الاستبداد الأسدي برعاية المؤسسات الدينية

تاريخٌ نجني أشواكه

سهير أومري

يقول الكواكبي رحمه الله في طبائعه : " ما من مستبد إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة مع الله،  ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمَة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله»..

وخَدَمَة الدين هؤلاء ليس بالضرورة أن يكونوا من جماعة معينة ، أو تيار ديني معين ، فها نحن اليوم وعلى مدى خمسين عاماً استغل نظام البعث تجمعاتنا الدينية ، فركب موجتها وأعطاها مساحة من النور والقبول مقابل ما منحته من تأييد وترسيخ ليس بالقول أو الدعاء للطاغية فحسب بل أيضاً بأصل منهجها الذي تقوم عليه  والذي ساعدها في ترسيخ الاستبداد بل جعله مطلباً من مطالب الشعب ، ومن ذلك:

1-  التوجه المتطرف من الفكر الصوفي الذي تتبناه كثير من الدعوات الصوفية ، والذي يركز على الشطحات والكرامات وتقديس الأضرحة والأولياء ، ويدعو مريديه لقضاء جل الوقت في الذكر والأوراد والحضرات  ، ويقتصر مفهوم العبادة فيه على ذلك، بل يتجاوز أحياناً ذلك إلى التقرب إلى الله بالأرواح ، وطلب القرب والمدد منها ، والثقة بقدرتها على الرزق والفرج ، بالإضافة إلى تأكيد هذا الفكر على الزهد في الدنيا على نحو يحد فيه الإنسان نفسه منسحباً من أي دورٍ فاعل أو إيجابي في الحياة ، ناهيك عن محاربة الباطل ونصرة المظلوم ، والأخذ على يد الظالم!!!! إذ وجد النظام في هذا الفكر أكبر سماد لنبتة الاستبداد التي غرسها في أرضنا فتجذرت فيها على مدى خمسة عقود مرت ،

2-  الفكر الجبري الذي تقوم عليه بعض الدعوات ، والذي ينفي عن الإنسان أية حيلة أو قدرة أمام كل واقع يكون فيه، فكل ما يحلّ بالإنسان إنما هو بتقدير الله وقضائه، وما كان قدراً من الله فمن المعصية رفضه أو محاولة تغييره مهما كان مزرياً سيئاً، ومهما كان تقصير الإنسان نفسه وإهماله وتفريطه هو السبب في وقوعه، أياً كان الأمر ما على المسلم إلا الرضا بهذا الواقع ، والصبر عليه ، فالصبر وحده الكفيل بأن يفتح باب الفرج، وكأن الفرج ينزل من السماء على القاعدين، أو يجد طريقه بين أولئك الصابرين،  الموغلين في صبرهم المذموم على تحمل السلبية والتراجع عن استعمار الأرض (من العمارة)  وإعلاء الحق فيها ، وإبعاد الذل والظلم من ربوعها،....  وجد النظام لدى هذا الفكر بيئة صالحة لتعزيز مكانة الطاغية وحكمه ، فالحاكم إنما هو قدر الله لعباده ، يأثم كل من يفكر في تغيير هذا القدر أو يرفضه ، ولو كان هذا الحاكم ليس شرعياً ، ولو كان استولى على الحكم بقوة السلاح والنار... السمع والطاعة له من طاعة الله الذي قضى واختار وأي تغيير ليس من رأس مال له إلا الصبر!!!  لأجل ذلك كانت أصوات الأئمة اولدعاة تصدح على منابر الجُمع:
" اللهم وفق عبدك هذا الذي وليته أمرنا للحكم بكتابك والسير على شريعتك"
فالحاكم – مهما كانت طريقة وصوله للحكم ، ومهما كان ظالماً سفاحاً خائناً – فإنما تولى الحكم بأمر من الله …  وبالتالي يستوجب الذين يقومون عليه حدَّ الحرابة… وغضب الله ونقمته المتمثلة في حرمانهم من نعمة الأمن والأمان ، وإذاقتهم من الجوع والخوف ما يستحقون  ، ناسين أو متناسين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"[1]

وقوله عليه الصلاة والسلام:  " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منها"[2] ،

وقوله أيضاً : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمهم الله بعقابه "[3]  ،

وقوله: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" [4] 

وقوله: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"[5].

3-  الدعوات التي تعلي من شأن العلم وتركز على طلبه وتعلُّمه والاستزادة منه ، وتنشئ لذلك الصروح التعليمية والمعاهد والجامعات وتسعى للاعتراف بها ، وقد عرفت هذه الجماعات في سوريا على مدى ثلاثين سنة فأنشات الصروح الدينية الشرعية ، وكان حرصها على استمرارها وازدهارها والاعتراف بها هدفٌ أكبر يرخص أمامه أي تنازل أو تواطؤ أو تمرير لمصالح ولو كانت غير شرعية ، وذلك بهدف الإبقاء على صروح العلم وازدهارها، فكان لهذه الجماعات ما تريد ، مقابل تأييدها للاستبداد والسير في ركابه وترسيخ جذوره وأركانه ، وتحريم مواجهته أو رفضه ، ثم تأييد بطشه وإجرامه، متناسين أن الغاية لا تبرر الوسيلة ، وأن بناء الأجيال على علم لم يراعِ فيه سدنتُه كلمة الحق وإرضاء الله سيذهب وأهله ، وأن الصرح الذي يرقى على جُرف متداعٍ لا بد أن يسقط وينهار....

