وجاء دور الإسلام 8، التربية الإيمانيّة
أما رسول الله r فقد عكف عليهم ، يغذِّي أرواحهم بالقرآن ، ويربي نفوسهم بالإيمان ، ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم ، عن طهارة بدن ، وخشوع قلب ، وخضوع جسم ، وحضور عقل ، فيزدادون كل يوم سمو روح ، ونقاء قلب ، ونظافة خلق ، وتحرراً من سلطان الماديات ، ومقاومة للشهوات ، ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ...
ويأخذهم بالصبر على الأذى ، والصفح الجميل ، وقهر النفس ...
لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف ، وهم من أمة ، من أيامها حرب بسوس وداحس والغبراء ، وما يوم الفجار ببعيد .
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان يسير بهم في خطّة محكمة ، ومراحل متدرّجة ، فهذّب طبيعتهم الحربية ، وشذّب نخوتهم العربية ، وتلى عليهم قول الله تعالى لهم : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } فانقادوا لأمره ، وكفوا أيديهم ، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن ، وفي غير عجز ، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف ، مع كثرة الدواعي الطبيعية إلى ذلك وقوتها ، وذلك غاية ما روي في التاريخ من الطاعة والخضوع ، حتى إذا تعدت قريش في الطغيان وبلغ السيل الزبى أذن الله لرسوله ولأصحابه بالهجرة : وهاجروا إلى يثرب وقد سبقهم إليها الإسلام.
والتقى في موطنهم الجديد أهل مكة بأهل يثرب ، لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد . فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ . وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بُعاث . ولا تزال سيوفهم تقطر دماً . فألَّف الإسلام بين قلوبهم . ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم ، ولكنّ الله ألف بينهم . ثم آخى رسول الله r بينهم وبين المهاجرين فكانت أخوة في العقيدة تزري بأخوة الدم والنسب . وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء .
كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ، ومادة للإسلام ، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده ، وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها . لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار :
{ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } الأنفال 73.