عرب وأكراد و... كوارث آتية

قبل أيّام حدّد أبو محمّد الجولاني طبيعة المنطقة وصراعاتها.فهي، عنده، كناية عن هويّات متحجّرة على نفسها، لا يأتياختلافها ممّا يصدر عنها من أفعال، بل يأتي من مجرّدكونها هويّات. ووصفُ زعيم «جبهة النصرة» انحطاط مؤكّدفي القول والتفكير، إلّا أنّه يحاول أن يواكب الانحطاط المقيمفي الواقع بفضله وأفضال أمثاله.

وما قاله الجولاني، وما يجري اليوم على أوسع نطاق، يجد لهأصولاً كثيرة، من ثورة الخميني «الإسلاميّة» في 1979 إلىقاموس صدّام حسين عن «الصفويّة» و «المجوسيّة» و«الفرس»، ناهيك عن التكوين الطائفيّ والفئويّ لنظاميالبعث في سوريّة والعراق.

لكنّ التنازع الجاري في شمال سوريّة بين ضحيّتين، أيالعرب والأكراد، آخر تعابير الانحطاط هذا، وأعلاها حتّىإشعار آخر.

والأشدّ بؤساً في هذا التنازع ندرة الأكراد الذين يؤكّدونحصول تطهير عرقيّ، وندرة العرب الذين ينفونه، وقلّة الأكرادالقابلين بالتسميات العربيّة للأمكنة المشتركة، وقلّة العربالمتسامحين مع التسميات الكرديّة لها.

وهنا أيضاً قد يُقَرّ بدور كبير أسّسته سنوات الاستبدادالمديدة، كبتاً للجماعات وحؤولاً دون النقاش العامّ، فضلاً عنتعديلات قسريّة في الواقع والطبيعة. لكنْ ما من شيءيشجّع، في ما يهبّ علينا من ثقافة سياسيّة، ومن تعبيراتعنها يحملها التصريح والبيان و «الفايسبوك»، علىاستبعاد الأسوأ، أو عدم تصديق الأسوأ.

فكما يصرّ الأكثر طائفيّة بين اللبنانيّين على تلك المزاوجةالفولكلوريّة بين الهلال والصليب، يحضر تعبير «الإخوةالعرب» أو «الإخوة الأكراد» مقدّمةً لمواقف، وربّما أعمال، لاتحتمل الآخرين ولو في الصين.

وهذا هو الأساس قبل أن تؤجّجه مواقف إقليميّة أو دوليّةيصعب ألّا تسعى إلى تأجيجه. فعرب سورية عاشوا، حتّىالتشبّع، ثقافة الأمّة والقوميّة من دون دولة، وها هم أكرادهايتبعونهم خطوةً خطوةً على طريق الزعم القوميّ الفارغ علىرغم انتفاخه، والذي يتأدّى عن استحالته تعاظم الولاءلجماعة لا تجد معناها إلّا في كراهيّة الجماعات الأخرى،وفي نبش كتب التاريخ، الفعليّ منها والخرافيّ، لتبرير هذهالكراهيّة وشحذها.

يحصل هذا فيما عقولنا مخدّرة وساهية عن الأسئلة الحارقةوالراهنة حول أيّة سورية ممكنة وعادلة للمستقبل، وأيّةعلاقات ممكنة وعادلة بين جماعاتها، وكيف التفكير بصلة بينالدول الممكنة والبديلة وصيغة شرق أوسطيّة لا تُحلّ المسألةالكرديّة، وكذلك الفلسطينيّة، من دونها.

وإذا جاز القول، ضدّاً على النزعة الاستبداليّة السائدة، أنّالكارثة السوريّة الراهنة كارثة الأكثريّة التي تُُضرب بالبراميلوتُدمّر مدنها، كما هي في الوقت نفسه، كارثة الأقلّيّات التيتتعرّض للتطهير العرقيّ، جاز أن يقال، بالمعنى نفسه، إنّالطرفين العربيّ والكرديّ في شمال سورية شريكا الحقّنفسه بمقدار ما هما شريكا تبديد هذا الحقّ بالباطل نفسه.

وليس من دون دلالة أن تنفجر المشكلة هذه فيما تُستكملهزيمة الثورة السوريّة على يد الحرب الأهليّة المتضامنة معتفاقم البُعد الإقليميّ للنزاع. وفي الإطار هذا، سيبقى لافتاًأنّ الجماعات لم تعد تطلب حقوقها من النظام بمقدار ماباتت تطلبها من جماعات أخرى يُفترض أنّها شريكتها فيالمعاناة التي تسبّب بها النظام إيّاه.

وأغلب الظنّ أنّ الآتي سيكون أعظم، طحناً للعرب والأكراد،ولسواهم، أوَقَفوا مع هذا أم وقفوا مع ذاك، لأنّهم إنّما يقفونمع أسوأ مواضيهم كما صاغها أبو محمّد الجولاني.