وجاء دور الإسلام 9، أغرب انقلاب في تاريخ البشريّة
ولم يزل الرسول r يربيهم تربية دقيقة عميقة .
ولم يزل القرآن يسمو بنفوسهم ويذكي جمرة قلوبهم .
ولم تزل مجالس الرسول r تزيدهم رسوخاً في الدين ، وعزوفاً عن الشهوات ، وتفانياً في سبيل المرضاة ، وحنيناً إلى الجنة ، وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ومحاسبة للنفس .
يطيعون الرسل في المنشط والمكره ، وينفرون في سبيل الله خفافاً وثقالاً .
قد خرجوا مع الرسول للقتال سبعاً وعشرين مرة في عشر سنين .
وخرجوا بأمره لقتال العدو أكثر من مائة مرة .
فهان عليهم التخلي عن الدنيا ، وهانت عليهم رزيئة أولادهم ونسائهم في نفوسهم .
ونزلت الآيات بكثير مما لم يألفوه ولم يتعودوه ، وبكل ما يشق على النفس إتيانه في المال والنفس والولد والعشيرة ، فنشطوا وخفوا لامتثال أمرها . وانحلت العقدة الكبرى- عقدة الشرك والكفر- فانحلت العقد كلها وجاهدهم الرسول جهاده الأول ، فلم يحتج إلى جهاد مستأنف لكل أمر ونهي .
وانتصر الإسلام على الجاهلية في المعركة الأولى ( معركة العقيدة ) ، فكان النصر حليفه في كل معركة بعد ذلك ..
ودخلوا في السلم كافة بقلوبهم وجوارحهم وأرواحهم ، لا يشاقون الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى ، ولا يكون لهم الخيرة من أمرهم ، من بعد ما أمر أو نهى .
لقد حدّثوا الرسول عما كانوا يختانون به أنفسهم ، وعرضوا أجسادهم للعذاب الشديد إذا فرطت منهم زلة استوجبت الحد...
ولقد نزل تحريم الخمر والكئوس المتدفقة على راحاتهم ، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة ، والأكباد المتقدة ، وكسرت دنان الخمر فسالت في سكك المدينة .
حتى إذا خرج حظ الشيطان من نفوسهم ، بل خرج حظ نفوسهم من أنفسهم ، وأنصفوا من أنفسهم إنصافهم من غيرهم ، وأصبحوا في الدنيا رجال الآخرة، وفي اليوم رجال الغد .
لا تجزعهم مصيبة ، ولا تبطرهم نعمة ، ولا يشغلهم فقر ، ولا يطغيهم غنى ، ولا تلهيهم تجارة ، ولا تستخفهم قوة ، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً. .
وأصبحوا للناس القسطاس المستقيم ، قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين .
عند ذلك ، وطّأ الله لهم أكناف الأرض ، وأصبحوا عصمة للبشرية ، ووقاية للإنسانيّة ، وداعية إلى دين الله .
واستخلفهم الرسول r في عمله ولحق بالرفيق الأعلى قرير العين من أمته ورسالته .
لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه محمد r في نفوس المسلمين ، وبواسطتهم في المجتمع الإنساني ، أغرب ما في تاريخ البشر ، وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء : كان غريباً في سرعته ، وكان غريباً في عمقه ، وكان غريباً في سعته وشموله ، وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم .
فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة ، ولم يكن لغزاً من الألغاز . فما أجدر الأمة اليوم أن تدرس هذا الانقلاب وتدرّسه لأبنائها ، وما أحوجها للتعرف دروسه وعبره ، والتعرف على مدى تأثيره في المجتمع الإنساني والتاريخ البشري كلّه ...!!!