4-  مجموعات الدعوة النسائية التي بدأت تُعقد في بيوت دمشق منذ سبعينيات القرن الماضي، ومن ثم اتسعت في كامل الأرض السورية ، على نحو ضيق ومحدود ، ومحاط بالرقابة الأمنية ، ثم ما لبث نظام البعث بعد أن علم منهجها الدعوي المركز على غاية عبادة الشعائر ، وعلى التوسع والانتشار ، والمقتصر على النساء دون الرجال وأن ليس لها برنامج سياسي ما لبث أن ركب موجتها أيضاً ، فباركها ، ومنحها الرضا ، والموافقة، وفتح لها أبواب المساجد لتشعر له بالامتنان ، وسمح لها باستمرار عملها في الدعوة وفي التعليم ضمن مؤسساتها التعليمية ، ثم قبض الثمن تأييداً له ، ومباركة لمنهجه وسفكه للدماء ، على نحو لا يكون فيه للمرأة أي دور في رفض الظلم ، ونصرة المظلومين ، وقول كلمة الحق ، وتغيير المنكر باليد أو قول كلمة حق عند سلطان جائر ،

5-  الفكر الديني المتشدد والمتطرف القائم على رفض البدع والمغالاة في وصف كل ما هو جديد بأنه بدعة وتقليد للكفار، والمكفر للآخرين ، والساعي لإقامة الخلافة الإسلامية على نحو تتوافق فيه كلمة (خلافة) مع الإرهاب والقتل والذبح دون بينة أو علم أو فهم، إذ عمل النظام على تزكية مثل هذه المجموعات وتمويلها وتسليحها وإطلاق يدها بغض النظر عنها تارة، وبتوجيه قياداتها تارة أخرى، وجمع أفرادها من الشباب الساذج المتحمس لتطبيق الإسلام وإعلاء رايته ليقدمهم على أنهم صورة الإسلام الإرهابي المسيء لجوهر الدين ، والمخيف لأبناء الشعب ، وخاصة الأقليات منهم لأنه سينتهك حقوقهم ، ويأسر حرياتهم ، والمقلق للمجتمع الدولي على أنه الإرهاب الموعود الذي ستكون أرضنا حاضنة له ، ومنطلقاً لعمليات القتل والتفجير التي ستتوجه إليهم إن زال النظام أو رحل....

وفي كل الجماعات الإسلامية التي ركب النظام موجتها لترسيخ استبداده كانت المركزية التي في هذه الجماعات أهم عوامل ترسيخ مركزيته –هو- وانفراده بالسلطة واستئثاره بالحكم، فالجماعات التي تخضع لشيخ واحد ، أو كان على قمة هرمها رأسٌ واحد يحظى بالاتباع والتقدير والتقديس لم يكن من عبءٍ على النظام لكسب تأييد جموعها الغفيرة وترسيخ جذور استبداده في عامة الشعب إلا تسخير هذه القيادة وإقناعها بتأييده سواء أكانت القناعة شرعية ، أو قناعة ( تقية) أي اتقاء غضب  النظام وسخطه ، أو قناعة مبنية على تسيير مصالحها ، فجموع المريدين وعامة الشعب تسير دوماً وفق رأي الشيخ أو الداعية –الأكبر- وتأتمر بأمره وتنفذ ما يقول...

وفي وقت تتطلع عيوننا إلى زوال هذا الاستبداد ورحيله نتلمس خيوط النور في كلام الكواكبي رحمه الله عندما سلط الضوء على كيفية رحيل الاستبداد  فرأى أن ذلك يحتاج إلى «اقتناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفِه، لا يتأتى إلا في زمن طويل».

ثم يتابع فيقول: « والأمة لا يحك جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والإهداء والثبات، حتى إذا ما اكفهرّت سماء عقول بنيها قيّض الله لها.. قادة أبراراً يشترون لها السعادة بشقائهم والحياة بموتهم؛ حيث يكون الله قد جعل في ذلك لذتهم، ولمثل تلك الشهادة الشريفة خلقهم، كما خلق رجال عهد الاستبداد فسّاقاً فجّاراً مهالكهم الشهوات والمثالب».

               

[1] رواه مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان - رقم 78 (1 /69).

[2] رواه أحمد في المسند (2 /190)، قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح - تحقيق المسند: (11 /49).

[3] رواه أبو داود - في السنن - كتاب الملاحم - باب الأمر والنهي - رقم: 338 (5 / 56)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح،

[4] رواه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر إسلام حمزة رضي الله عنه (3 / 195)، قال الحاكم: صحيح الإسناد،وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة - رقم 374ـ (1 /716).

[5] رواه أبو داود في السنن – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي - رقم 4344 (5 / 59) ,