلغت الحضارة الإسلامية الفلسطينية في عهده أوج عظمتها ، حتى امتدّ سلطانه الإسلاميُّ إلى اليمن ، ولذلك عندما دعا سليمان (ع) ، ملكةَ سبأٍ ، دعاها وقومَها ، إلى الإسلام ، لا إلى اليهوديّة ، وهذا هو نصُّ رسالته التي حملها الهُدْهُدُ إليها : (( بسم الله الرحمن الرحيم ، ألا تعلوا عليَّ ، وأتوني مسلمين )) النحل (30 ) .
ونؤكد هنا ، على أن لفظ (( بسم الله الرحمن الرحيم )) ، هو جزءٌ لا يتجزّأ من الرسالة الكريمة .
ولعلَّ من المفيد أن نؤكّد هنا ، بأن الهيكل الذي بناه سليمان (ع) ، بأمر من ربِّه ، لم يكن هيكلاً يهودياً ، ولم يكن بناؤه لأغراض عنصرية أو طائفية أو قومية ، كما يحاول الصهاينة أن يصوّروه اليوم ، إنما بناه لعبادة الله وحده وطاعته وتوحيده ، ولهذا فقد ردّ الله تبجّحات اليهود _ الذين طالما ادّعوا زوراً وبهتاناً ، بأنهم شعبُ الله المختار ، وأنهم أبناءُ الله وأحباؤه ، وأنّهم ورثةُ إبراهيم وإسحاق وإسرائيل ، وأبناءهم وأحفادهم من أنبياء الله ومرسليه ، سلام الله عليهم أجمعين ، وقد بدّلوا دينهم ، ونقضوا شريعتهم ، وغيّروا منهجهم _ وبيّن لهم ، بأنَّ وارثي إبراهيم (ع) الحقيقيين ، هم المسلمون أتباع النبيّ العربيّ الخاتم ، محمّد صلى الله عليه وسلّم ، لأن الوراثة الحقيقيّة للأنبياء ، هي وراثة الدين والعقيدة والأخلاق ، واليهود _ حتى وإن كان بعضهم ينتمي إلى إسرائيل (ع) نسباً _ إلا أنهم أبعد خلق الله عن منهج الأنبياء ، بل هم الأعداء الحقيقيّون في هذه الأرض لكلّ قيم الأنبياء ومبادئهم وأخلاقهم . قال تعالى موضّحاً هذه الحقيقة : بسم الله الرحمن الرحيم (( قل يا أهل الكتاب : لمَ تحاجُّون في إبراهيم ، وما أُنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ، أفلا تعقلون !؟ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علمٌ ، فلمَ تحاجُّون فيما ليس لكم به علم ، والله يعلم ، وأنتم لا تعلمون ، ما كان إبراهيم يهوديّاً ، ولا نصرانيّاً ، ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين ، إنَّ أولى الناس بإبراهيم ، لَلَّذين اتبعوه ، وهذا النَّبيُّ ، والذين آمنوا ، والله وليُّ المؤمنين )) آل عمران (65) .
وهكذا ، فقد أكد القرآن ، والتاريخ ، والواقع ، وراثة الأمة العربية الإسلامية منذ مبعث النبيِّ الأميِّ ، محمّد صلى الله عليه وسلم ، لتراث الأنبياء والمرسلين ، بمن فيهم أنبياء بني إسرائيل أنفسهم ، فلقد روى الإمام مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة ( رض ) ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفس محمّد بيده ، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار )) .
ومن الجدير بالذكر هنا ، أن القرآن العظيم ، كان قد أطلق على بني إسرائيل ، اعتباراً من العهد المدني ، أي بعد هجرة النبيّ ( ص ) إلى المدينة المنوّرة ، اسم ( اليهود ) ، وهي الكلمة التي لم ترد إلا في القرآن المدني، حيث وردت ثماني مرات ، كلها في معرض الذم ، وليس المدح .
