الإيمان

البراء كحيل

[email protected]

الإيمان كلمةٌ عميقةٌ وشاملةٌ ومتشعِّبة ، فالإيمانُ لغةً التَّصدِيق، وشَرعاً التصديق بالقَلْب، والإِقرار باللّسان، ولابُدَّ لكلِّ إنسانٍ من شيءٍ يؤمنُ بهِ، ويختلفُ هذا الإيمانُ من شخصٍ لآخر فمنْ مؤمنٍ بالإلهِ وآخر بالمادّة وثالث بالمخلوقاتِ من إنسانٍ أو حيوان.

ومع تقدّمِ العلمِ وتطورِ الحياةِ أصبحتْ تلكَ الأفكارُ التي تتحدثُ عنِ الإيمانِ بالمادّةِ وقوانينها (الجدل) من - تناقضٍ وحركةٍ وتغيرٍ وترابط - وما إلى ذلكَ من نظرياتٍ فلسفيةٍ "مثاليَّة و مادّيّة "      بلا قيمةٍ تُذكر بعدَ أنْ أثبتَ العلمُ خطأها بل وفي كثيرٍ من الأحيانِ عكسَ ماكانت تؤمنُ به تلكَ الطائفة من قوانين المادّة وأساسِ الخليقةِ وبدايةِ الكون، كما أنَّ التعلقَ بالإلهِ المخلوقِ "إنسان، حيوان" لم يعدْ مقبولاً في عصرِ التطورِ الفكري والعلمي.

وأصبحَ من المعلومِ بالضرورةِ أنَّ ما يحيطُ بنا كبشرٍ في هذا الكونِ أو ما يقعُ تحتَ حواسّنا يمكنُ الوصولُ إلى أدقِّ تفاصيلهِ بالعلمِ والتجربةِ والبرهانِ ولو طالَ الزمان، لكنَّ العالَمَ الغيبيَّ أو ما وراءَ حوّاسنا الذي تعجزُ قوّتنا عن إدراكهِ مهما بلغتْ من علمٍ وفهمٍ ومهما تقدّم بها الزمان، هذا العالَمُ الآخرُ المتعلِّق بكلِّ ما هو غيبيّ كالكواكبِ الآخرى والسماءِ وبدءِ الخلقِ وحولَ الحياةِ والروحِ والعالَم الآخرِ وعن مصيرِ الجسدِ بعدَ الموتِ هلْ يذهبُ للفناءِ الأبدي؟ أم هناك حياةٌ أخرى سيعود إليها؟ وهلْ الرُّوحُ تفنى أم تنتقلُ إلى جسدٍ آخر أم تُحلّقُ في عالمِ الملكوت؟ وماهي الجنّة والنّارُ والحسابُ والجزاء؟ كلُّ هذه الأسئلة التي تدورُ في أخلادِ البشرِ منذُ بدءِ الخليقةِ لايُمكنُ إطلاقاً للقوّة البشريةِ أنْ تتعرفَ إليها أو تُحللها في معملٍ أو تُخضعها للتجربةِ في مُختبر، بلْ إنَّ هذه التساؤلات لا يمكنُ أنْ يُجيبَ عليها وأنْ يسقيَ عطشَ شوقنَا لمعرفتِهَا إلاَّ القوّةُ القادرةُ التي خلقتْ هذه الحياة، وهذهِ القوّة الإلهية قدْ أبدعتْ طريقةً مُميزةً سهلةً لتتواصلَ معَ منْ خلقتْ فكانَ "الوحي".