وعندما يلغي القرآن الكريم ، عن اليهود اسم بني إسرائيل ، بعد أن كفروا وبدّلوا وانحرفوا ، فإنه يكون بذلك قد جرَّدهم من الوراثة الحقيقية لإبراهيم وإسرائيل عليهما السلام ، حتى ولو كان بعضهم من نسلهما فعلاً ، لأن الوراثة الحقيقية لهؤلاء الأنبياء الكرام _ كما ذكرنا _ ليست وراثة الدم والنسب ، بل وراثة الدين والعقيدة والمنهج والأخلاق ..
ومن هنا ندرك فداحة الخطأ الذي يقع به بعض الكتّاب والمفكّرين والسياسيين عندما يطلقون على شراذم اليهود الذين يحتلون فلسطين الحبيبة اليوم ، اسم ( دولة إسرائيل ) .!!! ونبيّ الله إسرائيل ، الذي هو نفسه يعقوب بن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم ، عليهم صلوات الله وسلامه ، بريء منهم ومن كفرهم و من غدرهم وشرورهم إلى يوم الدين ...
حلقة ( 2 )
كنا قد خلصنا في الحلقة الماضية ، إلى أن الوارثين الحقيقيين للقدس الشريف ، هم المسلمون المجاهدون ، أتباع النبيِّ الخاتم ، محمّد صلى الله عليه وسلّم ، لأنهم هم ورثة الدين الحقّ ، والتوحيد الخالص ، بعد أن نكل عنه الآخرون ، وحرَّفوه وبدَّلوه
ولقد ترجم المسلمون المجاهدون ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، هذه الحقيقة الراسخة ، إلى واقع عمليّ ، يوم خرجت جحافلهم المظفّرة _ بعد أن سحقت الشرك ، واقتلعت اليهوديّة من جزيرة العرب _ فانساحت شمالاً ، حتى وطئت بحوافر خيلها تربة الشام ، واقتلعت الكفرة الرومان من أرض فلسطين ، وطهَّرت المسجد الأقصى من رجسهم ودنسهم ، لترفرف عليه من جديد رايات التوحيد الخفّاقة .
وكان المسلمون المجاهدون ، قد تلقّوا إشارة الزحف هذه ، من رسولهم وقائدهم الأعظم ، محمّد صلى الله عليه وسلم ، يوم أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وصلى فيه إماماً بجميع الأنبياء والمرسلين ، وذلك قبل أن يُعرجَ به إلى السماوات العلا ، ولقد كانت هذه الواقعة المباركة ، إشارة كافية بأفضلية الرسول الكريم ، محمّد صلى الله عليه وسلّم ، على جميع الأنبياء والمرسلين ، ووراثة أمته المختارة لرسالتهم وتراثهم ومنهجهم ...
ثم دارت عجلة الزمن دورتها ، وعادت شراذم من اليهود لتحتل المسجد الأقصى المبارك ، مستغلّة تزوير حقائق التاريخ ، ودعوى الانتساب إلى أنبياء الله ، إبراهيم وإسحاق وإسرائيل عليهم السلام ، من جهة ، وضعف بعض العرب والمسلمين ، وابتعادهم عن دينهم ، وعجزهم عن حماية مقدَّساتهم ، من جهة أخرى ..
ولكن الله أنبأنا في قرآنه المعجز ، بأن هذا العلوّ اليهودي الجديد ، إنما هو علوٌّ مؤقت ، سببه ضعف حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ، وضعف آثاره وتطبيقاته في سلوكهم وواقعهم ، وغاية ما يمكن أن يفعله اليهود اليوم ، هو أن يلحقوا بعض الأذى بالمسلمين ، أما الغلبة النهائية ، فهي للمؤمنين المجاهدين ، من العرب والمسلمين ، وارثي رسالات الأنبياء والمرسلين ، من أمة النبيّ الخاتم ، محمّدٍ صلى الله عليه وسلّم ...
قال تعالى مخاطباً هذه الأمة الوارثة : بسم الله الرحمن الرحيم (( كنتم خير أمة أُخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله ، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم ، منهم المؤمنون ، وأكثرهم الفاسقون ، لن يضرُّوكم إلا أذىً ، وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ، ثم لا ينصرون ، ضُرِبت عليهم الذِّلةُ أينما ثُقِفوا ، إلآ بحبلٍ من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله ، وضربت عليهم المسكنة ، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصَوا وكانوا يعتدون )) آل عمران (110)
ولقد حدّد القرآن الكريم ، في سورة الإسراء ، معالم الصراع العربي الإسلامي مع اليهود ، فقال تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم (( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ، لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مرَّتين ، ولَتَعْلُنَّ علوَّاً كبيراً ، فإذا جاء وعدُ أُولاهما ، بعثنا عليكم عباداً لنا أُولي بأس شديد ، فجاسوا خلال الديار ، وكان وعداً مفعولاً ، ثمَّ رددنا لكم الكرَّة عليهم ، وأمددناكم بأموالٍ وبنينَ ، وجعلناكم أكثر نفيراً ، إن أحسنتم ، أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها ، فإذا جاء وعد الآخرة ، ليسوؤوا وجوهكم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرَّة، ولِيُتَبِّروا ما عَلَوْا تتبيرا )) الإسراء ( 4_9 ) .
ومن يتأمل هذه الآيات المعجزات ، يجد في كل حرف منها معنى ، وفي كل كلمة مغزى ، ولْنقف مع أهم المحطَّات فيها :
(( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب )) .
نلاحظ في هذه الآية ، أن اليهود يعلمون مصيرهم النهائي على أيدي المسلمين ، من خلال إخبار الله لهم في كتابهم التوراة ، قبل أن تناله يد التزوير والتحريف من قبل أحبارهم ورهبانهم .
ونلاحظ أيضاً أن السورة مكيّة ، والقرآن المكي كان لا يزال يسمي اليهود ، ببني إسرائيل ، لأن الإسلام الخاتم على يد النبيّ الخاتم ، لم يكن قد عُرض عليهم بعد ، أما بعد الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة المنوّرة ، فقد أطلق القرآن عليهم اسم ( اليهود ) ، لأنهم كانوا قد كذّبوا رسول الله ( ص ) ، ورفضوا الدخول في دينه ..
(( لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مرَّتين )) .
إن الإفساد في الأرض هو من أهم صفات اليهود وخصائصهم ، وتاريخهم يشهد بذلك ، ولكنَّ المتعلّق بالمسلمين ، إفسادَيْن رئيسيين سنعرض لهما لاحقاً ..
(( ولَتَعْلُنَّ عُلُوَّاً كبيراً )) .
يقدّم لنا القرآن العظيم كشفاً معجزاً ، على التلازم المطلق بين حكم اليهود ، وبين علوّهم وإفسادهم في الأرض وهذه حقيقة لا يستطيع أحد أن يماري فيها ، ولقد شهد أبناء جيلنا من إفسادهم ما يدوّخ الرؤوس .
(( فإذا جاء وعدُ أُولاهما )) .
وهو موعد الإفساد اليهودي الأول ، الذي نرجّح أنه كان قد حدث في الجزيرة العربية ، إبّان مبعث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيها ، حيث استفاضت كتب المغازي والسِّيَرْ ، بأخبار إفساد اليهود هناك ، سواء قبل البعثة الشريفة ، حيث كانوا يحتكرون التجارة والأموال ، وينشرون الربى والفواحش ، ويؤلّبون بعض القبائل العربية على بعض ، ليعيشوا هم على صراعاتهم وتناقضاتهم ، كما هو دأبهم دوماً .