فالوحيُ هو الوسيلةُ التي يتعرَّفُ من خلالها البشرُ على كلِّ ما خفيَ عنهم وعَجزتْ قدرتهم التَّوصّلَ إليه، حيثُ تُلقي ظلمةُ الجهلِ والعجزِ رداءَها على الكونِ فيأتي الوحيُ لكي يُنيرَ العقولَ بالعلمِ والمعرفة، فالمؤمنُ المُقتنع بهِ الواثق بالناقلِ له، في راحةٍ تامّةٍ منْ شَغل تفكيرهِ بأسئلةٍ سيبقى عاجزاً عن الإجابةِ عنها، بينما المُنكرُ لهذهِ الوسيلةِ الساخر منها عاجزٌ عن إِشباعِ شهوةِ المعرفةِ لديهِ حولَ ما خفيَ عنهُ وهوَ في تفسيرها يتخبّطُ خبطَ عشواءٍ فهو أرضٌ مُجدبةٌ يصعبُ فيها استنبات أيِّ عودٍ أخضر، حيثُ لا يُغني نورُ الشمسِ ولا ضوءُ القمرِ عن نورِ الإيمان.

فوائد الإيمان:

- إنَّ المؤمنَ بأنَّ هناكَ قوّةً ربّانيةً تملكُ هذا الكونَ وتتحكمُ بهِ ليطمئنُّ قلبهُ وتهدأ جوارحهُ، لأنّه علمَ أنَّ هناك خالقاً لهُ يرعاهُ ويحفظهُ ويرزقهُ ويصرفُ عنه كلَّ سوء، بينما ذلكَ المُنكرُ لوجودِ هذا الخالقِ يكونُ في قلقٍ دائمٍ وتوترٍ مستمرٍ فهو لا يدري كيفَ يحمي نفسهُ ولا كيفَ يُحصِّلُ رزقَهُ لأنّه اعتمدَ على قوّتهِ المحدودةِ الضعيفة، وهذا هو حالُ من يؤمنُ بالإلهِ المخلوقِ فهو كذلك لا يملكُ لنفسهِ ضراَ ولا نفعاً ولا رزقاً فكيفَ يرزقُ ويحمي من يعبده؟!

أرْبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ برَأسِهِ   *** لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَلَيهِ الثَّعَالِبُ

- الإيمانُ بأنَّ وراءَ هذهِ الحياةِ الدُّنْيَوِيَّةِ المؤقتةِ البائسةِ حياةً أخرى أبديةً مُنعَّمةً لا شقاءَ فيها يجعلُ المؤمنَ يستسيغُ كلَّ شقاءٍ وبلاءٍ في هذهِ الحياةِ فهو على يقينٍ أنّ ما نشبتْ براثنُ الدنيا في جسدهِ من جراحٍ وآلامٍ سينساها حينما ينزلُ في دارِ الخلودِ حيثُ النَّعيمُ الذي لا ينتهي، بينما ذلكَ المُنكر لوجودِ حياةٍ أخرى المعتقد أنَّ الموتَ هو نهايةُ الرحلةِ فهو في همٍّ وغمٍّ حياتُه تعيسةٌ بائسةٌ لأنّه واثقٌ أنَّ ما يتعرضُ له من مصائبَ في دارِ الرزايا لن ينالَ تعويضاً عليه وأنَّ كلَّ ما يخسرهُ هنا لن يكسبَ غيرَهُ في مكانٍ آخرَ وهذا ما يدفعُ الكثيرَ منهم للانتحارِ مُعتقداً أنَّه السبيلُ الأسرعُ للخلاصِ من مشاكلِ الحياة.

ومِثلُ ذلك يكونُ فيمنْ يقعُ عليه ظلمُ الطغاةِ والمجرمينَ فإنْ كانَ مؤمناً بوجودِ محكمةٍ عُليا القاضي فيها هو الخالقُ العادلُ الذي لا يُظلمُ في محكمتهِ أحدٌ وينالُ المجرمونَ فيها عقابهم العادلَ ويَقتّصُ فيها المظلومونَ ممّن ظلمهم فهو بذلك يطمئنُّ أنَّ ما وقعَ عليه من ظلمٍ سيكونُ هناكَ يومٌ آخر ينالُ فيه الظالمونَ عقابهم ويزرعُ في قلبه الصبرَ على البلاءِ ولا ييأسُ من رحمةِ ربّه، بينما ذلك المسكينُ الذي نزلَ به ظُلمُ الظالمينَ ولا يؤمنُ بانعقادِ تلكَ المحكمةِ الرَّبّانيَّة فهو في يأسٍ وقنوطٍ لأنّه ضحيّةٌ لاذَ جلّادها بالفرارِ من غير نيلِ عقابه.