أو بعد بعثة النبيّ الخاتم ، بالرسالة الخاتمة ، حيث كفروا به ، وكذَّبوه ، وناصبوه العداء ، وحاكوا ضده المؤامرات ، وألّبوا عليه الأحزاب ، وتعاونوا مع كل مشرك وكافر ، للقضاء عليه وعلى دعوته ورسالته .
(( بعثنا عليكم )) .
لنقف مليّاً أمام هذا اللفظ المعجز (( بعثنا )) ، فالرجال الذين قضوا على إفساد اليهود الأول ، هم رجال مبعوثون (( بعثاً )) ، ولا نستطيع أن نفهم مدلول هذه الكلمة الحقيقي ، قبل أن نتذكر الحال الذي كان عليه العرب قبل أن ( يبعثهم ) الله بالإسلام .. كيف كان وضعهم !؟ وكيف كانت بلادهم !؟ وكم كانوا يساوون عند الأمم الإخرى ، كفارس والروم !؟ وكيف كانت علاقتهم باليهود ، في المدينة وما حولها .!!؟
فلما ( بُعِثُوا )) بهذا الدين العظيم ، ودبّت فيهم حياة الإيمان والعقيدة ، صارت لهم قوّة مفاجئة ، حطَّموا بها اليهود ، واقتلعوهم من جزيرة العرب ، وأزالوا دولة الفرس من الوجود ، وأزاحوا حدود دولة بيزنطة إلى الشمال مئات الكيلومترات ...
(( عباداً لنا )) .
لا يوجد في القرآن الكريم كلمات مترادفة أبداً .. فكلمة ( عباد ) ، تعطي من المدلول غير ما تعطيه كلمة
( عبيد ) .. ولذلك ، فحيثما وردت ( عبيد ) في القرآن ، فهي تتجه إلى الكفار والمشركين ، بينما تتجه الأولى ( عباد ) دوماً إلى المؤمنين الصالحين ، وعندما ينسبهم الله تعالى إلى نفسه العليّة (( عباداً لنا )) ، فإنه يضفي عليهم من التكريم والتشريف ما يرفعهم إلى المقامات العلا ، وهذا ما ينطبق فعلاً على الصحابة الكرام ، رضوان الله عليهم جميعاً ، الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآزروه ، وناصروه ، وفدوه بمهجهم وأرواحهم ، فكافأهم الله بالنصر على اليهود وغيرهم ، ولدار الآخرة خير وأبقى ...
(( أُولي بأس شديد )) .
إن من يستعرض تاريخ الصراع العربي الإسلامي ، مع اليهود في الجزيرة العربية إبّان مبعث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ويتتبّع المواقع العسكرية التي دارت بينهم ، يلحظ ( البأس الشديد ) الذي كان يتمتّع به الصحابة الكرام في مواجهتهم لليهود ، سواء وهم يحاصرون بني قينقاع وبني النَّضير ، أو وهم يقتلون بني قريظة ، أو وهم يقتلعون يهود خيبر ، ويطردونهم من الجزيرة إلى الأبد !!!
(( فجاسوا خلال الديار )) .
هؤلاء الصحابة الكرام ، رضوان الله عليهم ، ( جاسوا ) خلال ديار اليهود ، وأزالوا إفسادهم الأول ، بعد أن حاصروا تجمعاتهم ، ودمّروا حصونهم ، وحطّموا كياناتهم ، وذبحوا رجالهم ، وسبوا نساءهم ، واقتلعوهم من جزيرة العرب إلى غير رجعة .
ولقد أشار القرآن العظيم ، في أكثر من موضع إلى هذا ( الجوس ) الإيماني خلال ديار اليهود ، فقال مثلاً :
(( وأنزل الذين كفروا من أهل الكتاب من صياصيهم ( أي حصونهم ) ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقاً تقتلون ، وتأسرون فريقاً ، وأورثكم أرضهم ، وديارهم ، وأموالهم ، وأرضاً لم تطؤوها ، وكان الله على كلِّ شيء قديراً )) الأحزاب ( 26) .
(( ثمَّ رددنا لكم الكرَّة عليهم )) .
الضمير في (لكم ) ، يعود على اليهود ، وفي (عليهم ) ، يعود على المسلمين يخبر الله تعالى اليهود ، بأنه سيعيد لهم الكرّة على العرب والمسلمين ، من جديد .. ونحن نعتقد ، بأننا نعيش اليوم ، عصر العلوِّ اليهوديِّ الثاني ، الذي بدأ مع أوائل القرن الماضي ، ولا يزال مستمرَّاً .
(( وأمددناكم بأموالٍ وبنينَ )) .
لقد قدَّم القرآن الكريم ، بأسلوبه المعجز ، مدد الأموال بالنسبة لليهود ، على مدد البنين ، وهذا الذي شهدناه بالفعل ، فلقد حصل اليهود ، منذ أواخر القرن الماضي ، وبدايات هذا القرن ، على أكوام هائلة من الأموال ، لبناء كيانهم المزعوم في فلسطين الحبيبة ، ولما تحقّق لهم ذلك ، بدأت موجات المهاجرين تفد إليهم من جميع أنحاء العالم .
(( وجعلناكم أكثر نفيراً )) .
إن من أهم مظاهر قوّة اليهود ، في إفسادهم الثاني الذي نشهده اليوم ، هي القوة المادية ، والمعنوية ، والدعائية والإعلامية ، وغيرها ، التي يحصل عليها اليهود من جميع أقطار العالم تقريباً ، والتي عبّر عنها المصطلح القرآني المعجز ، بلفظة ( نفيراً ) ، التي تعني الدعم والمساندة والتأييد ..
فالملاحظ أن اليهود اليوم ، هم أكثر ( نفيراً ) من العرب والمسلمين ، فكثيرة هي الدول ، وعلى رأسها أمريكا ، التي تؤيد اليهود وتناصرهم وتدعمهم بكل أشكال الدعم المادي والمعنوي ، وكثيرة هي الإذاعات وشبكات التلفزة ، التي تدعم المواقف اليهودية في العالم ، وكثيرة هي الصحف والمجلاّت ووسائل الإعلام الأخرى التي تعرض وجهة النظر اليهودية ، وتتبنّاها ، وتدافع عنها ، ولا تكاد تخلو دولة في العالم ، ولا هيأة ، ولا حزب ، ولا مؤسسة ، من أذرع لذلك الأخطبوط الواسع، المؤيد لليهود ، ( والنّاَفر ) معهم ، وصدق الله العظيم (( وجعلناكم أكثر نفيراً )).
(( إن أحسنتم ، أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم ، فلها )) .
يقرِّر القرآن في هذه الآية الكريمة ، حقيقة ثابتة من حقائق التاريخ وعلم الاجتماع ، وهي أن الإحسان أو الإساءة ، إنما تعود أول ما تعود على الشخص المحسن أو المسيء ذاته ، ولما كان اليهود قد أساؤوا في تاريخهم كثيراً مع الشعوب التي عايشوها ، ولم يحسنوا أبداً ، لأن الإحسان ليس من طبيعتهم ، لذلك ، فقد كان جزاؤهم من تلك الشعوب بغضاً ، واحتقاراً ، وملاحقة ، واضطهاداً ..
ولقد شهد التاريخ مصداق هذه الحقيقة الراسخة ، فاليهود شعب منبوذ تاريخيّاً ، لأنهم ما نزلوا أرضاً إلا نشروا فيها الخراب ، والدمار ، والعداوة ، والأحقاد ...
(( فإذا جاء وعد الآخرة )) .