- الإيمان بالقضاءِ والقدرِ وأنَّ ما أخطأكَ لم يكنْ ليصيبكَ وما أصابكَ لم يكن ليخطأكَ يُورثُ في قلبِ المؤمنِ طمأنينةً وسلاماً فهو لا يحزنُ على الفقدِ والفراقِ ذلك الحزنَ المثبِّط للعزائمِ لانّه يعلمُ أنَّ ذلكَ مكتوبٌ عليه مُقدّرٌ له وأنَّ في ذلكَ الخيرَ وإنْ غفلَ هوَ عنْ الغايةِ فإنَّ اللهَ لا يَختارُ له إلاَّ خيراً، بينما ذلكَ المؤمن بالحظِ والصدفةِ تراهُ دائمَ القلقِ مُتعبَ الفؤادِ مضطربَ النفسِ تائهاً عن الطريق، لأنّه ظنَّ أنَّ الرِّزقَ والخيرَ والعطاءَ والسعادةَ والهناءَ كلُّ هذا يأتي صدفةً وعن طريقِ العملِ البشري والجهدِ المادِّي من غيرِ أنْ يتَّصلَ ذلكَ بالإرادةِ والقدرِ الإلهي.

- إنَّ المؤمنَ باللهِ كخالقٍ له يعيشُ في أمانٍ روحيٍّ، مُستأنساً بكتابهِ وتعاليمهِ يسيرُ وِفقَ قوانينهِ يلجأ إليه في الكُرباتِ ويسأله تحقيقَ الحاجات، ناهيكَ عن السعادةِ والحلاوةِ الَّتي تكسو روحَه عندَ مناجاةِ ربّهِ والخلوةِ به، بينما ذلكَ الذي لم يؤمنْ بالله في بحثٍ مستمرٍ عن الحقيقة، روحُه صحراء قاحلة وقلبهُ ظلامٌ حالكٌ لا يجدُ من يفرُّ إليه عندَ الملمّات مُتفلِّتٌ لا قوانينَ ضابطةً له ولاتعاليم يسيرُ على هديها.

- ترى المؤمنَ لا يهابُ الموتَ ولا يخافُهُ لأنّه يعلمُ أنّه محطةٌ عابرةٌ في رحلةِ الحياةِ يصلُ بعدها إلى بَرِّ الأمانِ ومُوقنٌ تماماً أنَّه ليسَ النِّهايةَ بلْ إنّه البابُ الذي يعبرهُ إلى الحياةِ الخالدة، بينما عديمُ الإيمانِ يهابُ الموتَ ويفرُّ منهُ لأنّه في نظرهِ النهاية لمتعهِ وملذّاتهِ وأنّه الموقفُ الأخيرُ في سفرهِ وفيه فناءُ الجسدِ والرّوحِ لذلكَ يكرهُ الموتَ لأنّه لا يرى السعادةَ إلاَّ في الدنيا أو لرّبما يخشى أنْ يكونَ هناكَ بالفعلِ دارٌ أخرى قدْ هدمها بنُكرانِ الإيمان.

وختاماً فالإيمانُ هو النّورُ الذي نهتدي بهِ والسَّبيلُ الذي نسيرُ فيه وهو الراحةُ النفسيةُ والجسديةُ والطمأنينةُ التي تسكنُ القلبَ والسَّعادةُ التي لا نجدها إلاَّ به، هو البلسمُ الذي يجعلنا نصبرُ على البلاءِ والترياقُ الذي نثْبتُ بهِ عندَ المصائب، الإيمانُ لا يعلّمنا التواكلَ، بل يجعلنا نضعُ الأمورَ في نصابِها الصحيح.