وعد الآخرة هنا ، هو الإفساد الثاني لليهود ، والذي نرجِّح أن يكون هو الإفساد الحالي ، الذي نشهده في هذا القرن ... ترى ، ماذا قال القرآن المعجز عن هذا الإفساد اليهودي الجديد .!؟
ومن هي الجهة المرشَّحة لإزالته من الوجود .!؟ لكي نعرف الإجابة على أمثال هذه الأسئلة الهامة ، لنقف أيضاً مع هذه الوقفات القرآنية المدهشة . قال تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( فإذا جاء وعد الآخرة ، جئنا بكم لفيفاً )) .
والخطاب موجّه لليهود ، ومعناه : إذا جاء موعد إفسادكم الثاني، جئنا بكم من ديار الشتات ، إلى الأرض المقدسة ( لفيفاً ) ، ولننظر إلى هذا المعنى المدهش ، التي تعبّر عنه كلمة ( لفيفاً ) ، أي ملتفّين مجتمعين ...!
ولقد جاءت الأحداث المعاصرة ، لتفسّر هذه الآية المعجزة تفسيراً عملياً واقعيّاً .. حيث جاء اليهود من جميع أرجاء العالم ( لفيفاً ) ، على شكل مجاميع مهاجرة ، كما أن توطينهم في الأرض المحتلة كان ( لفيفاً ) أيضاً ، أي على شكل مجاميع يسمونها ( مستوطنات ) ..
(( فإذا جاء وعد الآخرة ، لِيَسُوؤوا وجوهكم ، ولِيَدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرّة ، ولِتَبِّروا ما عَلَوْا تتبيرا )) .
الخطاب ما يزال موجَّهاً لليهود ، والمعنى : أنه إذا جاء موعد إفسادكم الثاني فإن المسلمين سوف ينتصرون عليكم ، وسيغلبونكم ، ويسوؤون وجوهكم ، وسيدخلون المسجد الأقصى ، كما دخلوه أول مرَّة ، فاتحين منتصرين ، وسوف يتبِّرون ما عَلَوْا عليه وسيطروا عليه _ من منشآتكم ، وتحصيناتكم _ تتبيراً ، ويدمِّرونه تدميراً ..
وهذه هي البشارة القرآنية لأمة القرآن ، بأنها ستنتصر في النهاية على اليهود مهما عَلَوْا في الأرض وأفسدوا فيها ، وسيدخل المجاهدون من أمة محمّدٍ صلى الله عليه وسلّم ، المسجد الأقصى _ بإذن الله _ فاتحين منتصرين كما دخلوه أول مرّة ، وسيظهرون على جيش اليهود ، وعلى أسلحتهم ، ومنشآتهم ، بما فيها المنشآت النووية والبيولوجية والكيماوية ، وسوف يتبِّرون كلّ ذلك تتبيراً ، ويدمِّرونه تدميراً ، وبذلك سوف يسوؤون وجوه اليهود الكالحة ، لأنهم سيتحوّلون بعد هذا التدمير الشامل ، والتتبير الكامل ، إلى مجموعات ذليلة مشتّة في أرجاء الأرض من جديد ..
وإذا كان التدمير اليهودي الأول ، قد قام به رجالٌ مؤمنون صادقون من أصحاب النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم ، بعثهم الله ( بعثاً ) لهذه المهمّة التاريخية المقدّسة ، فهل يعيد التاريخ نفسه اليوم ، ويحقِّقُ المجاهدون المؤمنون في الأمة ، وعلى رأسهم أسود غزّة الأبطال ، موعود الله ، في تدمير اليهود ، وتحرير الأقصى ، أولى القبلتين ، وثالث الحرمين الشريفين ، ومهبط الوحي ، وموئل الرسل الكرام ، ومسرى سيد الرسل وخاتم النبيين ، سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، بعد أن يقتدوا بالجيل الأول ، ويقتفوا أثره ، ويسيروا على نهجه .!؟
هذا ما نرجوه صادقين ، ونعمل من أجله مخلصين ، والله غالب على أمره ، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون ..